بدعةٌ (١). ولكن نَتَنَزَّلُ معه ونقولُ: أيها المتنطعُ: هَلْ عَرَفْتَ كيفيةَ الذاتِ الكريمةِ المقدسةِ المتصفةِ بهذه الصفةِ؟ فلا بد أن يقولَ: لا، فنقولُ: معرفةُ كيفيةِ الاتصافِ بهذه الصفاتِ متوقفةً على معرفةِ كيفيةِ الذاتِ.
هذانِ أَصْلاَنِ:
الأولُ منهما: تنزيهُ خالقِ السماواتِ عن أن يُشْبِهَ شيئًا مِنْ خَلْقِهِ.
الثاني: تصديقُه فيما وَصَفَ به نفسَه، وعدمُ تكذيبِه، وتصديقُ رسولِه بما وَصَفَ به رَبَّهُ تصديقًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ، على نحوِ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١] فأولُ الآيةِ تنزيهٌ من غيرِ تعطيلٍ، وآخِرُهَا إثباتٌ للصفاتِ من غيرِ تشبيهٍ ولا تمثيلٍ، وإن كانت الحيواناتُ تسمعُ وَتُبْصِرُ.
الأصلُ الثالثُ: هو أن نقطعَ طَمَعَنَا عن إدراكِ كيفيةِ صفاتِ اللَّهِ (جل وعلا). وَاللَّهُ قد نَصَّ على عجزِ الخلقِ عن الإحاطةِ بإدراكِ كيفياتِه. أَشَارَ إلى ذلك في السورةِ الكريمةِ - سورةِ طه - حيث قَالَ: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: آية ١١٠].
هذه الأصولُ الثلاثةُ:
الأولُ: تنزيهُ اللَّهِ.
_________
(١) الرد على الجهمية للدارمي ص ٣٣، البيهقي في الأسماء والصفات ص ٥١٥، اللالكائي رقم (٦٦٤)، شرح السنة (١/ ١٧١)، مختصر العلو رقم (٢٠٨)، فتح الباري (١٣/ ٤٠٦ - ٤٠٧).
الكتان (١)، وإنما الزكاة عند أحمد -رحمه الله- بما استوجب ثلاثة أشياء؛ لأن علّة الزكاة عنده مركبة من ثلاثة أوصاف، وهي: أن يكون الشيء مكيلاً، وأن يكون ييبس، لا يبقى مبلولاً دائمًا، وأن يكون يبقى ويجوز ادِّخاره لبقائه، فكل ما جمع هذه الأوصاف الثلاثة، بأن كان يُكال وييبس ويبقى، ففيه الزكاة عند الإمام أحمد (٢)؛ ولذا قال: إن بعض الأشجار ثمارها تُكال وتَيْبَس وتبقى، ولا يُشترط كونها قوتًا، سواء كانت قوتًا أو غير قوت؛ ولذا أوجب الإمام أحمد الزَّكاة في بعض ثمار الأشجار التي لم يُوجِبْهَا مَالِك والشافعي؛ لأن مالكًا والشافعي اشْتَرَطَا الاقتيات والادِّخَار، وأحمد لم يشترط الاقتيات، قال: إن كان الشيء يُكال وييبس ويبقى وجبت فيه الزكاة؛ ولذا أوجب الزكاة في بعض ثمار الأشجار؛ لأنها تيبس وتبقى، وإن كانت لا يمكن أن تكون قوتًا، فأوجبها في بعض ثمار الأشجار؛ كالفستق، والبندق، وما جرى مجراهما. هذا مذهب الإمام أحمد. وكذلك أوجب الزكاة في كل حبّ ييبس ويَبْقى ويكال، وإن كان لا يُقتات، وتجب الزكاة عنده في الأبازير التي تُصلح الطعام؛ كالكمون بنوعيه: الأحمر والأسود، والكراويا، واليانسون، وما جرى مجرى ذلك. وتجب عنده في كل بذر يزرع، وتجب عنده الزكاة في بذر الكتان، وفي بذر الخيار والقثاء، وكل ما جرى مجرى ذلك؛ لأنها حبوب تيبس وتُكال وتبقى، هذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله (٣).
_________
(١) انظر: المغني (٢/ ٥٥٢).
(٢) انظر: المصدر السابق (٢/ ٥٤٩).
(٣) انظر: المصدر السابق (٢/ ٥٤٩).
الذي جَرَّهُمْ إلى ذلك أنَّ القرآنَ أعظمُ نُورٍ، وَاللَّهُ يُسَمِّيهِ النورَ في آياتٍ كثيرةٍ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا (١٧٤)﴾ [النساء: آية ١٧٤] ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا﴾ [التغابن: آية ٨] على عَبْدِنَا ﴿وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ [الشورى: آية ٥٢] فهو نورٌ أعظمُ نورٍ، وهؤلاء الذين ينصرفونَ عنه إلى النُّظُمِ الوضعيةِ الكافريةِ في الحقيقةِ هم خفافيشُ البصائرِ، والخفاشُ لا يُلاَمُ إذا كان لا يمكنُ أن يَرَى ضوءَ الشمسِ؛ لأن بصيرتَه ليس لها استعدادٌ ولا قوةٌ على مقابلةِ الشمسِ.
مِثْلَ النَّهَارِ يَزِيدُ أَبْصَارَ الْوَرَى... نُورًا وَيُعْمِي أَعْيُنَ الْخُفَّاشِ (١)...
خَفَافِيشُ أَعْمَاهَا النَّهَارُ بِضَوْئِهِ | وَوَافَقَهَا قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمُ (٢) |
إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلْمَرْءِ عَيْنٌ صَحِيحَةٌ | فَلاَ غَرْوَ أَنْ يَرْتَابَ وَالصُّبْحُ مُسْفِرُ (٣) |
(١) مضى عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.
(٣) السابق.
رجل من الكنْعَانيِّين الجبارين الذين أُمر الإسرائيليون بقتالهم.
واعلموا أن قول من قال من العلماء إن معنى: ﴿آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا﴾: آتيناه النبوة. أنه قول باطل لا يُشك في بطلانه، كما أوْضَحه الماوردي وغيره (١)؛ لأن الأنبياء لا يفعلون هذه الأفعال ولا يَنْسَلِخُون من آيات الله؛ لأن الله لم يجعل نبوّته إلا في مَنْ يَعْلَم أنَّه أهل لها، كما قدمنا إيضاحه في الأنْعَام في الكلام على قوله: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالاته﴾ [الأنعام: آية ١٢٤] على إحدى القراءتين (٢)، وهي أخبار إسرائيلية لم يدل شيء على صحة تعيين هذا ﴿الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا﴾ وأكثر المفسرين والمؤرخين يقولون: إنّه رجل من بني إسرائيل يُقال له: بلعام بن باعوراء. وبعضهم يقول: بلعم بن باعر، وفيه غير ذلك.
ومعنى ﴿آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا﴾ لا يقتضي النبوة، فكل من أُعطي شيئًا مِنْ كِتَابِ الله بواسطة نبي من الأنبياء فقد أُوتي الكتاب، وقد قال تعالى: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [البينة: آية ٤] وهم ليسوا أنبياء، وقال في هذه الأمّة: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ [فاطر: آية ٣٢] ﴿خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ﴾ [البقرة: آية ٦٣] فإنّ إيتاء الآيات قد يكون بالأخذ عن الرسل. والمفسرون يقولون: إن هذا الرجل الذي هو بلعام بن باعوراء -قبّحه الله- ويقال: بلعم بن باعوراء، أو ابن باعر، أو غير ذلك أنه أعطاه الله الاسم الأعظم، وبعضهم يقول: علمه الله شيئًا من كتبه المنزّلة، فكان يعلم
_________
(١) النكت والعيون (٢/ ٢٧٩).
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ص١٨٦، الكشف عن وجوه القراءات السبع (١/ ٤٤٩) وراجع منه ص٤١٥.
و (حسبتم) معناه ظننتم. والإنكار الذي في قوله: «أم» يتوجه إلى من ظن أنه يدخل الجنة من غير ابتلاء ولا امتحان. والمعنى: أحسبتم، أي: أظننتم أن الله يترككم من غير أن يختبركم بالمشاق التي يظهر بالاختبار بها المطيع من العاصي، والمحق من المبطل، والصادق من الكاذب؟ والمعنى: لا بد أن يبتليكم الله ويمتحنكم بأنواع الابتلاء، ومن أعظمها: الأمر بالجهاد في سبيل الله الذي فيه تعريض المُهَج والأمْوَال للتَّلَفِ والضياع؛ لأن ذلك يظهر به الزائف من الخالص، ويُتَبَيَّن به الصَّادِق مِنَ الكَاذِبِ، وهذا معنى قوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ يعني أظننتم؟ الحسبان معناه الظن ﴿أَن تُتْرَكُواْ﴾ أن يَتْرُككم الله من غير اختبار ولا امتحان ولا ابتلاء؟ لا. لا يكون ذلك أبداً ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ﴾ هي (لم) النافية دخلت عليها (ما) المزيدة لتوكيد النفي، وهي تدل على توقع حصول الأمر ولم يحصل بالفعل. وقوله: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ﴾ أي: يترككم الله ولم يختبركم اختباراً يُعلم به من هو الصادق منكم ومن هو الكاذب، ومن هو المخلص وغيره.
وهذه الآيات وأمثالها في القرآن التي ربما يفهم الجاهل منها أن الله يختبرهم ليطرأ له علم بذلك الاختبار، هذا لا يُراد؛ لأنَّ عَالِمَ الغيب والشهادة عالمٌ بِمَا كان وما سيكون وما يقع، وعالم بالمعدومات والموجودات والجائزات والمستحيلات، حتى إنه مِنْ إِحَاطَةِ علمه ليعلم المعدوم الذي سبق في علمه أنه لا يوجد وأنه لا يكون يعلم أن لو كان كيف يكون، كما أوضحناه مراراً (١).
_________
(١) راجع ما سبق عند تفسير الآية (٥٩) من سورة الأنعام.