المادةِ (١). ومعنَى ﴿يَتَّقُونَ﴾: يجعلونَ وقايةً بينهم وبينَ عذابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ، هذه الوقايةُ هي امتثالُ أَمْرِهِ بإخلاصٍ على الوجهِ الذي شَرَعَ، واجتنابُ نَهْيِهِ (جل وعلا). وهذا معنَى قولِه: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾.
[٤/ب] / ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: آية ٥٢].
﴿وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ قَرَأَ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ ما عدا ابنَ عامرٍ: ﴿بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ وقرأه ابنُ عامرٍ وحدَه: ﴿بالغُدوَةِ والعشي﴾ بِضَمِّ الغينِ، والواوِ المفتوحةِ. وهما قراءتانِ صحيحتانِ (٢)، ولغتانِ فصيحتانِ.
وسببُ نزولِ هذه الآيةِ الكريمةِ: أن عظماءَ الكفارِ - بعضُ الرواياتِ: كفار قريشٍ (٣)، وفي بعضِها: عظماءُ غيرِهم من العربِ، كالأقرعِ بنِ حابسٍ
مِنْ ساداتِ تميمَ وعيينةَ بنِ حصنٍ من ساداتِ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة البقرة.
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ص ١٩٤.
(٣) أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب: في فضل سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه)، حديث رقم (٢٤١٣)، (٤/ ١٨٧٨)، من حديث سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه). وقد جاء من حديث ابن مسعود (رضي الله عنه) عند أحمد حديث رقم (٣٩٨٥)، والطبراني في الكبير، حديث رقم (١٠٥٢)، (١٠/ ٢٦٨)، وابن جرير (١١/ ٣٧٤ - ٣٧٥)، والواحدي في أسباب النزول ص٢١٧.
وورد أيضا من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) عند ابن جرير (١١/ ٣٧٥)، كما ورد عن عدد من التابعين مرسلا، انظر: ابن جرير (١١/ ٣٧٨ - ٣٨٠) الواحدي في أسباب النزول ص ٢١٨.
ثم قَالَ: ﴿وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ﴾ (... ) (١) [الحجرات: الآية ١١].
(... ) (٢) فيها الربا إِجْمَاعًا، التي هي: القمحُ والشعيرُ والتمرُ والزبيبُ، قالوا: كُلُّ واحدةٍ من هذه الأربعِ مُقتاتةٌ مُدَّخَرَةٌ، معناه أنها قوتٌ يَتَقَوَّتُ به الإنسانُ، وأنه يَدَّخِرُهَا أَزْمَانًا فلا تضيعُ، فكل مُقْتَاتٍ مُدَّخَرٍ من الحبوبِ والثمارِ تجبُ فيه الزكاةُ عندَ مالكٍ والشافعيِّ (٣). وأنهما اتَّفَقَا أيضًا على أن الأشجارَ ليس في ثمارِها شيءٌ مُقتاتٌ مُدَّخَرٌ إلا الزبيبَ والتمرَ خاصةً، ولم يُوجِبْ مالكٌ والشافعيُّ الزكاةَ إلا في التمرِ والزبيبِ خاصةً، أما غيرُهما من ثمارِ الأشجارِ فليست عندَهما مِمَّا يُقْتَاتُ وَيُدَّخَرُ (٤)، ولم يُوجِبَا فيها شَيْئًا إلا الزبيبَ والتمرَ. وأما الحبوبُ فإن مَالِكًا والشافعيَّ اتَّفَقَا أيضًا على أن كُلَّ ما يُقْتَاتُ وَيُدَّخَرُ من الحبوبِ أنه تَجِبُ فيه الزكاةُ، وهي الْعُشْرُ ونصفُ الْعُشْرِ على ما قَرَّرْنَا، والحبوبُ الْمُقْتَاتَةُ المُدَّخرةُ: كالقمحِ والشعيرِ اللذين - مثلاً - دَلَّ الإجماعُ والنصُّ عليهما، ونحوهما من السُّلْتِ (٥)،
_________
(١) في هذا الموضع انقطع التسجيل. وتمام الآية لا يخفى، ويمكن استدراك باقي النقص فيما يتعلق بمعنى القوم بمراجعة ما ذكره الشيخ (رحمه الله) في الموضع السابق.
(٢) هذا المقطع يتعلق بتفسير الآية رقم (١٤١) ولاستدراك ما ذهب من التسجيل عليك بمراجعة ما كتبه الشيخ (رحمه الله) في الأضواء (٢/ ٢١٣ - ٢٤٦).
(٣) انظر: الكافي لابن عبد البر ص ١٠٠، المهذب (١/ ١٦٣).
(٤) انظر: الكافي لابن عبد البر ص ١٠٠، المهذب (١/ ١٦٠).
(٥) السُّلْت: قيل: نوع من الشعير ليس له قشر. وقيل: نوع من الشعير رقيق القشر، صغار الحب. وقيل: حب بين الحنطة والشعير، ولا قشر له كقشر الشعير، فهو كالحنطة في ملامسته وكالشعير في طبعه وبرودته. وهي أقوال متقاربة. انظر: المصباح المنير (مادة: سلت) ص ١٠٨ حلية الفقهاء ص ١٠٥.
والشاهد عندنا أن نُحَذِّر إخواننا المسلمين من أن يتخذوا دين الله وآيات الله هزواً ولعباً، لئلا يلحقهم ما لحق الكفار الذين اتخذوا دينهم هزواً ولعباً، فليحذر المؤمن كل الحذر أن يسخر من دين الله، وأن يستهزئ بآيات الله، وأن يسخر من حملة العلم ومن رجال الدين، وأن يتخذهم مسخرة ومضحكة، هذا لا ينبغي ولا يليق، ومن فعله سيناله من الوعيد بقدر ما قال الله في أهل النار: ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ [الأعراف: آية ٥١] فعلى المسلم أن يحترم الدين، ويعظم الدين، ويعظم كل ما جاء من ربه من الأوامر والنواهي، ويعظم العلماء وحملة العلم، والمتَّسِمِين بسمات العلم، ولا يحتقرهم، ولا يتخذهم هزواً. وإنما بينا هذا لكثرة ما نشاهد من شباب المسلمين في أقطار الدنيا، يتخذون الدين مسخرة وملعبة ومضحكة، يضحكون ممن يصلي، ويستهزئون به، ويسخرون منه، ويتخذونه لهواً ولعباً كأنه مضحكة مسخرة!! هذا أمر خطير وعاقبته وخيمة. وقصدنا أن نحذر أنفسنا وإخواننا المسلمين منه، فعلينا أن نعظم آيات الله، ونحترم دين الله، ونحترم حملة الدين والعلماء المتصفين بحمل الدين، ولا نتخذهم لهواً ولعباً، ولا نسخر منهم، ولا نقلد عليهم التيوس إذا رأيناهم يعفون لحاهم، بل نعظمهم ونحترمهم؛ لئلا يلحقنا من الوعيد بقدر ما فعلنا من ذلك، كما قال الله في الكفار: ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً﴾ لأنهم كانوا يسخرون من ضعاف المسلمين إذا رأوهم يصلون ويعبدون الله يتغامزون ويضحكون ﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (٣٠)﴾ [المطففين: آية ٣٠] ويقولون: ﴿أَهَؤُلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا﴾ [الأنعام: آية ٥٣] ﴿لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾ [الأحقاف: الآية ١١] انظروا دين محمد
أنه لا يُقطع عذر أحد بنصب الأدلة، وتركيز الفطرة، وخلق العقول؛ بل لا ينقطع عذر بني آدم إلا بإرسال الرسل في دار الدنيا، إنذارهم مؤيَّدين بالمعجزات؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: آية ١٥] ولم يقل: حتى نخلق عقولاً ونركز أدلة وننصب فطرة. لم يقل شيئًا من هذا، وقال جل وعلا: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: آية ١٦٥] فبيّن أن حجة الناس لا يقطعها إلا إعذار الرسل وإنذارهم له.
وهذه الحجة التي بَيَّن في سورة النساء أنه أرسل الرسل لقطعها بقوله: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ أوضحها في أُخريات سورة طه وأشار لها في القصص، قال في سورة طه: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى (١٣٤)﴾ [طه: آية ١٣٤] ولم يقل: لولا خلقت لنا عقولاً، ونَصَبْتَ لنا أدِلَّة، ورَكَّبْتَ فِينا فطرًا، لم يقل شيئًا من هذا. وأشار لها في القصص بقوله: ﴿وَلَوْلاَ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)﴾ [القصص: آية ٤٧]؛ لأنه قال: ﴿لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً﴾ ولم يقل: لولا خلقت لنا عقولاً، وركزت فينا فطرة، ورتبت لنا أدلة. لم يقل شيئًا من هذا. وقد صرَّح (جلّ وعلا) بأن جميع أفواج النّار الذين يدخلونها يوم القيامة أنهم جميعهم أنْذَرَتْهُمُ الرُّسُل في دار الدنيا، وقطعت أعذارهم قبل الموت، وذلك في قوله: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شيء إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (٩)﴾ [الملك: الآيتان ٨ - ٩]،
ثم إن الله لما أمر النبي ﷺ وأصحابه بقتال الكفار أنكر عليهم أن يخافوا الكفار، قال: ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ﴾ بِهَمْزَةِ الإِنْكَارِ. يعني: لا تخشوا هؤلاء أبداً فإنهم كفَرَة فَجَرَة، والله (جل وعلا) أحَقّ أَنْ تَخْشَوْهُ فتمتثلوا أمره، وتقاتلوا أئمة الكفر الذين همُّوا بإخْرَاجِ الرَّسُولِ، وبدءوا بالشر أول مرة. وهذا معنى قوله: ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ﴾.
﴿فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ﴾ (إن) في قوله: ﴿إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ﴾ تشكل دائماً على المتعلمين وبعض العلماء (١)، و (إن) هذه هي التي اختلف فيها البصريون والكوفيون، وهي كثيرة في القرآن، فالبصريون يقولون: إن (إن) هذه أنها صيغة شرط جيء بها مراداً بها التهييج وقوة الحمل على الامتثال، وهو أسلوب عربي معروف، أن العرب تنطق بأداة الشرط ولا تريد به حقيقة تعليق جزاء على شرط، وإنما تريد به التهييج والدعوة الصارمة إلى الامتثال، كما تقول للرجل: «إن كنت ابن فلان فافعل لي كذا» وأنت تعلم أنه ابن فلان، إلا أنك تستنهضه وتستحثه، ومن هذا المعنى قول واحد من أولاد الخنساء لما أوصتهم بالجهاد في سبيل الله (٢):
لستُ لخنساءَ ولا للأَخْرَمِ... ولا لعمرو ذي الثَّنَاءِ الأَقْدَمِ...

إن لم أَرِدْ في الجَيْشِ جَيْش الأَعْجَمي ماضٍ على الهولِ خِضَمّ خِضْرِمِ
يعني: إن لم أرد في الجيش فلست ابناً لأبي ولا لأمي. لا يقصد التعليق وإنما يقصد تحريض نفسه على هذا. هذا معناها عند البصريين فيما يصح فيه هذا وفيما لا يصح فيه هذا كقوله: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ﴾ [الفتح: آية ٢٧] وهم داخلوه قطعاً.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١١٨) من سورة الأنعام.
(٢) هذان البيتان سبق ذكرهما عند تفسير الآية (١١٨) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon