الثاني: الإقرارُ بصفاتِ اللَّهِ مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ على غِرَارِ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.
الثالثُ: قَطْعُ الطمعِ عن إدراكِ الكيفيةِ.
وأنا أُؤَكِّدُ لكم - أيها الإخوانُ - أَنَّا جميعًا سننتقلُ من هذه الدارِ إلى القبورِ، وننتقلُ سريعًا من القبورِ إلى عَرَصَاتِ القيامةِ. ولا شَكَّ أننا هناك نُناقَشُ عَنْ كُلِّ ما قَدَّمْنَا، وما أَسْلَفْنَا من خيرٍ أو شَرٍّ، ومما يسألنا اللَّهُ عنه: هل ما مدحتُ به نفسي وأثنيتُ به على [نفسي] (١) أو أَثْبَتَهُ لِي [رَسُولِي يُعَدُّ تَشْبِيهًا؟ لو مُتُّمْ يا إخواني وأنتم على هذا الْمُعْتَقَدِ، أترون اللَّهَ يومَ القيامةِ يقولُ لكم: لِمَ نَزَّهْتُمُونِي عن مشابهةِ الخلقِ؟ ويلومُكم على ذلك؟ لا وكلاَّ، وَاللَّهِ لا يلومُكم على ذلك. أترونَ أنه يلومُكم على أنكم آمَنْتُمْ بصفاتِه، وَصَدَّقْتُمُوهُ فيما أَثْنَى به على نفسِه، ويقولُ لكم: لِمَ آمَنْتُمْ بِمَا أَثْبَتُّ لنفسي.. ] (٢) ولا بما قد نَصَّ رسولي - ﷺ - فيما أَثْنَى به عَلَيَّ، تصديقًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ. لاَ وكلاَّ، أبدًا، فهو طريقُ سلامةٍ محققةٌ، ولا يقولُ له: لِمَ لاَ تَدَّعِي أن عقلَك المسكينَ القصيرَ محيطٌ بكيفياتِ صِفَاتِي؟ لا أبدًا. فهذه طريقُ سلامةٍ محققةٌ، وهي التي سارَ عليها النبيُّ - ﷺ -، والسلفُ الصالحُ، والقرونُ المشهودُ لهم بالخيرِ، بيضاءَ ليلُها كنهارِها؛ لأنَّ على العبدِ أن يُنَزِّهَ خالقَه عن مشابهةِ الخلقِ، وأن يؤمنَ
_________
(١) في هذين الموضعين انقطع الصوت في التسجيل. وقد استدركتُ النقص من المواضع التي تكلم فيها الشيخ (رحمه الله) على هذه المسألة بنحو هذا الكلام، كما في محاضرة الصفات ص٤٤ - ٤٥، ومن كلامه في هذا التفسير كما في الأنعام عند الآيتين (١٠٣، ١٥٨)، الأعراف (٥٤، ٩٩، ١٤٤)، التوبة (٢١).
(٢) نفس المصدر السابق.
وهؤلاء الأئمة الثلاثة لا تجب عندهم الزكاة إلا فيما بلغ الخمسة الأوسق (١) -أعني: مالكاً والشافعي والإمام أحمد- لأن عموم: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاء العُشر» (٢) وعموم: ﴿وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ﴾ [البقرة: الآية ٢٦٧] يخصصه عندهم حديث: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ صَدَقة» (٣) فأقل نصاب الحبوب والثمار أن يبلغ خمسة أوسق.
والوسْقُ - بالفتح والكسر- ستون صاعاً بإجماع العلماء (٤).
والصاع الشرعي النبوي بالتقريب: ملء اليدين المتوسطتين، لا مقبوضتين ولا مبسوطتين (٥)،
_________
(١) انظر: المدونة (١/ ٣٣٩)، الكافي لابن عبد البر (١/ ١٠١، ١٠٣)، المجموع (٥/ ٤٥٦، ٤٥٧، ٤٥٨، ٤٥٩)، المغني (٢/ ٥٥٣)، القرطبي (٧/ ١٠٧)، أضواء البيان (٢/ ٢٢٥، ٢٢٩).
(٢) مضى عند تفسير الآية (١٣١) من سورة الأنعام.
(٣) السابق.
(٤) انظر: الكافي لابن عبد البر ص ١٠٣، المجموع (٥/ ٤٥٨)، المغني (٢/ ٥٦٠)، حلية الفقهاء ص ١٠٣، المحلى (٥/ ٢٤٠)، القرطبي (٧/ ١٠٧).
(٥) في الكافي لابن عبد البر ص ١٠٣، والمحلى (٥/ ٢٤٠)، والأضواء (٢/ ٢٣٠) وغيرها من المصادر: «والصاع: أربعة أمداد بمد النبي عليه الصلاة والسلام» اهـ. ولعل الشيخ رحمه الله أراد المد فسبق لسانه إلى الصاع. ويدل على ذلك قوله في الأضواء (٢/ ٢٣٠): «واعلم أن الصاع أربعة أمداد بمده - ﷺ - والمد بالتقريب: ملء اليدين المتوسطتين، لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، وتحديده بالضبط: وزن رطل وثلث بالبغدادي. فمبلغ الخمسة الأوسق من الأمدد: ألف مد ومائتا مد، ومن الصيعان: ثلاثمائة، وهي بالوزن: ألف رطل وستمائة رطل. والرطل: وزن مائة وثمانية وعشرين درهمًا مكيًّا، وزاد بعض أهل العلم: أربعة أسباع درهم، كل درهم وزن خَمْسِين وخُمُسَي حبة من مطلق الشعير... » اهـ.
ومما يدل أيضًا على أن مراده (المد): أنه ذكر مقداره بعده بقوله: «وهو بالضبط... » إلخ.
ولم يَكْفِ هؤلاء المساكين الخفافيشَ، لم يَكْفِهِمُ الإعراضُ عن القرآنِ، وتركُه وراءَ ظهورهم، وتفضيلُ آراءِ الكفرةِ الفجرةِ عليه، لم يَكْفِهِمْ ذلك أن طَعَنُوا فيه، وَزَعَمُوا أن بعضَ تشاريعِه التي نَظَّمَهَا اللَّهُ وَشَرَّعَهَا أنها ليست عادلةً - والعياذُ بالله - وَمَنْ زَعَمَ هذا فقد طَعَنَ في حكمةِ اللَّهِ، وَكَفَرَ بالله كُفْرًا بوَاحًا.
ترى الجهلةَ الملاحدةَ الذين صَبَغَهُمُ الإفرنجُ كما يشاؤون يقولونَ: كيفَ يَجْعَلُ دينُ الإسلامِ ميراثَ المرأةِ أقلَّ من ميراثِ الرجلِ وعينُ القرابةِ التي يُدْلِي بها الرجلُ هي عينُ القرابةِ التي تُدْلِي بها المرأةُ، فكيف يكونُ نَفْسُ ما يُدْلِي به الرجلُ هو ما تُدْلِي به المرأةُ ثم يُفَضِّلُهُ عليها؟ (١).
وَاللَّهُ (جل وعلا) يعلمُ أن هذا سَيَضِلُّ به قومٌ، وأن مَنْ زعم أن تفضيلَ الرجلِ على المرأةِ في الميراثِ ليس بحكمةٍ ولا صوابٍ أنه ضَالٌّ؛ وَلِذَا بَيَّنَ هذا من غرائبِ القرآنِ حيث قال بعدَ قولِه: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: آية ١٧٦] أَتْبَعَهُ بقولِه: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء: آية ١٧٦] فَبَيَّنَ أن مَنْ لَمْ يَتَّبِعْ هذا التشريعَ وَطَعَنَ فيه أنه ضَالٌّ، وهو كما قال الله.
ثم يقولونَ: كيف يَجْعَلُ دينُ الإسلامِ الطلاقَ بيدِ الرجلِ من غيرِ إِذْنِ المرأةِ، مع أن عقدَ النكاحِ أَوَّلاً لم يكن إلا بإذنِ المرأةِ وَرِضَاهَا، فهي عقدةٌ اجْتَمَعَا عليها، فكيف يَجْعَلُ الاستقالةَ منها للرجلِ وحدَه دونَ إِذْنِ المرأةِ؟
ثم يقولونَ بالفلسفاتِ الشيطانيةِ: ربما أَفْنَى الرجلُ جمالَها وشبابَها حتى صارت لاَ يَرْغَبُ فيها غيرُه ثم يُلْقِيهَا وَيُطَلِّقُهَا فتبقَى ضائعةً، وهذا ظُلْمٌ. وَيُلَفِّقُونَ نحوَ هذا من الفلسفاتِ
_________
(١) انظر: الأضواء (١/ ١٥٨).
بعض كتب الله التي أنزلها. وهذا معنى ﴿آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا﴾ سواء قلنا: إن الله علّمه بعض الكتب المنزلة، أو أنه علّمه الاسم الأعظم.
﴿فَانسَلَخَ مِنْهَا﴾ -والعياذ بالله- انسلخ منها: خرج منها -والعياذ بالله- ولم يعلق به شيء منها.
والمفسرون يقولون: إنه بلعام بن باعوراء، وأنه أغراه الكنعانيون الجبارون بالمال فقالوا له: ادع على نبيّ الله موسى وقومه -مع أنّ نبيّ الله موسى الذي يذكر المفسرون أنه مات في التيه، وأنّ الذي دَخَلَ القرية وفتح الله على يَدَيْهِ يوشع بن نون وهم يزعمون في قصته أنهم أمروه أنْ يدعو على موسى- فقال: كيف أدعو على مَنْ مَعَهُ الملائكة؟ ولم يزالوا به يغرونه بالمال حتى دعا على موسى.
وبعض العلماء يقول: إنه دعا على موسى كان ذلك سبب التيه، وهذا بعيد جدًّا.
فعلى كل حال يقولون: إنه دعا على نبيّ الله موسى، فلما أراد أنْ يدعو عليه حوّل الله دُعَاءَهُ على القوم الذين يريدونه أنْ يدعو على موسى، فقالوا: دَعَوْتَ عَلَيْنَا. فقال: ما أقدر على غير هذا.
وقال بعض العلماء: إنه كان له ثلاث دعوات مُجَابَة أعطاه الله إياها، وأنه كان يعلم الاسم الأعظم فأعطاه الله ثلاث دعوات -وكل هذه إسرائيليات- يزعمون أن هذه الدعوات الثلاث المجابة أنه ضيّعها في امرأته كانت من أقبح نساء بني إسرائيل فلم تزل به حتى دعا الله أنْ يجعلها أجمل امرأة، فدعا الله فصارت أجمل امرأة، فلما بلغت هذا الجمال تكبَّرَتْ عنه وطلبت غيره، فدعا الله عليها فصارت كلبة نبّاحة، فآذى ذلك أولادها، ولم يزالوا به حتى دعا الله عليها أنْ
وجرت العادة في القرآن أن الله تبارك وتعالى إذا جاء عنه بعض الآيات التي فيها شبه خفاء لا بد أن يبيّنه ويوضحه في بعض المواضع، وقد أوضح هذا في آية من سورة آل عمران قدمناها مراراً، أوضح فيها أنه يختبر ويبتلي ليُظهر للناس حقيقة الناس، ويعلموا المخلص من الزائف، والصادق من الكاذب، وتلك الآية هي قوله تعالى: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [آل عمران: آية ١٥٤] بيّن أن ما أوقع بهم يوم أحد من تسليط المشركين عليهم وقتل سبعين منهم أنه فعل ذلك لأجل أن يبتليهم ويختبرهم ويمحص ما في قلوبهم، فظهر المنافقون من الصادقين، ومع هذا قال بعد قوله: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ﴾ قال: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران: آية ١٥٤] ومن هو عالم بما يخطر في الضمائر لا يستفيد بالاختبار علماً سبحانه (جلّ وعلا) عن ذلك. فالمراد بـ ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ﴾ هنا إظهار مَعْلُومَهُ لِلنَّاسِ، أو العلم الذي يترتب عليه الثواب والجزاء؛ لأن الله عالم بأفعالهم قبل أن يفعلوها، وعلمه بها أولاً لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب، وعالم أيضاً بها وقت فعلها وذلك العلم الذي يترتب عليه الثواب والعقاب. وقال البغوي (رحمه الله) في تفسير هذه الآية الكريمة: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ﴾ يعني: أحسبتم أن يترككم الله ولم يرَ الله عملكم حتى يتبيّن للناس المخلص من غيره (١).
وعلى هذا التفسير الذي فسرها به فالمعنى يشبه قوله: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ﴾ [التوبة: آية ١٠٥] وعلى كل حال فيجب على كل مسلم أن يعتقد أن علم الله محيط بكل شيء،
_________
(١) تفسير البغوي (٢/ ٢٧٣).