[الشورى: ١١] فلا يَتَنَطَّعُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، وينفي عن اللَّهِ وصفًا مدحَ اللَّهُ به نفسَه، أو مَدَحَهُ به مَنْ قال في حَقِّهِ: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى (٤)﴾ [النجم: الآيتان ٣ - ٤] إِذْ لا يصفُ اللَّهَ أعلمُ بِاللَّهِ مِنَ اللَّهِ: ﴿أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ [البقرة: آية ١٤٠] ولا يصفُ اللَّهَ بعدَ اللَّهِ أعلمُ باللَّهِ من رسولِ اللَّهِ - ﷺ -.
وهذا الأصلُ الثاني عَلَّمَنَاهُ خالقُ الكونِ (جل وعلا) تعليمًا سَمَاوِيًّا أَعْظَمَ، لا يقعُ في الحقِّ بعدَه لَبْسٌ، وذلك قولُه جل وعلا: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ بعد قولِه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ فإتيانُه بقولِه: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ بعد قولِه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ فيه سرٌّ أعظمُ، وَمَغْزًى أكبرُ، وتعليمُ خالقِ السماواتِ والأرضِ، وإيضاحُه لهذه العقائد إيضاحًا كالشمسِ.
والمعنى: لا تَتَنَطَّعْ يا عَبْدِي، يا مسكينُ، اعْرَفْ قَدْرَكَ، ولا تَنْفِ عَنِّي صفةَ سَمْعِي وَبَصَرِي مُدَّعِيًا أنكَ إن أَثْبَتَّ لِي سَمْعِي وَبَصَرِي شَبَّهْتَنِي بالحيواناتِ التي تسمعُ وتبصرُ، لا، ما هكذا الأمرُ. المعنَى: أَثْبِتْ لِي سَمْعِي وَبَصَرِي، وَرَاعِ في ذلك الإثباتِ قولي قبلَه مقترنًا به: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ فأولُ الآيةِ تنزيهٌ كاملٌ من غيرِ تعطيلٍ، وآخِرُهَا إيمانٌ بالصفاتِ
إيمانًا تَامًّا من غيرِ تشبيهِه ولا تمثيلٍ، فعلينا أن نُنَزِّهُ خالقَنا (جل وعلا) بقولِه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ وأن نُثْبِتَ له ما أَثْبَتَ لنفسِه، ولا نقول إذا أَثْبَتْنَاهُ: كُنَّا مُشَبِّهِينَ؛ لأن الحيواناتِ تتصفُ بهذا!! ولأجلِ هذا وَصَفَ نفسَه بالسمعِ والبصرِ، مع أنهما من حيث هُمَا سمعٌ وبصرٌ يتصفُ بهما جميعُ الحيواناتِ، فَكُلُّ الحيواناتِ تسمعُ وتبصرُ؛ ولذا وصفَ نفسَه بالسمعِ والبصرِ بعدَ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ يعني: لا تَنْفِ عَنِّي سَمْعِي وَبَصَرِي بدعوى
وزكاة العسل الخلاف معروف فيها بين العلماء (١)، فعند مالك: لا زَكَاةَ في العسل، والخلاف عَنِ الشَّافِعِي؛ في القديم: يُزكَّى العسل، وفي مَذْهَبِهِ الجديد: لا يُزَكَّى، ومذهب الإمام أحمد: زَكَاة العَسَلِ، ومذهب أبي حنيفة أنه إن كان في أرض العُشر زُكِّيَ وإلا فَلَا.
وقَدْ وَرَدَتْ في زكاة العسل أحاديث متعددة، كحديث بني شبابة، وهم بطن من بني فهم، أنهم كانوا يؤدون زكاة عَسَلِهِمْ إلى النبي - ﷺ - (٢).
وقال البخاري وغير واحد من المحدثين: إِنَّ زكاة العسل لم يثبت فيها حديث واحد قائم، ولم يصح فيها شيء عن النبي - ﷺ -،
_________
(١) انظر: بدائع الصنائع (٢/ ٦١)، الاستذكار (٩/ ٤٨٤ - ٢٨٧)، المجموع (٥/ ٤٥٢، ٤٥٣ - ٤٥٥، ٤٥٦)، المغني (٢/ ٥٧٧)، أضواء البيان (٢/ ٢٢٠ - ٢٢٢).
(٢) ابن أبي شيبة في المصنف (٣/ ١٤١)، وأبو عبيد في الأموال ص ٤٤٤، وأبو داود في الزكاة، باب زكاة العسل، حديث رقم: (١٥٨٥ - ١٥٨٧)، (٤/ ٤٨٨ - ٤٩١)، وابن ماجه في الزكاة، باب زكاة العسل، حديث رقم: (١٨٢٤)، (١/ ٥٨٤)، والنسائي في الزكاة، باب زكاة النّحل، حديث رقم: (٢٤٩٩)، (٥/ ٤٦)، والبيهقي (٤/ ١٢٦ - ١٢٧).
قال ابن عبد البر في الاستذكار (٩/ ٢٨٦): «فأما حديث عمرو بن شعيب فهو حديث حسن» اهـ. وقال ابن الملقن في تحفة المحتاج (٢/ ٥١): «رواه ابن ماجه بإسناد جيد» اهـ.
والحديث له طرق وشواهد متعددة، انظر ذلك في: تنقيح التحقيق (٢/ ١٤١٣)، التلخيص (٢/ ١٦٧، ١٦٨)، الدراية (١/ ٢٦٤)، نصب الراية (٢/ ٣٩١ - ٣٩٢)، إرواء الغليل (٣/ ٢٨٤ - ٢٨٦)، صحيح ابن ماجه (١/ ٣٠٦)، صحيح النسائي (٢/ ٥٢٦).
الكتابِ وحدَه، المُفصِّلُ له وحدَه. وصيغةُ الجمعِ في (جئنا) وفي (فصلنا) إنما هي للتعظيمِ، والمعنَى: ﴿فَصَّلْنَاهُ﴾ التفصيلُ ضِدُّ الإجمالِ. ومعنَى تفصيلِ هذا الكتابِ: جَعَلْنَاهُ مُفَصَّلاً مُوَضَّحًا بَيِّنًا، فيه العقائدُ بتفصيلٍ وإيضاحٍ، والحلالُ والحرامُ والأمثالُ والمواعظُ، وما يُدْخِلُ الجنةَ، وما يُدْخِلُ النارَ، وما يُرْضِي اللَّهَ، وما يُسْخِطُ اللَّهَ، وما تصلح به أحوالُ الإنسانِ في دنياه وآخرتِه، وما تَفْسُدُ به، فقد فصَّل اللَّهُ فيه كُلَّ شيءٍ، وَبَيَّنَ فيه أصولَ كُلِّ شيءٍ، فأوضحَ فيه العقائدَ، ومكارمَ الأخلاقِ، والخروجَ من الشبهاتِ، وَرَفَعَ فيه الْهِمَمَ، وَبَيَّنَ أصولَ الحلالِ والحرامِ، وأصولَ المواعظِ وجميعَ الأشياءِ.
والغريبُ كُل الغريبِ الذي لاَ يقضي الإنسانُ عجبَه منه أن أمةً ينزلُ عليها هذا الكتابُ الذي يقول اللَّهُ فيه: إنه فَصَّلَهُ على عِلْمٍ منه، بَيَّنَهُ مُفَصَّلاً بعلمِ اللَّهِ (جل وعلا) المحيطِ بِكُلِّ شيءٍ، وضمَّنه جميعَ المصالحِ ودرءَ جميعِ المفاسدِ وخيرَ الدنيا والآخرةِ، وهذا كُلُّهُ من رَبِّ العالمين المحيطِ علمُه بِكُلِّ شيءٍ، وهذا كلامُه الذي فصَّله على علمٍ منه وَأَوْضَحَهُ، وَبَيَّنَ فيه معالمَ الخيرِ ومعالمَ الشرِّ، وما يُصْلِحُ دنيا الإنسانِ وآخرتَه، وما يكونُ به على خيرٍ في كِلْتَا الدَّارَيْنِ، وهو تنزيلُ رَبِّ العالمين، وتفصيلُ خالقِ السماواتِ والأرضِ، ومع هذا كُلِّهِ يُرْغَبُ عن هذا الكتابِ ولا يُبَالِي به، ويذهبُ يطلبُ الخيرَ والحقَّ في آراءِ قومٍ كفرةٍ فجرةٍ كلابٍ خنازيرَ!! فهذا من غرائبِ الدهرِ وعجائبِه!! كيف تُصْرَفُ هذه الأمةُ عن هذا الكتابِ المنزلِ الذي هو كلامُ ربِّ العالمين، وما فيه من المعانِي، وما فيه من العقائدِ والحلالِ والحرامِ والمعاملاتِ والمواعظِ ومكارمِ الأخلاقِ، وإيضاحِ علاقاتِ المجتمعِ فيما بينَه، وإيضاحِ حالةِ الإنسانِ في نفسِه، وما ينبغي أن
وعلى هذا القول فالشهادة من شهادة بني آدم لما استخرجوا من ظهور آبائهم ليلة الميثاق في صورة الذر يشهد بعضهم على بعض، وهذا معنى قوله: ﴿أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ لم نعلم.
﴿أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ﴾ أولادًا سرنا على ما كان عليه آباؤنا، ولم نخترع الكفر، ولم نتخذه طريقًا ﴿أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٧٣] قد قدّمنا مرارًا (١) أنه إذا جاءت همزة استفهام بعدها أداة عطف كالفاء، والواو، وثم أنها فيها وجهان من التفسير للعلماء:
أحدهما: أن همزة الاستفهام تتعلق بمحذوف، والفاء عاطفة عليه. وهذا الذي مال إليه ابن مالك في الخلاصة حيث قال (٢):
وَحَذْفَ مَتْبُوعٍ بَدَا هُنَا اسْتَبِحْ..................................
وعلى هذا القول: أتعاملنا بغير ما فعلنا فتهلكنا بما فعل المبطلون؟
وقال بعض العلماء: همزة الاستفهام أصْلُهَا بعد الفاء، إلا أن للاستفهام صدر الكلام، فتَزَحْلَقَتِ الهمزة قبل الفاء، والفاء قبل الهمزة في الرُّتْبَة، فتكون الفاء عاطفة للجملة المصدرة بالاستفهام على ما قبلها، والأول أظهر. وهذا معنى قوله: ﴿أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٧٥) من سورة البقرة.
(٢) السابق.
وقهرهم- شفى صدور الخزاعيين حيث أخذوا بثأرهم وأذل الله عدوهم. وهذا معنى قوله: ﴿وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾ [التوبة: الآيتان ١٤، ١٥] لِمَا نالوا من شفاء غليل صدورهم من قهر أعدائهم كما قال الشاعر (١):
تعلَّمْ شِفَاءَ النَّفسِ قَهْرَ عَدُوِّهَا | فَبَالِغْ بِلُطْفٍ فِي التَّحَيُّلِ والمَكْرِ |
﴿وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ﴾ قراءة الجمهور: ﴿وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ﴾ لأنها ليست معطوفاً على الجزاء، والأفعال المعطوفة على الجزاء جُزمت، والقراءة هنا هي الجزم.
أما اللغة فيجوز في الأفعال المعطوفة على الشرط والجزاء معاً بعد أن تستكمل أداة الشرط شرطها وجزاءها، فالأفعال المعطوفة عليها معلوم أنها يجوز فيها ثلاث لغات: الجزم كما في قراءة هذه الآيات، والرفع، والنصب، وهو معنى معروف في كلامهم، وفي أوجه العربية الثلاثة يروى قول نابغة ذبيان (٢):
فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قابوسَ يَهلِكْ... رَبِيعُ النَّاسِ والشَّهْرُ الحَرَامُ...
وَنَأْخُذَ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ | أجَبّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ |
_________
(١) البيت في أوضح المسالك (١/ ٢٩٥)، شذور الذهب ص٣٦٢.
(٢) ديوان النابغة ص١٥٧.