أنكَ إن أَثْبَتَهُمَا كنتَ مُشَبِّهًا لي بالحيواناتِ التي تسمعُ وتبصرُ، لا. أَثْبِتْ لِي صفةَ سَمْعِي وبصري إثباتًا مُرَاعًى فيه قَوْلِي قَبْلَهُ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ ولأجلِ هذه الحكمةِ قال: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾.
فأولُ هذين الأَصْلَيْنِ - الذي هو الأساسُ الأكبرُ للتوحيدِ والصلةِ بِاللَّهِ صلةً صحيحةً -: تنزيهُ خالقِ السماواتِ والأرضِ عن أن يُشْبِهَ شيئًا مِنْ خَلْقِهِ بِأَيِّ شيءٍ مِنْ صِفَاتِهِمْ.
الأساسُ الثاني: هو أن لا تتنطعَ - أيها المسكينُ - وتنفيَ عن اللَّهِ وصفًا مَدَحَ به نفسَه، أو أَثْنَى عليه به رسولُه، بل أَثْبَتَ له هذا الوصفَ مُرَاعِيًا في ذلك أنه (جل وعلا) ليس كمثلِه شيءٌ، كما قال: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ بعد: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.
فعلينا أن نُنَزِّهَ اللَّهَ عن مُشَابَهَةِ الخلقِ، وعلينا أن نُصَدِّقَ اللَّهَ بما وَصَفَ به نفسَه، ونُصَدِّقَ رسولَه بما وَصَفَ بِهِ رَبَّهُ، ولا يخطرُ في عُقُولِنَا التشبيهُ بصفاتِ المخلوقين. ومَنْ المخلوقون حتى تُشْبِهَ صفاتُهم صفاتِ خالقِهم؟ أليسوا أثرًا مِنْ آثارِ قدرتِه وإرادتِه؟ وكيف تُشْبِهُ الصنعةُ صانعَها؟
ولو تَنَطَّعَ مُتَنَطِّعٌ وقال: نحن ما عَرَفْنَا صفةَ سمعٍ ولا بصرٍ مُنَزَّهَةً عن صفةِ الخلقِ، وما عَلِمْنَا صفةَ وجهٍ منزهة عن صفاتِ الخلقِ، وما عَلِمْنَا كيفيةَ صفةِ استواءٍ منزهةً عن استواءاتِ الْخَلْقِ، فَبَيِّنُوا لنا كيفيةَ هذه الصفاتِ حتى نعقلَ كيفيةً منزهةً نَعْتَقِدُهَا.
فنقول في هذا: قال مالكُ بنُ أنسٍ: السؤالُ عن هذا
وجميع الأحاديث الواردة في زكاة العسل لا يخلو إسناد شيء منها من قادح وكلام (١). قالوا: والأصل براءة الذمة، وعَضَّدُوا عدم الزكاة في العسل بالقياس على اللبن، قالوا: إن العسل واللبن كلاهما مائِع خارج من حيوان، واللبن لا زكاة فيه، والعسل كذلك.
والحاصِل أن العسل وردت في الزكاة فيه أحاديث متعددة. قال بعضهم: بعضها يشدّ بعضًا. وأخذ بمضمونها الإمام أحمد في طائفة من العلماء، فأوجب الزكاة في العسل، والجمهور: منهم الشافعي في الجديد، ومالك، قالوا: لا زكاة في العسل؛ لأنه لم يثبت فيه شيء، والأصل براءة الذمة، وليس هو مما تنبته الأرض مباشرة حتى يدخل في عموم: ﴿وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ﴾ [البقرة: الآية ٢٦٧].
أيضًا كذلك اختلفت الرواية عن الإمام أحمد في الزيتون (٢)، وروى عنه بعض أصحابه أن فيه الزكاة، وروى بعضهم أنه ليس فيه الزكاة.
وليس عند الإمام أحمد زكاة في العُصْفُر، ولا في
_________
(١) وقال الترمذي (السنن ٣/ ١٦): «ولا يصح عن النبي - ﷺ - في هذا الباب كبير شيء، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وبه يقول أحمد وإسحاق. وقال بعض أهل العلم: ليس في العسل شيء» اهـ. وقال ابن المنذر: «ليس فيه شيء ثابت» اهـ.
انظر: التلخيص (٢/ ١٦٨)، تنقيح التحقيق (٢/ ١٤١٢)، وللوقوف على كلام العلماء على الأحاديث الواردة في هذا الباب، انظر: تنقيح التحقيق (٢/ ١٤١١ - ١٤١٤)، التلخيص (٢/ ١٦٧ - ١٦٨)، الدراية (١/ ٢٦٤)، نصب الراية (٢/ ٣٩٠ - ٣٩٣)، الإرواء (٣/ ٢٨٤ - ٢٨٧).
(٢) انظر: المغني (٢/ ٥٥٣).
يكونَ عليه، وما ينبغي أن يكونَ عليه مع مجتمعِه الخاصِّ، ومع مجتمعِه العامِّ، وما يكون عليه مع أعدائه، كُلُّ هذا فَصَّلَهُ رَبُّ العالمين، وَأَوْضَحَهُ وزاده بيانًا رسولٌ كريمٌ: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (٤)﴾ [النجم: الآيتان ٣، ٤] فَتَرَكَهَا محجةً بيضاءَ ليلُها كنهارِها، لا يزيغُ عنها إلا هَالِكٌ.
مَنْ سَلَكَ هذا القرآنَ العظيمَ، وعمل به، وبالسنةِ المبينةِ له نَالَ خيرَ الدنيا وخيرَ الآخرةِ، وكان أعظمَ الناسِ هيبةً، وَأَقْوَاهُمْ شوكةً، وَأَعَزَّهُمْ مَنَعَةً، ومع هذا كُلِّهِ فالأمةُ التي نَزَلَ القرآنُ على أسلافِها تَخَلَّتْ عن هذا الكتابِ المحكمِ الذي هو كتابُ رَبِّ العالمين، الذي قال فيه: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [الأعراف: آية ٥٢] المُفصِّلُ له هو اللَّهُ على علمٍ من الله المحيطِ علمُه بِكُلِّ شيءٍ، ومع هذا يتركونَه ولا ينظرونَ إليه، وينبذونَه وراءَ ظهورِهم، ويذهبونَ يطلبونَ الرشدَ ومصالحَ أمرِهم في قوانينَ وَنُظُمٍ رَتَّبَهَا كفرةٌ فجرةٌ جهلةٌ مُظْلِمَةٌ قلوبُهم، هم كالأنعامِ أو أضلُّ سبيلاً!! فهذا من أغربِ ما يشاهده الإنسانُ! ولو أننا لم نَرَهُ عيانًا لَمَا كُنَّا نصدق أن عاقلاً يذهب عن كلامِ رَبِّ العالمين الذي بَيَّنَ فيه الرشادَ وخيرَ الدنيا وخيرَ الآخِرَةِ، وأوضحَ فيه كُلَّ شيءٍ يتركه عمدًا زاعمًا أنه لا يُنَظِّمُ علاقاتِ الحياةِ، ولا يسايرُ رَكْبَ الحضارةِ، ثم يذهبُ إلى نُظُمٍ وَضْعِيَّةٍ، وقوانينَ إفرنجيةٍ وَضَعَهَا ملاحدةٌ لاَ يعلمونَ عن الله شيئًا، لاَ يعلمونَ إِلاَّ ظاهرًا من الحياةِ الدنيا وهم عن الآخرةِ هم غافلونَ.
فهذا من أغربِ ما وقع في التاريخِ!! نسألُ اللَّهَ أن يُبَصِّرَنَا بهداه ولا يُضِلَّنَا، ولكنا بَيَّنَّا مرارًا أن الذين يَنْصَرِفُونَ عن أنوارِ القرآنِ وَهُدَى القرآنِ يطلبونَ الرشادَ في نظمٍ كفريةٍ قانونيةٍ، مخالفةٍ لهدى اللَّهِ وكتابِه الذي فَصَّلَهُ على عِلْمٍ منه هُدًى وَرَحْمَةً، أن
المبطلون: هم الذين يأتون بالباطل وهو ضِدّ الحق، الذين عبدوا غير الله (جلّ وعلا). وهذا معنى قوله: ﴿أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٧٣].
﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤)﴾ وكذلك التفصيل الواضح. الكاف في محل وصفٍ لمصدر، أي: نُفَصِّل الآيات تفصيلاً كذلك التفصيل الواضح، كما بَيَّنَّا أخبار هذه الأمم، وما جَرَى عليها، وسبب إهلاك مَنْ هَلَكَ منها، ونجاة مَنْ نَجا منها. والتفصيل ضِدّ الإجْمَالِ ﴿نُفَصِّلُ الآيَاتِ﴾ ونُوَضِّحُهَا كذلك التفصيل ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ ولأجل أن يرجعوا إلى طريق الهدى فَصَّلنَاهَا ذلك التفصيل. فالظاهر أنّ متعلق الجملة محذوف، أي: ولأجل أن يرجعوا فَصَّلْنَاها ذلك التفصيل ليعتبروا به ويهتدوا به فينيبوا. وهذا معنى قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤)﴾ [الأعراف: آية ١٧٤].
[٢٤/أ] / قال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ (١٧٧)﴾ [الأعراف: الآيات ١٧٥ - ١٧٧].
﴿اتل﴾ معناه: اقرأ عليهم يا نَبِيَّ الله. نبأ: أي خَبَرَ هَذَا الذي آتيناه آيَاتِنَا فانْسَلَخَ منها. وهذا الذي آتاه الله آياته أكثر المفسرين يقولون (١): إنه رَجُل مِنْ بَنِي إسرائيل. وبعض العلماء يقول: هو
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٣/ ٢٥٢)، القرطبي (٧/ ٣١٩)، ابن كثير (٢/ ٢٦٤).
إلى الله ويتوب عليهم. وتوبة الله على عبده هي أن يُقِيلَ عَثْرَتَهُ، ويقبل منه رجوعه حتى يكون الذي صَدَرَ مِنْه كَأَنّه لم يكن.
﴿عَلَى مَن يَشَاءُ﴾ أن يَتُوبَ عَلَيْهِ، فمفعول المشيئة محذوف.
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ كثير العلم يبالغ في علم نفسه لإحاطة علمه بكل شيء ﴿حَكِيمٌ﴾ لأنه حكيم في شرعه وفي أقواله وأفعاله وتدبيره وجزائه، فهو حكيم في كل شيء، وله الحكمة البالغة (جلّ وعلا).
قال الله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٦) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (١٧) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩)﴾ [التوبة: الآيات ١٦ - ١٩].
يقول الله (جلّ وعلا): ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٦)﴾ [التوبة: آية ١٦].
(أم) هنا هي المنقطعة. ومعنى (أم) المنقطعة عند علماء العربية: أنها تأتي بمعنى استفهام الإنكار، وبمعنى (بل) الإضرابية، وتأتي بمعناهما معاً، وهو أجودها (١).
_________
(١) انظر: الكليات ص١٨٢، معجم الإعراب والإملاء ص٧٨.