وأصلُ الاتقاءِ في لغةِ العربِ (١): هو اتخاذُ الوقايةِ التي تَقِيكَ من المكروهِ. وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ نابغةِ ذبيانَ (٢):
سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِالْيَدِ
أي: جَعَلَتْ يَدَهَا وقايةً بيننا وبينها حَيْثُ جَعَلَتْهَا دونَ وجهِها لئلا نَرَاهُ. هذا أصلُ (الاتقاءِ) تقول العربُ: «اتقيتُ السيوفَ بمجنِّي»، و «اتقيتُ الرمضاءَ بنعلي».
هذا أصلُ (الاتقاءِ)، وهو في اصطلاحِ الشرعِ (٣): اتخاذُ العبدِ وقايةً تَقِيهِ مِنْ عذابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ.
وهذه الوقايةُ مُرَكَّبَةٌ من شيئين هما: امتثالُ أمرِ اللَّهِ، واجتنابُ نَهْيِ اللَّهِ.
ومعلومٌ أن مادةَ (الاتقاءِ) أصلُها مِنْ (وَقَى) ففاءُ المادةِ واوٌ، وعينها قافٌ، ولامُها ياءٌ، فهي مما يُسَمِّيهِ الصَّرْفِيُّونَ: (اللفيفَ المفروقَ). فأصلُ الاتقاءِ من الوقايةِ: (و. ق. ى). إلا أنها دَخَلَهَا (تاءُ) الافتعالِ، كما تقولُ في (قَرب): اقترب، وفي (كسب): اكتسب، وفي (قطع): اقتطع، وفي (وقى): اوْتَقَى. والقاعدةُ المقررةُ في التصريفِ: أن كُلَّ فعلٍ واويِّ الفاءِ إذا دخله (تاءُ) الافْتِعَالِ أُبْدِلَتِ الفاءُ التي هي الواوُ تاءً، وَأُدْغِمَتْ في التاءِ، فقيل فيه: (اتَّقَى). فهذا التشديدُ مُرَكَّبٌ من حرفين: الأولُ منهما أصلُه واوٌ في محلِّ فاءِ الكلمةِ. والثاني: تاءُ الافتعالِ الزائدةُ. هذا أصلُ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة البقره.
(٢) السابق.
(٣) السابق.
معناهما واحدٌ، وكذلك قراءةُ حمزةَ والكسائيِّ: ﴿مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ﴾ يجوزُ فيه التذكيرُ بأمرين:
أحدُهما: أن العاقبةَ تأنيثُها مَجَازِيٌّ، والتأنيثُ المجازيُّ إذا كانت (الفَاعِلَة) تأنيثُها مَجَازِيًّا جَازَ في الفعلِ التذكيرُ والتأنيثُ (١).
الثاني: أنه فَصَلَ بَيْنَ الفعلِ وفاعلِه فَصْلٌ، وهو قولُه: ﴿مَنْ تَكُونُ لَهُ﴾ والفَصْلُ بَيْنَ الفعلِ وفاعلِه يُسَوِّغُ تذكيرَ الفعلِ، ولو كان فاعلُه مؤنثًا حَقِيقِيًّا، كما هو معروفٌ في علمِ النحوِ (٢).
ومعنَى الآيةِ الكريمةِ: أن الله (جل وعلا) أَمَرَ نَبِيَّهُ - ﷺ - أن يهددَ الكفارَ تَهْدِيدًا عظيمًا بأُسلوبٍ لطيفٍ في غايةِ الإنصافِ واللطافةِ، مع اشتمالِه على أعظمِ التهديدِ، وأشنعِ التخويفِ، وهو قولُه: ﴿قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾. ﴿يَا قَوْمِ اعْمَلُوا﴾ أصلُه: (يَا قَوْمِي) حُذِفَتْ ياءُ المتكلمِ، وحَذْفُ ياءِ المتكلمِ اكتفاءً بالكسرةِ لغةٌ فُصْحَى مُطَّرِدَةٌ في القرآنِ وفي لغةِ العربِ (٣).
وقد قَدَّمْنَا (٤) أن (القومَ) اسمُ جمعٍ لا واحدَ له مِنْ لَفْظِهِ، وأن معناه في لغةِ العربِ: جماعةُ الرجالِ دونَ النساءِ، وأن النساءَ رُبَّمَا دَخَلْنَ في اسمِ (القومِ) تَبَعًا. أما الدليلُ على أن لفظَ (القومِ) في النطقِ العربيِّ يختصُّ بالرجالِ دونَ النساءِ: فقولُه تعالى في الحجراتِ: ﴿لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ﴾
_________
(١) انظر: حجة القراءات ص ٢٧٢، الكليات ٨١٨.
(٢) راجع ما تقدم عند تفسير الآية (٤٨) من سورة البقرة.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة البقرة.
(٤) مضى عند تفسير الآية (٨٠) من سورة الأنعام.
يذهب إلى الصلاة يصلي سخروا منه وهَزَؤُوا به! يظنون أن الكرة رياضة خير من الصلاة، وإذا رأوا رجلاً متسماً بسمت الإسلام، أو عليه سمت الإسلام، أو ينادي باسم الدين يقولون: هذا رجعي، هذا رجل لا يفهم، هذا لا يساير ركب الحضارة!! ويتخذون العلماء، وحملة الدين، والنور السماوي، وتعاليم الدين يسخرون منها، ويضحكون ويستهزئون فليحذروا من الاستهزاء بدين الله، ومن اتخاذ آيات الله هزواً ولعباً؛ لأن ذلك أمر عظيم عند الله. ولما ضحك بعض المنافقين، وقالوا: النبي ﷺ - لما ضلت راحلته في غزوة تبوك - هو يَدَّعى أنه يأتيه علم الغيب من السماء وهو لا يدري أين ذهبت راحلته!! وسخروا من النبي ﷺ وهزئوا به، فنزل القرآن فيهم: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾ [التوبة: آية ٦٥] يعني: كنا نسخر ونضحك بهزل غير جد.
أجابهم الله ﴿قُلْ أَبِالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (٦٥) لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن يُعْفَ عن طائفة منكم تُعَذَّبْ طائفةٌ يأنهم كانوا مجرمين﴾ [التوبة: الآيتان ٦٥، ٦٦] وفي قراءة عاصم وحده: ﴿إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً﴾ (١) وفيها قال ابن المرحَّل (٢):

لِعَاصِمٍ قِرَاءَهْ لِغَيْرِهَا مُخَالِفَهْ
إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعذِّبْ طَائِفَهْ
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢٢٨.
(٢) البيت في البحر المحيط، لأبي حيان (٥/ ٦٧) سمعه من أبي الحكم مالك بن المرحل المالقي (ت ٦٩٩) ولعله من قصيدة ابن المرحل الموسومة بـ (التبيين والتبصير في نظم كتاب التيسير) كما في ترجمته في الأعلام للزركلي (٥/ ٢٦٣) (٧/ ٢٠١ - ٢٠٢) كما في الهامش.
الرسل يُذَكرون بهذا العهد، وما ثبت عن الرسل هو وما حضره الإنسان في التحقيق واحد؛ لأن ما قاله رسول الله ﷺ نحن نجزم بوقوعه أشد مما نجزم بما شاهدناه ولاحظناه وتذكرناه.
وهذا القول قال به كثير من السلف، ودلت عليه أحاديث كثيرة من أصحها وأدلها عليه ما ثبت في الصحيحين -صحيح البخاري وصحيح مسلم- من حديث أنس بن مالك (رضي الله عنه) أن النبي ﷺ قال: «يَقُولُ اللهُ لأَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عِنْدَكَ كُلُّ شَيْءٍ أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ اللهُ: أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ، أَخَذْتُ عَلَيْكَ فِي ظَهْرِ آدَمَ أَلاَّ تُشْرِكَ بِي فَأَبَيْتَ إِلاَّ أَنْ تُشْرِكَ بِي» (١) فهذا الحديث ثابتٌ في الصحيحين من حديث أنس، وقد ذكر فيه النبي ﷺ أن عدم الإشراك أُخِذ عليهم وهم في ظهر آدم، فدل ذلك على أن قوله: ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ أنه استخراج الله لهم، وإشهاده عليهم، ثم ردهم في ظهر أبيهم آدم. ومما يدل على هذا: أن الذين قالوا: إن معنى أخذهم من ظهورهم: هو تناسلهم قرنًا بعد قرنٍ، وجيلاً بعد جيلٍ، أنهم جعلوا ما ركب فيهم من الفطرة السليمة والعقول، وما نصب لهم من الأدلة القطعية كافيًا في قيام الحجة عليهم. والقرآن يدل على عدم صحة هذا القول؛ لأن القرآن العظيم - وهو كلام ربّ العالمين - دل على
_________
(١) البخاري في أحاديث الأنبياء، باب: خلق آدم وذريته، حديث رقم (٣٣٣٤)، وأخرجه في مواضع أُخرى، انظر الأحاديث رقم: (٦٥٣٨)، (٦٥٥٧). ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم، باب في الكفار، حديث رقم (٢٨٠٥)، (٤/ ٢١٦٠).
أحدهما: أن ابتداءهم لِلْقِتَالِ هُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مُفَصَّلاً في سورة الأنفال في غزوة بدر؛ لأن النبي ﷺ خَرَجَ فِيهَا لِلْعِير خَاصَّةً ولم يخرج للقتال، فَلَمَّا سَاحَل أبو سفيان بالعير، ونجت العير، واستنفر النفير، وجاءهم الخَبَرُ أن عِيرَهُمْ قَدْ سلمت، كان مِنْ حَقِّهِمْ في ذلك الوقت أن يرجعوا، كما أشار عليهم به عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ وعُتْبَة بن ربيعة وحكيم بن حزام، ولكن الخبيث أبا جهل قال: والله لا نرجع حتى نرد بدراً -وكانت من مواسم العرب- وتعزف علينا الغواني، ونشرب الخمر. وفي بعض الروايات أنه قال: لا نَرْجِع حتى نستأصل محمداً وأصحابه (١). فلما نجت عيرهم وجاءوا بعد ذلك إلى بَدْر مَعْنَاه أنهم يريدون الشَّرَّ، فكان هذا ابتداءهم بالشر.
وقال بعض العلماء: -وهو أظهرهما- أن معنى: ﴿وَهُم بَدَؤُوكُمْ﴾ أي: بدؤوكم بنقض العهود وقتْل مَنْ كان داخلاً في حِلْفِكُمْ كما وقع من قريش في إعانتهم لبني الديل بن بكر على خزاعة فقتلوهم، كما قال راجزهم (٢):
هم بَيَّتُونا بالوَتِيرِ هُجَّدَا وقَتلُونَا رُكَّعاً وسُجَّدَا
فابتداء هذا القتل كأنهم بدءوا بالقتل ونقض العهود، وخزاعة في ذلك الوقت لهم حكم أصحاب النبي ﷺ لدخولهم في عهده. وهذا معنى قوله: ﴿وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ كان في المرة الأولى ابتداء السوء حاصلاً منهم. وهذا معنى قوله: ﴿وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [التوبة: آية ١٣].
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥) من سورة الأنفال.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٨) من سورة الأنفال.


الصفحة التالية
Icon