نوحٍ، ثم إبراهيمَ، ثم موسى، ثم عيسى، حتى إذا بَلَغُوا النبيَّ - ﷺ - قال لهم: «أَنَا لَهَا» (١).
لأنه عَالِمٌ بالوعدِ الصادقِ من خالقِ السماواتِ والأرضِ، ومع علمِه بالوعدِ، وَعِظَمِ جاهِه، ومكانتِه عندَ اللَّهِ، لم يَتَجَرَّأْ أن يشفعَ من غيرِ إِذْنٍ؛ بل خَرَّ سَاجِدًا، فَأَلْهَمَهُ اللَّهُ (جل وعلا) من المحامدِ ما لم يُلْهِمْهُ لأحدٍ قَبْلَهُ ولاَ بعدَه، ولم يَزَلْ ساجدًا حتى قيلَ له: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّع. هذا مصداقٌ لقولِه: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: آية ٥٥] الجوابُ: لاَ أَحَدَ، فالشفاعةُ للكفارِ ممنوعةٌ بتاتًا، والشفاعةُ بغيرِ إذنِ اللَّهِ
_________
(١) حديث الشفاعة رواه عن النبي - ﷺ - جماعة من الصحابة (رضي الله عنهم)، منهم:
١ - أبو هريرة، عند البخاري في الأنبياء، باب قول الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ﴾ حديث رقم (٣٣٤٠)، (٦/ ٣٧١)، وطرقه (٣٣٦١، ٤٧١٢).
ومسلم في الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها. حديث رقم (١٩٤)، (١/ ١٨٤).
٢ - أنس، عند البخاري في التوحيد، باب قول الله تعالى: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ حديث رقم (٧٤١٠)، (١٣/ ٣٩٢)، ومسلم في الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها. حديث رقم (١٩٣)، (١/ ١٨٠).
٣ - أبو هريرة وحذيفة، عند مسلم (الموضع السابق) حديث رقم (١٩٥)، (١/ ١٨٦).
٤ - أبو بكر الصديق، عند أحمد (١/ ٤)، والدارمي في الرد على الجهمية ص ٥٧، ٨٨، وابن أبي عاصم في السنة (٧٥١، ٨١٢)، وأبي يعلى (٥٦، ٥٧)، وابن حبان (الإحسان (٨/ ١٣٤)، والدولابي في الكنى (٢/ ١٥٥).
٥ - ابن عباس، عند أحمد (١/ ٢٨١، ٢٩٥)، وأبي يعلى (٤/ ٢١٣)، والطيالسي ص ٣٥٣.
الوعيدُ إن شاءَ اللَّهُ أَنْفَذَهُ، وإن شَاءَ اللَّهُ عَفَا عَنْ أَهْلِهِ. وَصَرَّحَ اللَّهُ بهذا في قولِه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: الآية ٤٨] فَجَعَلَ غيرَ الشركِ من الكبائرِ تحتَ مشيئتِه، إن شاء عَفَا، وإن شَاءَ عَذَّبَ. هذا هو تحقيقُ المقامِ في الوعدِ والوعيدِ (١).
قولُه هنا: ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ﴾ أي: ما يُوعَدُ به من ثوابٍ وخيرٍ فهو آتٍ لاَ محالةَ، وما يُوعَدُ به الكفارُ المكذبونَ للرسلِ من العذابِ والتنكيلِ فهو آتٍ لاَ محالةَ.
ثم قال: ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ المعجزونَ: جمعُ تصحيحٍ للمعجزِ، والمعجزُ: اسمُ فاعلِ الإعجازِ، ومفعولُ اسمِ الفاعلِ هنا محذوفٌ. والمعنَى: وما أنتم بمعجزينَ رَبَّكُمْ. أي: لستُم بِفَائِتِيهِ حتى تُعْجِزُوهُ فيعجزَ عن التمكنِ منكم وتعذيبِكم، بل أنتم في قبضةِ يدِه، وتحتَ قهرِه وسلطانِه، لا تُعْجِزُونَهُ ولا تَفُوتُونَهُ، بل أَمْرُهُ وَاقِعٌ فيكم، نافذٌ فيكم، ليس لكم مَفَرٌّ وَلاَ مَلْجَأٌ، ولا يمكنُ أن تُعجزوا رَبَّكُمْ وتفوتوه حتى لا يُعَذِّبَكُمْ. فَعُرِفَ من هذا أن المفعولَ محذوفٌ، العربُ تقول: «طَلَبَ فلانًا فَأَعْجَزَهُ». أي: فاتَه ولم يَقْدِرْ على إدراكِه، واللَّهُ يقولُ: ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ لا تُعْجِزُونَنِي فتسبقونني حتى لا أُنَفِّذَ فيكم ما أَوْعَدْتُكُمْ به، بل أَنْتُمْ تحتَ قَهْرِي وسلطانِي، وفي قبضةِ يدِي، وَسَأُنَفِّذُ فيكم ما أشاءُ من وَعِيدِي الذي قلتُ: ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ﴾ وهذا معنَى قولِه: ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾.
_________
(١) انظر: مجموع الفتاوى (١١/ ٦٤٦ - ٦٤٩).
هذا يلزم، كذلك لا يتخذ الدين هُزُؤاً ولعباً؛ لأن الذين يتخذون الدين هُزُؤًا ولعباً سيجدون غِبَّ ذلك. وأتباع هؤلاء كثروا في هذا الزمان والعياذ بالله؛ لأن كل نزعة كفرية تتجدد لها أغصان بعروقها القديمة، وهذه النزعة متجددة الآن تجدداً كثيراً؛ لأنك تجد كثيراً من الشباب في جميع أقطار المعمورة ممن ينتسبون إلى الإسلام يتخذون الدين هزؤاً ولعباً، ويتمسخرون من الذي يصلي، ومن الذي يتسم بسمت الأنبياء، فيعفي ذقنه ولا يحلقه، وربما قلدوا عليه التيس استهزاءً واستحقاراً، فهؤلاء ينالهم من وعيد الذين اتخذوا دينهم هزؤاً ولعباً بقدر ما ارتكبوا، فيجب على كل مسلم شابّاً كان أو غيره أن لا يتخذ الدين هزواً ولعباً، وألا يتخذ الدين لهواً ولعباً، فلا يسخر من الدين، ولا يسخر من أهله، ولا يسخر من حملة الدين، ولا من العلماء، ولا من هيئاتهم. مع أن الذين يسخرون ذوقهم معكوس، وضمائرهم منطمسة؛ لأن هذا الذي يسخرون منه هو الشيء الذي ينبغي، وهم في الحالة التي يُسخر منها، كما في أمثال العرب: (رمتني بدائها وانسَلَّت) الآن إذا رأيتَ رجلاً ذقنه مثل ذقني، له لحية بيضاء موفورة لم تقطع منها شعرة، إذا سافر ورآه صبيان المسلمين وشبابهم في الخارج ينظرون إليه نظرة ازدراء واحتقار، كأنه في أعينهم تيس، لا يفهم عن الدنيا، ولا يساير ركب الحضارة، مع أنه في الواقع أن الرجل المعفي ذقنه المتسم بسمة الأنبياء هو الرجل العاقل الآخذ بالسمت الكريم؛ لأن هذه اللحية هي أعظم ما يتميز به الذكر عن الأنثى، فحلقها والفرار منها فرار من كرم الرجولة وشرف الذكورة إلى أنوثة الخنوثة، يريد أن يتشبه بالأنثى!! وهذا شرف وكرم وجمال في وجهه، وميزة لفحولته وذكورته عن خنوثة الأنثى
وأبو عمرو، وابن عامر: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِم﴾ بجمع السلامة. وكلتاهما قراءة صحيحة متواترة ومعناها صحيح (١).
﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ اختلف العلماء في معنى هذا الأخذ -أخذ الذرية- من ظهور بني آدم على قولين (٢): فذهبت جماعة من المفسِّرِين إلى أنّ مَعْنَى أخْذِهِم من ظهور بني آدم هو وجودهم قَرْنًا بعد قَرْنٍ، وجيلاً بعد جِيل، على طريق التناسل، والمعنى: أنّ اللهَ خلق بني آدم وخلق من هؤلاء ذرية، فينقضي هذا القرن ويخلق من هذا القرن ذرية كما قال: ﴿كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾ [الأنعام: آية ١٣٣] وعلى هذا القول فالأخذ من ظهورهم: هو استخراج النُّطَف من أصلابهم على طريق التناسل قرنًا بعد قرن. وعلى هذا القول فقوله: ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾ الذين قالوا هذا القول قالوا: أشهدهم على أنفسهم بلسان الحال لا بلسان المقال؛ لأن الله نصب لهم من الأدلة الواضحة الظاهرة على كمال قدرته وأنه المعبود وحْدَه ما لا يُحْتَاج معه إلى شيء ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ يعني: أَثْبَتَ لهم ربوبيته واستحقاقه للعبادة بما ركز فيهم من الفِطْرَة والعقول، وما نصب لهم من الأدِلَّة، وعلى هذا القول فقوله: ﴿قَالُواْ بَلَى﴾ قالوا ذلك أيضًا بلسان حالهم، والعرب قد تطلق المقال على مقال لسان الحال، قال بعض العلماء: منه قوله تعالى:
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢١٦.
(٢) انظر: ابن جرير (١٣/ ٢٢٢)، ابن كثير (٢/ ٢٦١ - ٢٦٤)، القرطبي (٧/ ٣١٤)، أحكام أهل الذمة (٢/ ٥٢٣)، فما بعدها، شرح الطحاوية (٣٠٢ - ٣١٦)، الروح لابن القيم (٢٤٤ - ٢٦٥)، الأضواء (٢/ ٣٣٥).
الخروج؛ لأن عمه أبا طالب ما دام حيّاً كان يكفّهُمْ عنه، ويرْدَعُهم عنه، ولا يقدرون أن يبلغوا منه المبلغ الذي بلغوا بعد أن مات، وكان يقول له (١):
واللهِ لنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بجَمْعِهِم... حَتَّى أُوسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفينَا...
اصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَة..................................
فلما توفي أبو طالب ضيّقوا عليه حتى خرج (صلوات الله وسلامه عليه) ودخل هو وصاحبه الصديق في الغار كما ستأتي قصة ذلك مُفَصَّلة في هذه السورة الكريمة -سورة براءة- حيث نصّ الله عليه فيها. وقد قال جل وعلا: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ﴾ [محمد: آية ١٣] فصرَّح بأنهم أخْرَجُوه. وقال (جلّ وعلا): ﴿يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ﴾ [الممتحنة: آية ١] وقال: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ [الحج: آية ٤٠] وقال تعالى: ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا﴾ [الإسراء: آية ٧٦] إلى غير ذلك من الآيات.
والرسول هو سيدنا محمد (صلوات الله وسلامه عليه). وأصل الرسول (فَعُول) بمعنى (مُفْعَل) رَسُول بمعنى مُرْسَل. وأصل الرسول مصدر، إتيان المصادر على وزن (الفعول) مسموع بقلة، كرسول بمعنى الرسالة، وقبول، وولوع، في أوزان قليلة (٢). والتحقيق أن أصل الرسول مصدر، ومن إطلاقه مصدراً قول الشاعر (٣):
_________
(١) الأبيات في البداية والنهاية (٣/ ٤٢)، ولفظ البيت الثاني هناك:

فامض لأمرك ما عليك غضاضة أَبْشرْ وقَرَّ بذاكَ منك عيونا
(٢) مضى عند تفسير الآية (١٣٠) من سورة الأنعام.
(٣) السابق.


الصفحة التالية
Icon