فخالقُ السماواتِ والأرضِ لا يَقْدِرُ أحدٌ أن يُدِلُّ عليه بعظمةٍ ولا جاهٍ، ولا يخافُ من أحدٍ أن يُدَبِّرَ عليه شيئًا؛ وَلِذَا يقولُ مُخَاطِبًا لخلقِه: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: آية ٢٥٥] الجوابُ: لا أحدَ يمكنُ أن يتجاسرَ على ذلك أبدًا؛ لأن هذا مَلِكُ الملوكِ الذي لا يخافُ من أحدٍ، ولا يمكن أحدا أن يُدَبِّرَ شيئًا ضِدَّهُ؛ وَلِذَا قَالَ: ﴿وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ [سبا: آية ٢٣].
فالحاصلُ أن الشفاعةَ يومَ القيامةِ قِسْمَانِ: قِسْمٌ مَقْبُولٌ، وقسمٌ مردودٌ، ولقبولِه شَرْطَانِ إذا حَصَلاَ كانت الشفاعةُ شرعيةً واقعةً، وإذا فُقِدَا أو واحدٌ منهما فالشفاعةُ ممنوعةٌ شرعًا. أما هذان الأصلانِ:
فأحدُهما: أن يكونَ المشفوعُ له مُسْلِمًا؛ لأن الله (جل وعلا) لا يقبلُ شفاعةً لكافرٍ أَلْبَتَّةَ، كما قَالَ: ﴿فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾ [المدثر: آية ٤٨] ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾ [الأنبياء: آية ٢٨] مع أنه يقولُ: ﴿وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ [الزمر: آية ٧].
الثاني: أن يأذنَ خالقُ السماواتِ والأرضِ (جل وعلا)، فإذا أَذِنَ اللَّهُ في الشفاعةِ، وكان المشفوعُ له مُؤْمِنًا. بهذين الشَّرْطَيْنِ تكونُ شفاعةً مقبولةً واقعةً في الشرعِ، دَلَّ عليها كتابُ اللَّهِ وسنةُ نَبِيِّهِ.
ومما يُوَضِّحُ هذا المعنَى: أن سيدَ الخلائقِ على الإطلاقِ - نبيَّنا محمدًا صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه - عِنْدَهُ وعدٌ صادقٌ من اللَّهِ في دارِ الدنيا، كما يأتيكم في تفسيرِ قولِه: ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾ [الإسراء: آية ٧٩] عنده وعدٌ من الله بالشفاعةِ الكبرى، وهو عَالِمٌ أن اللَّهَ لا يُخْلِفُ وعدَه، فإذا وقعَ الناسُ في مأزقٍ يومَ القيامةِ، وجاؤوا إلى آدمَ، وقال كلامَه المعروفَ، ثم جاؤوا إلى
لا يُخْلِفُ وعدَه أبدا؛ لأن اللَّهَ يقولُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ وإن أَوْعَدَ بشرٍّ فإيعادُه بالشرِّ له حَالَتَانِ:
تَارَةً يكونُ وعيدًا للكفارِ. وهذا لا يُبَدَّلُ بحالٍ، ويدلُّ عليه قولُه هنا: ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ﴾؛ لأن الكلامَ في الكفارِ الذين يهددُهم اللَّهُ. أي: ما يُوعِدُكُمُ اللَّهُ من العذابِ وَاقِعٌ لاَ محالةَ، يدلُّ عليه قولُه: ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ كما سَنُفَسِّرُهُ، وقد صَرَّحَ اللَّهُ في آياتٍ من كتابِه أن وعيدَه للكفارِ لاَ يُخْلَفُ حيث قال فِي سورةِ (ق): ﴿قَالَ لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ (٢٨) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ﴾ [ق: الآيتان ٢٨، ٢٩] والمرادُ به على التحقيقِ: ما وُعِدَ الكفارُ به من عذابِ النارِ. وقال جل وعلا: ﴿كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ﴾ [ق: الآية ١٤] حَقَّ: معناه ثَبَتَ وَوَجَبَ، وما قال اللَّهُ فيه: «إِنَّهُ ثَبَتَ وَوَجَبَ» لا يمكنُ أن يتخلفَ، و (الفاءُ) في قولِه: ﴿كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ﴾ من حروفِ التعليلِ، وقد تقررَ في الأصولِ في (مسلكِ النصِّ) وفي (مسلكِ الإيماءِ والتنبيهِ) أن (الفاءَ) من حروفِ التعليلِ (١) كما تقولُ: «سَهَا فَسَجَدَ»، أي: لِعِلَّةِ سَهْوِهِ. و «سَرَقَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ» أي: لِعِلَّةِ سرقتِه. و «أَسَاءَ فَأُدِّبَ». أي: لإساءتِه. ﴿كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ﴾ أي: وَجَبَ الوعيدُ لأجلِ تكذيبِ الرسلِ، ونظيرُه قولُه في (ص): ﴿إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ﴾ [ص: الآية ١٤].
أما الوعيدُ الذي يجوزُ أن يُخْلَفَ: هو وعيدُ اللَّهِ لِعُصَاةِ المسلمين، فإن اللَّهَ أَوْعَدَ مُرْتَكِبِي الذنوبِ الكبائرِ بأنه يُعَذِّبُهُمْ، وهذا
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة البقرة.
عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (٣٩)} [هود: الآيتان ٣٨، ٣٩] وهذا معنى اتخاذهم الدين لهواً ولعباً.
﴿وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ [الأعراف: آية ٥١] أي: خدعتهم الدنيا بِلَذَائِذِهَا ونعيمها، وظنوا أنها غير زائلة، وأنها لا جزاء بعدها، فألهتهم لذاتها -والعياذ بالله- والانهماك فيها حتى ماتوا وهم كفار.
وهذه الآيات ينبغي للمسلم أن يعتبر بها، ويأخذ منها عظات كريمة، فيعلم أن يوم القيامة إنما هو بحسب الأعمال، هنالك قوم قصرت بهم أعمالهم تقصيراً شديداً فأُدخلوا دركات النار، وقوم قصرت بهم أعمالهم تقصيراً غير شديد فحُبسوا عن الجنة، وقوم لم تُقصر بهم أعمالهم فأُدخلوا الجنة، ومن بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه، كما ثبت عن النبي (١)
صلى الله عليه وسلم. والمراد من قصص هذه الأخبار أن نعتبر في دار الدنيا، ونعلم أن الأمور بحسب الأعمال، وأن من قصّر به عمله كان في دركات النار، ومن قصر به عمله تقصيراً أخف من ذلك حُبس عن الجنة إلى ما شاء الله. فعلينا أن نحذر من التقصير في طاعة الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه؛ لأن التقصير قد يجر إلى دركات النار، وقد يجر أيضاً إلى الحبس عن الجنة. فعلى المسلم أن يحذر من هذا ومن هذا، وأن يطيع الله ويبالغ في مرضاة الله بامتثال أوامر الله واجتناب نواهي الله بحيث لا يتخلف عن أمرٍ أمره الله به، ولا يوجد عند أمر نهاه الله عنه؛ ليدخل الجنة، ولا يدخل النار، ولا يُحبس عن الجنة بسيئاته.
_________
(١) جزء من حديث أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن. حديث رقم: (٢٦٩٩)، (٤/ ٢٠٧٤) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
واعملوا بما فيه ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي: لأجل أن تتقوا بذلك سخط الله وعذابه؛ لأن ما يُتقى به سخط الله وعذابه هو معرفة أوامره ونواهيه، واجتناب النواهي وامتثال الأوامر كما هو معروف. وهذا معنى قوله: ﴿وَاذكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣)﴾ [الأعراف: الآيتان ١٧٢، ١٧٣].
واذكر يا نَبِيَّ اللهِ ﴿وَإِذْ أَخَذَ﴾ حِينَ أَخَذ ﴿رَبُّكَ﴾ جلّ وعلا ﴿رَبُّكَ﴾ معناه: خالقك وسيدك ومدبر شؤونك؛ والرب يطلق في لغة العرب على عشرة معانٍ، منها (١): السيد الذي يدبّر الشؤون ويسوس الأمور، تقول العرب: فلان رب هذه البلد؛ أي: سيدها الذي يدبر شؤونها ويسوس أمورها، ومنه قول علقمة بن عَبَدة التميمي (٢):
وَكُنْتُ امْرَأً أَفْضَتْ إِلَيْكَ رَبَابَتي | وقَبْلَكَ رَبَّتْني فَضِعْتُ ربُوبُ |
وقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ﴾ من أولاد أبينا آدم. وقوله: ﴿مِن ظُهُورِهِمْ﴾ بدل من ﴿مِن بَنِي آدَمَ﴾ بدل بعضٍ من كل.
وقوله: ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ قرأ هذا الحرف ابن كثير والكوفيون -أعني عاصمًا، وحمزة، والكسائي-: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ بصيغة الإفراد، والذرية بالإفراد تعم، وقرأه نافع،
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.
الثالث: أنهم بدءوكم بالقتال.
فهذه الأسباب حَرِيَّةٌ بأن يُقاتَل الذين اقترفوها وجاءوا بها. وهذا معنى قوله: ﴿أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً﴾.
قد قَدَّمْنَا مِراراً (١) أن (القوم) اسم جمع لا واحد له من لفظه، وأنه في الوضع العربي يختص بالذكور دون الإناث، بدليل قوله: ﴿لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ﴾ ثم قال: ﴿وَلاَ نِسَاء مِّن نِّسَاء﴾ [الحجرات: آية ١١] وأن المرأة ربما دَخَلَتْ فِي اسْمِ (القَوْم) بحكم التَّبَع إذا اقْتَرَنَ بما يدل عليه، كقوله: ﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ (٤٣)﴾ [النمل: آية ٤٣].
وقال بعض العلماء: سُمِّيَ قوم الرجل قوماً؛ لأنه لا قوام للإنسان إلا جماعة ينضم إليها ويدخل في جملتها. وهذا معنى قوله: ﴿قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ﴾ أي: نقضوا عهودهم، أو نقضوا العهود وأخلُّوا بالأيمان التي حلفوها تَوْكيداً للعهود.
﴿نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ﴾ [التوبة: آية ١٣] الجَمَاهِير على أنَّ هَؤُلاَءِ الذين هَمّوا بإخراج الرسول هُمْ كُفَّارُ مَكَّةَ (٢) حين دَبَّرُوا لَهُ المَكِيدَة التي قَدَّمْنَاها مُوضَّحَة في سورة الأنفال (٣) في قوله: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ﴾ [الأنفال: آية ٣٠] والله (جل وعلا) نص في بعض الآيات أنهُمْ أَخْرَجُوهُ بالفِعْل؛ لأنهم في الحقيقة اضطروه وألجئُوهُ (صلوات الله وسلامه عليه) إلى
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٨٠) من سورة الأنعام.
(٢) انظر: القرطبي (٨/ ٨٦)، الأضواء (٢/ ٤٣٠).
(٣) مضى عند تفسير الآية (٣٠) من سورة الأنفال.