أولُ هذه الأسسِ الثلاثةِ هو - أيها الإخوانُ - أن تُلْزِمُوا قلوبَكم بالطهارةِ من أقذارِ التشبيهِ، وتُنَزِّهُوا خالقَ الكونِ (جل وعلا) عن أن يُشْبِهَهُ شيءٌ مِنْ خلقِه في أي صفةٍ من صفاتِه، كائنةً ما كَانَتْ، وَمَنِ الخلقُ حتى يشبهوا خالقَ السماواتِ والأرضِ؟ كيف يشبهونه وهم أثرٌ من آثارِ قدرتِه وإرادتِه؟ فالأثرُ لا يُشَابِهُ مُخْتَرِعَهُ.
وهذا الأصلُ هو الأساسُ الأكبرُ فِي معرفةِ اللَّهِ، والحجرُ الأساسيُّ لصلةِ العبدِ بربِّه صلةً صحيحةً على أساسٍ صحيحٍ، وهو تنزيهُ خالقِ السماواتِ والأرضِ عن مشابهةِ الخلقِ. وهذا الأساسُ منصوصٌ في قولِه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: آية ١١] ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: آية ٤] ﴿فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ﴾ [النحل: آية ٧٤] لأنه لا مثيلَ له ولا شبيهَ.
وهذا الأصلُ هو الأصلُ الأعظمُ في التوحيدِ، وهو أساسُ الصلةِ الصحيحةِ بَيْنَ العبدِ وَرَبِّهِ، فَمَنْ حَقَّقَ هذا الأصلَ قرب من الخيرِ، ومن لم يُحَقِّقْ هذا الأصلَ جَرَّهُ إلى تشبيهاتٍ وإلى مَعَانٍ لا خلاصَ منها. فإذا حققَ العبدُ هذا الأصلَ، وألزمَ قلبَه بأن يَعْلَمَ أن خالقَ السماواتِ والأرضِ أعظمُ وأكبرُ وأنزهُ وَأَجَلُّ من أن يُشْبِهَهُ شيءٌ مِنْ خَلْقِهِ بأيِّ صفةٍ من صفاتِهم [فإنه يكونُ قد طَهَّرَ قلبَه مِنْ دَنَسِ التعطيلِ وأقذارِ التَّشْبِيهِ] (١).
والأساسُ الثاني: هو أن يصدقَ الله بما وَصَفَ به نفسَه، ويصدق رسولَه بما وَصَفَ به رَبَّهُ تصديقًا مَبْنِيًّا على أساسِ ذلك التنزيهِ، على غرارِ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾
_________
(١) زيادة يقتضيها السياق.
عند مَالِكٍ في كتانٍ ولاَ في غيرِه مما ذَكَرْنَا.
ومذهبُ الإمامِ الشافعيِّ مختلفٌ - أيضا - في الزيتونِ (١)، فقال في القديم: إن الزيتونَ فيه زكاةٌ إِنْ صَحَّ أَثَرُ عُمَرَ الذي وَرَدَ فيه. وقد وَرَدَ عَنْ عُمَرَ (٢) وَابْنِ عَبَّاسٍ (٣) أثرانِ أن في الزيتون زكاةً، والأثرانِ ضعيفانِ لاَ تقومُ حجةٌ بواحدٍ منهما؛ وَلِذَا كانَ مذهبُ الشافعيِّ في الجديدِ: أن الزيتونَ لا زكاةَ فيه (٤). والخلافُ عندَه في القِرْطُمِ (٥) - أيضا - كالخلافِ في الزيتونِ، فيه الزكاةُ في القديمِ، وفي الجديدِ لا زكاةَ فيه، وهذا معروفٌ عِنْدَهُمْ (٦).
واختلاف العلماء في زكاة العسل معروف، يُذكر في هذا المحل عند الآيات الدالة على هذا، وإن كان العسل ليس في نفسه مما تنبته الأرض، ولكن نَحْله تَرْعَى فيما تنبته الأرض فتُخْرِجه.
_________
(١) انظر: المجموع (٥/ ٤٥٢)، أضواء البيان (٢/ ٢١٧).
(٢) أخرجه البيهقي (٤/ ١٢٥ - ١٢٦). وعقبه: بقوله: «حديث عمر رضي الله عنه في هذا الباب منقطع، وراويه ليس بقوي» ا. هـ. وقال الحافظ في التلخيص (٢/ ١٦٦): «رواه البيهقي بإسناد منقطع، والراوي له: عثمان بن عطاء، ضعيف» ا. هـ. وضعفه النووي في المجموع (٤/ ٤٥٣)، وانظر ابن أبي شيبة (٣/ ١٤١).
(٣) أخرجه ابن أبي شيبة (٣/ ١٤١). وقال الحافظ في التلخيص (٢/ ١٦٧): «وفي إسناده ليث بن أبي سُليم» ا. هـ. وضعفه أيضا: النووي في المجموع (٤/ ٤٥٣).
(٤) انظر: المجموع (٥/ ٤٥٢ - ٤٥٥)، أضواء البيان (٢/ ٢١٧ - ٢١٨).
(٥) هو حب العُصْفُر، كما في المهذب (١/ ١٦١)، القاموس (مادة: القرطم) ص ١٤٨٢.
(٦) انظر المجموع (٥/ ٤٥٢ - ٤٥٣، ٤٥٦)، أضواء البيان (٢/ ٢١٨).
آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (١٢٥)} ولذا قال هنا: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ﴾ أي: الخلائق الذين كنا نَقُصُّ خبرَهم؛ لأن بعضَهم في الجنةِ وبعضَهم في النارِ. فَعَلَى هذا القولِ فـ (الكتاب) جنسُ الكتبِ السماويةِ. والأظهرُ أن الْمُخَاطَبِينَ به المرادين به أمةُ محمدٍ ﷺ وأن الكتابَ هو هذا القرآنُ العظيمُ.
﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُم﴾ أي: جئنا هذه الأمةَ التي دخل بعضُها الجنةَ وبعضُها النارَ.
﴿بِكِتَابٍ﴾ أَنْزَلْنَاهُ على نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم. وقراءةُ الجمهورِ من السبعةِ بل والعشرةِ: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ﴾ أما قراءةُ: ﴿ولقد جئناهم بكتاب فَضَّلْنَاهُ﴾ أي: على سائرِ الكتبِ، فليست من القراءاتِ السبعيةِ، وقرأ بها ابنُ محيصن وغيرُه (١). وهي -وإن كانت شاذةً- فمعناها صحيحٌ؛ لأنه مُفَضَّلٌ على سائرِ الكتبِ.
وقراءةُ الجميعِ: اللامُ موطئةٌ للقَسَمِ، وَاللَّهِ ما تركناهم سُدًى ولا في غفلةٍ، وَاللَّهِ لقد جئناهم بكتابٍ. يعني: أَتَيْنَاهُمْ بكتابٍ. قدمنا أنه قيل له (الكتاب) لأنه مكتوبٌ في اللوحِ المحفوظِ، كما قال: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (٢٢)﴾ [البروج: الآيتان ٢١، ٢٢] وفي صحفٍ عِنْدَ الملائكةِ، كما في قولِه: ﴿فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (١٣) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (١٤)﴾ [عبس: الآيتان ١٣، ١٤] وكذلك هو مكتوبٌ عندَ المسلمين في مصاحفِهم يقرؤونه.
﴿بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ﴾ صِيغَةُ الجمعِ للتعظيمِ، وَاللَّهُ هو الآتِي بهذا
_________
(١) انظر: الإتحاف (٢/ ٥١).
وقال بعض العلماء: من كلام الله والملائكة. وعلى هذا القول يحسن الوقف على قوله: ﴿بَلى﴾ لما استخرجهم في صورة الذَّرِّ لَيْلَة الميثاق، وأخذ عليهم الميثاق، وقال لهم: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى﴾ أنت ربنا، قال الله والملائكة: ﴿شَهِدْنَا﴾ عليكم بهذا الإيمان وهذا الميثاق الذي التزمتم.
﴿أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ وقرأ هذا الحرف عامة القُراء غير أبي عمرو: ﴿أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ وقرأه أبو عمرو وحده من السبعة: ﴿أن يَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (١٧٢) أَوْ يَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ﴾ [الأعراف: الآيتان ١٧٢، ١٧٣] بالياء التحتية الدالة على الغيبة (١).
والمعنى: أن الله شهد عليهم والملائكة لئلا يقولوا بعد هذا: كنا غافلين عن هذا، أو آباؤنا هم الذين سَنّوا الكفر وجعلوه طريقةً لنا.
فإن قيل: هذا لا يُولد أحدٌ إلا وهو ناسٍ له. قلنا: بأن الرسل تُذكرهم به، وتذكير الرسل إياهم به يجعله قطعيًّا كأنهم متذكرون سماعه من الله كما ذَكَرْنَا.
وقال بعض العلماء: يشهدُ بعضهم على بعض فيقول هؤلاء: شهدنا عليكم أيها القوم لئلا تقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين. ويقول البعض الآخر لمن شَهدَ عليهم من الآدميين: شهدنا أن تقولوا يوم القيامة.
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢١٦.
على ذلك رجز حماس بن قيس المشهور الذي هو مشهور عند العلماء؛ لأن حماس بن قيس كان في مكة، وكان يقول لامرأته: لأُخدمنك نساء محمد صلى الله عليه وسلم، ولأجعلهن لك خدماً. وكان يقول لها: إذا جئتك منهزماً فأغلقي الباب دوني. فكان في ذلك اليوم في الطائفة التي وقع فيها القتل والقتال فجاءها مذعوراً منهزماً، وكان يقول قبل يوم الفتح (١):
إنْ يُقْبِلُوا اليَوْمَ فَمَا لِي عِلَّةٌ... هَذَا سِلاَحٌ كَامِلٌ وأَلَّه...
وذُو غِرَارَيْنِ سَرِيْعُ السَّلَّه
فلما جاء زَوْجَتَهُ ووجهه كأنه زَعْفَران مِنَ الخَوْفِ، وقال لها تفتح له الباب، فقالت له: أين الذي كنت تقول؟ فقال (٢):
إِنَّكِ لَوْ شَهِدْتِ يَوْمَ الخَنْدَمَهْ... إِذْ فَرَّ صَفْوانٌ وفَرَّ عِكْرِمَهْ...
واسْتَقْبَلَتْنَا بالسّيوفِ المُسْلِمَهْ... لهُمْ نَهِيتٌ خَلْفَنَا وَهَمْهَمَهْ...
يقْطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وجُمْجُمهْ... ضَرْباً فَلاَ تَسْمعُ إِلاَّ غَمْغَمَهْ...
لَمْ تَنْطِقِي بِاللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ
وهذا صريح في أنهم قاتلوا وقتلوا. وفي صحيح مسلم: أنهم لم يتعرض لهم ذلك اليوم أحد إلا أناموه (٣) كما هو معروف. وقد ذكرناه مُفصلاً في سورة الأنفال (٤). فهذا القتل -قتل قريش وإذلالهم
_________
(١) تقدمت هذه الأبيات عند تفسير الآية (٤١) من سورة الأنفال، وقد أثبتنا نصها هناك من بعض المصادر.
(٢) تقدمت هذه الأبيات عند تفسير الآية (١٥١) من سورة الأنعام، وقد أثبتنا نصها هناك من بعض المصادر.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٤١) من سورة الأنفال.
(٤) السابق.


الصفحة التالية
Icon