ممنوعةٌ بتاتًا. وقد دَلَّتِ السنةُ الصحيحةُ على أن الشفاعةَ للكفارِ خرج منها فردٌ واحدٌ لاَ نظيرَ له، وهو ما ثَبَتَ في الصحيحين: أن شفاعةَ النبيِّ - ﷺ - نَفَعَتْ أَبَا طَالِبٍ، مع أنه ماتَ كافرًا. إلا أن هذا النفعَ لهذا الكافرِ الذي هو وحيدٌ لم يكن له نَظِيرٌ، إنما كان في نَقْلٍ من موضعٍ من النارِ إلى موضعٍ آخَرَ أَخَفَّ منها؛ وَلِذَا ثَبَتَ في الصحيحين: «لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ، لَهُ نَعْلاَنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ» (١). والعياذُ بالله جل وعلا.
فهذه شفاعةٌ خاصةٌ نَفَعَ اللَّهُ بها كافرًا نفعًا مخصوصًا، وهو نقلُه من مَحَلٍّ من النارِ إلى مَحَلٍّ أخفَّ منه من النارِ والعياذُ بالله جل وعلا.
وهذا معنى قولِه: ﴿لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ﴾ الشفيعُ المنفيُّ هنا: هو الشفيعُ الذي يشفعُ لكافرٍ، أو يشفعُ بغيرِ إِذْنِ اللَّهِ (جل وعلا). أما الذي يشفعُ بإذنِ اللَّهِ للمؤمنِ فهذا ثابتٌ كِتَابًا وَسُنَّةً.
وأنواعُ الشفاعةِ كثيرةٌ، وليست مخصوصةً بالأنبياءِ، بل يشفعُ الصالحونَ والمؤمنونَ وغيرُهم مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ أن يُشَفِّعَهُ فيمن شَاءَ من خَلْقِهِ.
قولُه: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ في (لعل) هنا وَجْهَانِ بَيَّنَّاهُمَا:
أحدُهما: أنها للتعليلِ (٢)، وعليه فالمعلل هو الإنذارُ المذكورُ في قولِه: ﴿وَأَنذِرْ بِهِ﴾ أي: أَنْذِرِ الذين يخافونَ، أَنْذِرْهُمْ لأَجْلِ أن يتقوا. أي: لأَجْلِ أَنْ يُؤَثِّرَ فيهم ذلك الإنذارُ ويخوفهم فيتقونَ اللَّهَ جل وعلا.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة البقرة.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٢) من سورة البقرة.
﴿قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنعام: الآية ١٣٥].
قرأ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ، ما عدا شعبةَ عن عاصمٍ: ﴿اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾ بالإفرادِ، وقرأه شعبةُ - وحدَه - عن عاصمٍ: ﴿اعملوا على مكانتكم﴾ بمدّ النونِ جمعِ مكانةٍ. وكذلك قرأَ شعبةُ في جميعِ القرآنِ. وقرأ عامةُ القراءِ أيضًا ما عدا حمزةَ والكسائيَّ: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ﴾ بالتاءِ الفوقيةِ في قولِه: ﴿مَنْ تَكُونُ﴾ وقرأ حمزةُ والكسائيُّ: ﴿فسوف تعلمون من يَكونُ له عاقبةُ الدار﴾ (١).
ولا إشكالَ في قراءةِ شعبةَ، ولاَ في قراءةِ حمزةَ والكسائيِّ؛ لأن قراءةَ شعبةَ أن كُلَّ واحدٍ له مكانةٌ يَعْمَلُ عليها، فَجُمِعَتِ المكاناتُ اعتبارًا بتعددِ المخاطَبين. وعلى قراءةِ الجمهورِ: ﴿اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾ فالمكانةُ أُضِيفَتْ إلى مُعَرَّفٍ وهي مفردٌ فَعَمَّتْ جميعَ المكاناتِ؛ لأن المقررَ في الأصولِ: أن المفردَ إذا أُضِيفَ إلى مُعَرَّفٍ صَارَ صيغةَ عمومٍ يشملُ جميعَ الأفرادِ (٢)، كقولِه: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ [النحل: الآية ١٨] أي: نِعَمَ اللَّهِ. وقوله: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ [النور: الآية ٦٣] أي: عن أوامرِه ﴿إِنَّ هَؤُلاَءِ ضَيْفِي﴾ [الحجر: الآية ٦٨] أي: ضُيُوفِي كما هو معروفٌ. فَكِلْتَا القراءتين
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص ٢٠٣، وانظر توجيه هذه القراءات في حجة القراءات ص ٢٧٢، البحر المحيط (٤/ ٢٢٦)، الدر المصون (٥/ ١٥٨).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٧) من سورة البقرة.
وضعفها.
والرجال الكرام الذين أخذوا كنوز قيصر وكسرى لم يكن واحد منهم يحلق شيئاً من ذقنه، وكذلك سيد الخلق ﷺ كان أجمل الناس، وأحسن الناس وجهاً، وأكثر الرجال نساءً، ولحيته كثة معفاة، هي في غاية الجمال والكمال، فيجب على كل شاب وعلى كل مسلم أن لا يتمسخر من الإسلام، وأن لا يتخذ الإسلام لهواً ولعباً وأن لا يسخر من حملة الدين، ولا من هيئات العلماء، وليعلم أن هيئات العلماء هي السمت الذي كان عليه السلف الصالح، والصحابة الكرام، والنبي صلى الله عليه وسلم، وهو سمت الأنبياء الكرام في ماضي الزمان.
هذا هارون - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- من أنبياء سورة الأنعام الذين قال الله فيهم: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ﴾ [الأنعام: آية ٨٤] وقال الله لنبينا: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: آية ٩٠] وثبت في صحيح البخاري (١) عن مجاهد أنه سأل ابن عباس: من أين أخذت السجدة في ص؟ قال: أوَمَا تقرأ؟! قال: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ﴾ [إلى أن قال:] (٢) ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ وهارون من الأنبياء الذين أمر نبينا أن يقتدي بهم، ومن الاقتداء بهم: الاقتداء في سمتهم الكريم - لما غضب عليه أخوه وَجَدَه كث اللحية معفاها، فقال له: ﴿لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي﴾ [طه: آية ٩٤] ومرادنا بهذا الكلام أن اتخاذ دين الله هزواً ولعباً ولهواً ولعباً انتشر في أقطار الدنيا، ولا سيما من الشباب الذين يَتَسَمَّون باسم المسلمين إذا رأوا رجلاً
_________
(١) تقدم تخريجه عند تفسير الآية (٩٠) من سورة الأنعام.
(٢) ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق.
﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾ [التوبة: آية ١٧] أي: بلسان حالهم -على القول بذلك- ومنه قوله: ﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (٧)﴾ [العاديات: آية ٧] أي: بلسان حاله عند من يقول ذلك.
والذين قالوا هذا القول -واختاره غير واحد من المحققين المتأخرين- قالوا: الدليل على أنّ هذا هو المراد أن الله لم يخلق أحدًا من بني آدم ذاكرًا الميثاق ليلة الميثاق وهم كالذر، وما لا يذكره الإنسان لا يكون حجة عليه، وهذا كأنه جعل حجة مستقلة عليه، كما يدل عليه قوله: ﴿شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ﴾ [الأعراف: الآيتان ١٧٢، ١٧٣] فعلى هذا القول فأخذ الذُّرِّيَّات من ظهور بني آدم هو إيجادهم منهم قرنًا بعد قرن، وجيلاً بعد جيل عن طريق التناسل المعروف. وعلى هذا القول فالإشهاد عليهم بلسان الحال بما نصب لهم من الأدلة، وما ركز فيهم من الفطرة. واختار هذا ابن كثير (١)، والزَّمَخْشَرِي (٢)، وغير واحدٍ من المتأخرين.
القول الثاني: وعليه أكثر المتقدمين من السلف، وهو الذي يدل له بعض الأحاديث الصحيحة، والقرآن قد يُرْشِدُ إليه: أنه هو الأخذ يوم الميثاق المعروف، أن الله تبارك وتعالى أخذ من ظهر آدم ومن ظهور ذرياته كل نسمةٍ سبق في عِلْمِهِ أنها مخلوقة إلى يوم القيامة فأخذهم بيده (جلّ وعلا) بعضهم للجَنَّة وبعضهم للنار، وجعل فيهم إدراكًا وقال لهم: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ فقالوا: بلى. إلاّ أن هذا العهد لا يولد أحد إلا وهو ناسٍ له، والله (جلّ وعلا) أرسل
_________
(١) تفسير ابن كثير (٢/ ٢٦٤).
(٢) الكاشف (٢/ ١٠٣).
لقد كَذَبَ الواشُونَ ما فُهْتُ عِنْدَهُمْ | بِقَوْلٍ وَلا أرسَلْتَهُم بِرَسُولِ |
أَلِكْنِي إليها وخَيرُ الرسولِ | أَعْلَمُهُم بنَوَاحي الخَبَر |
ثم قال: ﴿وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [التوبة: آية ١٣] حذف المتعلق لقوله: ﴿بَدَؤُوكُمْ﴾ والظاهر أن المعنى: بدؤوكم بالقتال والعدوان عليكم أول مرة، واختلف العلماء في وجه ذلك على قولين (٣):
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٦) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٠) من سورة الأنعام.
(٣) انظر: القرطبي (٨/ ٨٦).