وفي تخصيصِ الغداةِ والعشيِّ للعلماءِ أَوْجُهٌ (١):
أَحَدُهَا: أن العربَ إذا أَرَادَتِ الدوامَ أَطْلَقَتِ الليلَ والنهارَ والغداةَ والعشيَّ. يَعْنُونَ أنهم دائمونَ على ذلك.
القولُ الثاني: أن أولَ النهارِ وآخِرَهُ من أفضلِ الأوقاتِ التي تُنْتَهَزُ فيها فرصةُ العباداتِ.
وقولُه: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ إذا جاء في القرآنِ العظيمِ ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ معناه: أن ذلك العملَ بإخلاصٍ لِلَّهِ (جل وعلا)، ليس فيه رياءٌ ولا سُمْعَةٌ، ولا طلب غرضٍ من أغراضِ الدنيا.
وصفةُ (الوجهِ) صفةٌ من صفاتِ اللَّهِ (جل وعلا) أَثْبَتَهَا لنفسِه، وَأَثْنَى على هذه الصفةِ ثَنَاءً خاصًّا لم يُثْنَ به على صفةٍ غيرِها حيث قال: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: آية ٢٧].
ونحن في هذه الدروسِ القرآنيةِ مِرَارًا (٢) نقولُ لكم: إن الطريقَ السليمةَ - التي إِنْ مُتُّمْ عليها ولقيتُم اللَّهَ عليها في هذا المأزقِ الذي ضَلَّ فيه الآلافُ [فإنكم تَلْقَوْنَ ربَّكم بعقيدةٍ صحيحةٍ في هذا البابِ] (٣) - أنها مُرَكَّزَةٌ على ثلاثةِ أُسُسٍ، كُلُّ واحدٍ منها في ضوءِ القرآنِ العظيمِ بغايةِ الوضوحِ، مَنْ لَقِيَ اللَّهَ على اعتقادِ هذه الأسسِ الثلاثةِ لَقِيَهُ سَالِمًا، وَمَنْ أَخَلَّ بواحدٍ منها دخلَ في مهواةٍ، قد لا يتخلصُ منها.
_________
(١) انظر: القرطبي (٦/ ٤٣٢)، البحر المحيط (٤/ ١٣٥).
(٢) للشيخ (رحمه الله) محاضرة في موضوع الصفات، وقد طُبعت بعنوان (منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات)، وانظر: الأضواء (٢/ ٣٠٤ - ٣٢١).
(٣) زيادة يقتضيها السياق.
خمسةَ أوسقٍ، يُضَمُّ بعضُها إلى بعضٍ، فتجبُ فيها الزكاةُ، فَيُخْرِجُ عَنْ كُلٍّ بحسبِه.
أما العَلَسُ عند مالكٍ فلا يُضَمُّ إلى هذه الثلاثةِ.
والحاصلُ أن مَالِكًا لا يُضَمُّ عندَه إلا أنواعُ القطانيِّ الثمانيةُ. يُضَمُّ بعضُها إلى بعضٍ، وَيُضَمُّ عندَه القمحُ والشعيرُ والسُّلْتُ، هذه الثلاثةُ بعضُها إلى بعضٍ. وأما غيرُ هذا فَلاَ ضَمَّ، فلا يُضَمُّ تمرٌ إلى قمحٍ، ولا سُلْتٌ إلى ذرةٍ، ولا ذرةٌ إلى أُرْزٍ، بل كُلٌّ بِحَسَبِهِ. والشافعيُّ لا يرى ضَمَّ شيءٍ من هذا إلى شيءٍ. هذا حاصلُ مذهبِ مَالِكٍ والشافعيِّ.
وقد اخْتَلَفَا في أشياء: منها الزيتونُ هل فيه زكاةٌ أو لا؟ فمشهورُ مذهبِ الإمامِ مَالِكٍ (رحمه الله) أن الزيتونَ تجبُ فيه الزكاةُ إذا بَلَغَ حَبُّهُ خمسةَ أَوْسُقٍ، ولكنه لا يُخْرَجُ إلا مِنْ زَيْتِهِ، فإذا كان حَبُّ الزيتونِ خمسةَ أوسقٍ وَجَبَتْ الزكاةُ فيه، ولكن الإخراجَ من زيتِه، وهو الْعُشْرُ أو نصفُ الْعُشْرِ. فالوجوبُ في الْحَبِّ، والإخراجُ من الزيتِ. هذا مشهورُ مذهبِ مَالِكٍ، ومثلُ الزيتونِ عندَ مَالِكٍ في هذا - من أنه يُنْظَرُ نصابُ الأَوْسُقِ من الْحَبِّ، ثم يُخْرَجُ من الزيتِ مثلُ الزيتونِ عندَه - السمسمُ، وبذرُ الفجلِ الأحمر، والقِرْطمُ. والقِرْطمُ: حَبُّ الْعُصْفِرِ. هذه الأربعةُ التي هي: الزيتونُ والسمسمُ والقِرْطمُ وبذرُ الفجلِ الأحمر خاصةً، هي عند مَالِكٍ إذا كانت حُبُوبُهَا تبلغُ النصابَ وَجَبَتْ فيها الزكاةُ، وَأُخْرِجَ العشرُ أو نصفُه من زَيْتِهَا، هذا مشهورُ مذهبِه (رحمه الله) (١)، ولا زكاةَ
_________
(١) انظر: المدونة (١/ ٢٩٤، ٣٤٩)، الكافي في فقه أهل المدينة ص ١٠٠، الاستذكار (٩/ ٢٥٢)، القرطبي (٧/ ١٠٣، ١٠٤)، أضواء البيان (٢/ ٢١٥).
الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣)} [الأعراف: الآيتان ٥٢، ٥٣].
لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) مصيرَ أهلِ الجنةِ ومصيرَ أهلِ النارِ، وما يقولُه كُلٌّ من أهلِ الجنةِ وأهلِ النارِ للآخرين، وما يقولُه أصحابُ الأعرافِ لِلطَّرَفَيْنِ بَيَّنَ أن الذين هلكوا واستحقوا النارَ وخلدوا في النارِ ما جاءهم ذلك إلا عن الإعراضِ عن هذا الكتابِ الأعظمِ والنورِ المبين الذي أنزله رَبُّ السماواتِ والأرضِ، وَفَصَّل فيه العقائدَ، والحلالَ والحرامَ، وَبَيَّنَ فيه الأمثالَ، وما يُوصِلُ إلى الجنةِ، وما يُوصِلُ إلى النارِ، وأوضحَ فيه كُلَّ خيرٍ، وَحَذَّرَ فيه من كُلِّ شَرٍّ، وَبَشَّرَ فيه وَأَنْذَرَ، فَمَنْ أعرضَ عن هذا القرآنِ هُمُ الذين صاروا إلى النارِ، وَمَنْ عمل بهذا القرآنِ هم الذين صاروا إلى الجنةِ.
ومنذ أنزلَ اللَّهُ هذا الكتابَ - الذي هو أعظمُ كتابٍ نزلَ من السماءِ إلى الأرضِ، وَجَمَعَ اللَّهُ فيه علومَ الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ - استحالَ شرعًا أن يدخلَ أحدٌ النارَ إلا عن طريقِ الإعراضِ عنه أو يدخلَ أحدٌ الجنةَ إلا عن طريقِ العملِ به، فالعملُ به مفتاحُ الجنةِ، والإعراضُ عنه مفتاحُ النارِ: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾ الآية [هود: آية ١٧] ولأَجْلِ ذلك جَعَلَهُ اللَّهُ رحمةً لقومٍ وَفَّقَهُمْ للعملِ به، وحجةً ووبالاً على قومٍ خَذَلَهُمْ فَلَمْ يعملوا به: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [فصلت: آية ٤٤] ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا (٨٢)﴾ [الإسراء: آية ٨٢] ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾ [المائدة: آية ٦٤] {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ

أَلَيْسَ الليلُ يَجْمَعُ أم عَمْرو وإيانَا فذاكَ لنا تَدَاني
نَعَمْ، وَتَرَى الهِلالَ كَمَا أَرَاهُ وَيَعْلُوهَا النَّهَارُ كَمَا عَلانِي
فالقياس أن يقول هذا الشاعر: «بلى» ولا يقول: «نعم» ولما قال: «نعم» صار يُحفظ ولا يُقاس عليه. وربما أجابت العرب استفهامًا غير مقترنٍ بالنفي بـ (بلى) إذا كان ذلك الاستفهام يُقْصَدُ به الاستبعاد والنفي، وهذا معروف في كلامهم، ولذا لما قال الأخطل يُعَيّر الجَحَّاف (١):
أَلاَ فاسأل الجَحَّافَ هل أنت ثائرٌ بقَتْلَى أُصيبَتْ من نُمير بن عامرِ
قال: «هل أنت ثائرٌ» ولكن هذا الاستفهام بـ (هل) يُضَمِّنه معنى: أنه لا يثأر بهم، ولا يقتل قَتَلَتَهم، ففهم ذلك وأجاب بـ (بلى) لأن الأخطل لما قال:
أَلاَ فاسأل الجَحَّافَ هل أنت ثائرٌ بقَتْلَى أُصيبَتْ من نُمير بن عامرِ
أجابه الجَحَّاف بـ (بلى) لينفي النفي الذي ضَمَّنَه في (هل) بقوله (٢):
بلى سَوفَ نبكيهم بكل مُهَنَّدٍ ونبكي نُميرًا بالرماحِ الخَوَاطِرِ
وهذا معنى قوله: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى﴾.
وقوله: ﴿شَهِدْنَا﴾ اختلف العلماء هو مِنْ كلام مَنْ (٣)؟!
فقال بعض العلماء: هو مِنْ كَلام الملائِكَة.
_________
(١) ديوان الأخطل ص١٣٠.
(٢) البيت في الكامل للمبرد ص٦٢٤.
(٣) انظر: ابن جرير (١٣/ ٢٥٠)، القرطبي (٧/ ٣١٨)، شرح الطحاوية ص٣٠٨.
كامن في صدره، والتمكن من الأعداء والتسليط عليهم وقتلهم وأسرهم يشفي ذلك الداء الكامن في الصدر، فينشرح الصدر، ويزول ما كان فيه من كامن المرض الدَّفِين والحِقْد على الكفار. وهذا معنى معروف في كلام العرب مشهور مبتذل جدّاً، ومنه قول مهلهل بن ربيعة (١):
ولكنَّا نَهَكْنَا الْقَوْمَ ضَرْباً... عَلَى الأَثْبَاجِ مِنْهُمْ وَالنّحُورِ...
هتَكْتُ بِهِ بُيُوتَ بَنِي عُبَادٍ وَبَعْضُ القَتْلِ أَشْفَى للصُّدُورِ
لأن طالب الثأر كأنه وَغِر الضمير حران، فإذا قتل صاحبه بردت غلته وشُفي ما في صدره. وهذا كثير معروف في كلام العرب مَشْهُور. وهذا معنى قوله: ﴿وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: آية ١٤] قال جَمَاهِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِير: إن المراد بالقَوْمِ المؤمنين أنهم خزاعة (٢) حيث تَمَالأَ عليهم البكريون وقريش وقتّلوهم في الحرم، واسْتَنْجَدُوا بالنَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم لما أرسلوا عمرو بن سالم في قوم منهم بديل بن ورقاء، وقال عمرو رجزه الذي ذكرنا قبل هذا. وعن النبي ﷺ أنه قال: «لاَ نُصِرْتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرْ بَنِي كَعْبٍ» (٣) يعني مِنْ خُزَاعَةَ، وقد كان ذلك سبباً لغزاة الفتح، وقد قتل جماعة من المشركين يوم الفتح، قال بعض المؤرخين: قتل منهم اثنا عشر رجلاً يوم فتح مكة، والأظهر كما قدمنا مراراً أن أهل مكة قُتلت منهم جماعات. وقد جاء في صحيح مسلم ما يدل على ذلك (٤)، ويدل
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤١) من سورة الأنفال.
(٢) انظر: ابن جرير (١٤/ ١٦٠)، القرطبي (٨/ ٨٧).
(٣) تقدم تخريجه عند تفسير (٥٨) من سورة الأنفال.
(٤) تقدم تخريجه عند تفسير الآية (٤١) من سورة الأنفال.


الصفحة التالية
Icon