بصفاتِ رَبِّهِ، ولا يُكَذِّبَ رَبَّهُ، ولا نَبِيَّهُ، إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ، ويعرف قَدْرَ عقلِه، ويعلمَ أنه عاجزٌ عن الإحاطةِ بكيفياتِ خالقِ السماواتِ والأرضِ.
الأصلُ الأولُ بقولِه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ والثاني بقولِ: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ بعدَ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ والثالثُ بقولِه: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ فَعَلَيْنَا - معاشرَ المؤمنين - أن نُمِرَّ آياتِ الصفاتِ وأحاديثَها، ونصدقَ اللَّهَ بما مَدَحَ به نفسَه، ونعلمَ أنه لا يمدحُ نفسَه بنقصٍ ولا باطلٍ، ولا يُثْنِي على نفسِه إلا بكمالٍ وجلالٍ، ونُنَزِّهَ ربَّنا عن صفاتِ المخلوقين، فبالتنزيهُ نَسْلَمُ من ورطةِ التشبيهِ، وبالإيمانِ والتصديقِ بصفاتِ اللَّهِ نَسْلَمُ من ورطةِ التعطيلِ ونكون مؤمنين موحدين منزهين، لسنا مُرْتَطِمِينَ في تشبيهٍ، ولسنا مرتطمين في تعطيلٍ، هذا هو الوجهُ فيما جاءَ من هذه الصفاتِ؛ وَلِذَا قال اللَّهُ: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ ابتغاءَ وجهِ اللَّهِ. فالمعنَى: أن ذلك العملَ خالصٌ لِلَّهِ، لا يشوبُه رياءٌ ولا سُمْعَةٌ ولا غَرَضٌ من أغراضِ الدنيا. وهذا معنى قولِه: ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾.
وقولُه: ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: آية ٥٢] هذه الآيةُ والآياتُ التي نَزَلَتْ مثلها في قضيةِ نوحٍ في سورةِ هودٍ (١)، وفي سورةِ
_________
(١) وهي قوله: ﴿وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ﴾ [هود: آية ٢٩] وقوله في الآية بعدها: ﴿وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ [هود: آية ٣٠] وذلك بعد قولهم له: ﴿مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾ [هود: آية ٢٧].
وهو بالضبط (١): وزن رطل وثلث بالبغدادي (٢)، فوزن الرطل وثُلث الرطل بالبغدادي هو الصاع النبوي (٣).
فعدة الأوساق بالأمداد: ألف مُدّ ومائتا مدّ (٤)، وبالصيعان: ثلاثمائة صاع، وبالأرطال: ألف وستمائة رطل (٥)، هذا هو نصاب الحبوب والثمار.
والرطل عندهم عندما حققه مالك وأصحابه -وهم أدرى الناس بقدر الصاع والمدّ؛ لأنهم في محل الصاع والمد، قَدْرُه عندهم يعني بالوزن- ألف وستمائة رطل.
ووزن الرطل عندهم مائة وثمانية وعشرون درهمًا
_________
(١) أي (المد) المشار إليه.
(٢) انظر: الكافي لابن عبد البر ص ١٠٣، حلية الفقهاء ص ١٠٤، القرطبي (٧/ ١٠٧).
(٣) هذا سبق لسان، والصواب: (المد النبوي) كما في المحلى (٥/ ٢٤٥)، والكافي لابن عبد البر (ص ١٠٣)، والمغني (٢/ ٥٦١)، القاموس الفقهي (ص ٣٣٧). وإنما الصاع: خمسة أرطال وثلث من الحنطة.
وقد نقلت لك كلام الشيخ (رحمه الله) في أضواء البيان.
(٤) انظر: الكافي لابن عبد البر ص ١٠٣، القرطبي (٧/ ١٠٧).
(٥) انظر: الكافي لابن عبد البر ص ١٠٣، المجموع (٥/ ٤٥٨)، المغني (٢/ ٥٦١)، القرطبي (٧/ ١٠٧).
الشيطانيةِ التي يأتِي بها قومٌ أَعْمَى اللَّهُ بصائرَهم عن أنوارِ القرآنِ وَحِكَمِ رَبِّ العالمين الباهرةِ (١).
ونحن نذكرُ هنا (إن شاء الله) بعضَ الأشياءِ التي طَعَنُوا بها في التشريعِ الإسلاميِّ، وَنُبَيِّنُ أن الذي جَرَّهُمْ إلى ذلك هو سُوءُ فَهْمِهِمْ، وعدمُ معرفتِهم، وطمسُ بصائرِهم، وضلالُ قلوبِهم:
وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحًا | وَآفَتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ (٢) |
فالذكورةُ قوةٌ وكمالٌ، والأنوثةُ ضَعْفٌ خِلْقِيٌّ جِبِلِّيٌّ، ونقصٌ خِلْقِيٌّ جَبَلَ اللَّهُ هذا النوعَ من الإنسانِ عليه. وعامةُ العقلاءِ لا يكادونَ يختلفونَ في هذا إلا المكابرين بالفلسفاتِ الشيطانيةِ.
والدليلُ على ذلك ما أشارَ له اللَّهُ في سورةِ الزخرفِ في قوله: ﴿أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨)﴾ (٣) [الزخرف: آية ١٨] وفي القراءةِ الأُخْرَى: {أومن يَنْشَأُ
_________
(١) السابق (١/ ١٥٩).
(٢) البيت للمتنبي. وهو في ديوانه (بشرح العكبري ٤/ ١٢٠).
(٣) انظر: المبسوط لابن مهران ص٣٩٧.
يرجعها إلى حالتها الأولى، فذهبت الدعوات كلها. وهذه إسرائيليات لا معوَّل عليها، يذكرها المفسرون.
وقال بعض العلماء: أغروا امرأته بالمال فلم تزل به حتى دعا على نبيّ الله موسى، وأنه لما دعا عليه اندلع لسانه فصار على صدره، وصار يلهث كما يلهث الكلب، وأنه قال لهم: إنه - والعياذ بالله خسر الدنيا والآخرة قال لهم-: لم يبق إلا المكر والحيلة؛ إن الله يبغض الزنا، فأرسلوا النساء متزينات إلى بني إسرائيل فإنْ زنوا أهلكهم الله. فأرسلوا لهم النساء فيما يزعمون فوقع منهم الزنا، فأرسل الله عليهم الطاعون. وغير هذا من روايات كثيرة إسرائيلية يحكيها المفسرون في تفسير هذه الآية من سورة الأعراف لا طائل تحتها ولا دليل على شيء منها (١).
وكان بعض العلماء يقول (٢): هذه الآية الكريمة تدل على أنّه لا ينبغي للإنسان أن يقلّد غير معصوم ويثق به كل الثقة؛ لأن هذا الإنسان ذكر الله أنه آتاه آياته وبعد ذلك صار مآله إلى أخس مآل وأقبحه -والعياذ بالله- حيث قال: ﴿فَانسَلَخَ مِنْهَا﴾.
وقال بعض العلماء: هذه الآية نزلت في أميّة بن أبي الصلت الثَّقَفِي، وكان يقرأ الكتاب الأوّل، ويتعلم من الكتب الأولى، وكان يعلم عن الله بعض كتبه، وكان يعلم بأن جزيرة العرب سيُبعث فيها نبيّ، وكان يرجو أن يكون هو ذلك النبي، فلما بَعَثَ اللهُ نَبِيَّنَا ﷺ حسده وكفر. وقصة استنشاد النبيّ أخته الفارعة لشعره مشهورة في
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٥٩) من سورة الأعراف.
(٢) انظر: القرطبي (٧/ ٣٢٣).
لا يخفى عليه شيء، يعلم ما كان، وما سيكون، وما سبق في علمه أنه لا يكون يعلم أن لو كان كيف يكون. وقد قدمنا في هذه الدروس مراراً (١) الآيات الكثيرة الدالة على إحاطة علمه حتى بالمعدومات الذي سبق في علمه أنها لا توجد، وأنه عالم بأنها لو وُجدت أنها لا تكون، وأنها لو كانت يعلم كيف تكون، دلت على هذا آيات كثيرة من كتاب الله، كقوله في سورة الأنعام: ﴿فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنعام: آية ٢٧] إذا رأى الكفار الحقائق يوم القيامة نَدِمُوا عَلَى تَكْذِيب الرسل وتمنوا أن يُردوا إلى الدنيا مرة أخرى ليؤمنوا ويصدقوا الرسل، وهذا الرد الذي تمنوه الله عالم بأنه لا يكون، ومع ذلك فقد صرح بأن هذا الرد الذي لا يكون هو عالم أن لو كان كيف يكون، كما صرح به في قوله: ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام: آية ٢٨] والمتخلفون عن غزوة تبوك لا يحضرونها أبداً؛ لأن الله ثبطهم عنها لحكمة وإرادة كما صرح به في قوله: ﴿وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ﴾ [التوبة: آية ٤٦] وخروجهم هذا الذي لا يكون صرح بعلمه أن لو كان كيف يكون حيث قال: ﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ... ﴾ الآية [التوبة: آية ٤٧].
ونظائر هذا كثيرة في كتاب الله (جلّ وعلا) وهذا معنى قوله: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ﴾ [التوبة: آية ١٦] يعني: يعلمهم علماً يظهرهم به للناس حتى يتميزوا به، أما هو فهو عالم بكل ما يصنعون وما يؤولون إليه، كما قال تعالى: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ
_________
(١) راجع ما سبق عند تفسير الآية (٥٩) من سورة الأنعام.