الشعراءِ (١)، معناها: أن الكفارَ قالوا له: هؤلاء الضعافُ النَّتْنَى الذين مَعَكَ، ليس لهم إيمانٌ، ولا معرفةٌ بالله، ولا التجاءٌ إلى الله، وإنما هم يقولونَ هذا الكلامَ لِتَسْمَعَهُمْ وتعطيَهم شيئًا يأكلونه ويشربونه، فَهُمْ يراؤونَ لأجلِ الطعامِ. اللَّهُ (جل وعلا) بَرَّأَهُمْ من هذه الدعوى، وَبَيَّنَ أنهم مُخْلِصُونَ لِلَّهِ، وقال: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ ثم قال: ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ﴾ يعني: عَمَلُهُمْ لهم، صَالِحُهُ لهم وَطَالِحُهُ عليهم، ولستَ مأخوذًا بالتنقيبِ عنهم: ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّنْ شَيْءٍ﴾ يعني: لستَ مُحَاسَبًا بما يفعلونَ، وليسوا مُحَاسَبِينَ بما تفعلُ، فعليكَ أن تأخذَ بالظاهرِ من أحوالِهم - الإيمان - مع أن الله نَصَّ له على أن باطنَهم سليمٌ، وأن نِيَّتَهُمْ صحيحةٌ، وأنهم بَرِيئُونَ مما قَالَ الكفارُ حيث قال: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾.
ثم قال: ﴿فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ قال بعضُ العلماءِ (٢): الفاءُ الأُولَى: ﴿فَتَطْرُدَهُمْ﴾ في جوابِ النفيِ، والفاءُ الأُخْرَى من جوابِ النهيِ. والمعنى: لا تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ فتكونَ من الظالمين، ما عَلَيْكَ من حسابِهم من شيءٍ فَتَطْرُدَهُمْ. أي: لو كان حسابُهم عليكَ، لو كانوا فَعَلُوا في الباطنِ شيئًا أَمْكَنَ أن تطردَهم؛ لئلا يكونَ فَعَلُوهُ في الباطنِ (٣). لكن لو فَرَضْنَا أنهم فَعَلُوا في الباطنِ غيرَ طَيِّبٍ فَحِسَابُهُمْ عليهم لا عليكَ، فَأَيُّ موجب تطردُهم
_________
(١) وهي قوله: ﴿وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء. آية ١١٤].
(٢) انظر: القرطبي (٦/ ٤٣٤)، البحر المحيط (٤/ ١٣٨)، الدر المصون (٤/ ٦٤٥).
(٣) المعنى المُراد تقريره هو: لو كان حسابهم موكلا بك فوقع منهم شيء في الباطن فلك أن تطردهم لأجل ما وقع منهم في الباطن.
مكيًّا (١)؛ لأن وزن الذهب والفضة وزن مكة، والكيل كيل أهل المدينة (٢)، ووزن الرطل: مائة وثمانية وعشرون درهمًا مكيًّا، ووزن الدرهم المكّيّ: خمسون وخمُسا حبة من مطلق الشعير (٣) وزيادة ابن حزم خمسة أسباع حبة (٤) ردّها المحققون من علماء المالكية، هذا هو النصاب، وهو خمسة أوسق؛ لأن النبي - ﷺ - قال: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ صَدَقَة».
والمُزَكَّيَات فيها -عندهم - تفصيل، فيها نوعان يُخرصان قبل إخراج الزكاة بلا نزاع (٥)، وهما: التمر والزبيب، والزبيب: العنب اليابس، فإنه إذا بدا صلاح التمر وتهيأ العنب للأكل يُخرصان، فيرسِل السلطان إليهما خارصاً حازراً يخرصهما، بشرط أن يكون أمينًا عدلًا، عارفًا بالخرص، صادق الحزر غالباً، فيأتي لهذا البستان ويخرصه نخلة نخلة، فيقول: في هذه النخلة الآن كذا من البلح من الزهو، ثم يكون فيها من الرطب كذا، فإذا يَبِسَتْ وجَفّ رطبها نقص بكذا. فيحصل منها من التمر اليابس قدر كذا وكذا، ثم إذا خرصوا ذلك وحزروا قَدْر ما يحصل منه من التمر اليابس قيَّدُوه على
_________
(١) انظر: المجموع (١/ ١٢٢)، (٥/ ٤٥٨)، المغني (٢/ ٥٦١).
(٢) انظر: المحلى (٥/ ٢٤٤ - ٢٤٥).
(٣) انظر: الأضواء (٢/ ٢٣٠).
(٤) في المحلى: (٥/ ٢٤٦): «فوزن الدرهم المكي: سبع وخمسون حبة وستة أعشار حبة وعشر عشر حبة» اهـ.
(٥) انظر: المدونة (١/ ٣٣٩)، التمهيد (٦/ ٤٦٩ - ٤٧٢)، الاستذكار (٢١/ ٢١٣)، المجموع (٥/ ٤٧٧، ٤٧٨)، القرطبي (٧/ ١٠٥)، المغني (٢/ ٥٦٧ - ٥٧٢)، فتح الباري (٣/ ٣٤٤)، أضواء البيان (٢/ ٢٣١).
في الحلية وهو في الخصام غير مبين} يعني: أيجعلونَ لِلَّهِ البناتِ، يجعلونَ له الولدَ، ثم يجعلونَ له أضعفَ الْوَلَدَيْنِ جِبلَّةً وأنقصَهما خِلقَةً وهو الأُنْثَى؛ ولذلك منذ تُولَدُ الأُنْثَى وهي تُجْعَلُ لها الزيناتُ، وربما ثُقِبَتْ آذانُها وجُعلت فيها الأقراطُ والشنوفُ، ثم تُجْعَلُ في جيدِها القلائدُ - من أنواعِ الْحُلِيِّ - وفي مَعَاصِمِهَا، وفي خَلاَخِلِهَا، وَتُكْسَى الحليَّ والحللَ منذ تُولَدُ إلى أن تموتَ، كل ذلك التزيينِ هو جبرٌ لذلك النقصِ الخلقيِّ الذي خَلَقَهَا اللَّهُ عليه وَجَبَلَهَا عليه.
وَمَا الْحَلْيُ إِلاَّ زِينَةٌ مِنْ نَقِيصَةٍ... يُتَمِّمُ مِنْ حُسْنٍ إِذَا الْحُسْنُ قَصَّرَا (١)...

وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْجَمَالُ مُوَفَّرًا كَحُسْنِكِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَنْ يُزَوَّرا
أما الذَّكَرُ فجمالُ ذُكُورَتِهِ وكمالُ فحولتِه هو جمالٌ وكمالٌ طَبِيعِيٌّ، ولذا لا تجدُ الدنيا على مرورِ الأزمنةِ والقرونِ تخرقُ آذانَ الذكورِ وتجملهم بالأقراطِ والشنوفِ، ولا تجعلُ لهم قلائدَ الحلي والخلاخيلِ والأساورِ، وإنما تُجْعَلُ ذلك للأنثى.
والإفرنجُ الذين يحاولونَ أنهما سواء يُحَمِّرونَ فَمَ الأُنْثَى ولا يُحَمِّرونَ فَمَ الذَّكَرِ، وَكُلُّ ذلك يشيرُ إلى الفرقِ الجبليِّ الطبيعيِّ بينَهما الذي جَبَلَهُمَا اللَّهُ عليه.
فلما كان اللَّهُ (جل وعلا) جَعَلَ الأنوثةَ في أصلِ طبيعتِها وَخِلْقَتِهَا ضَعْفًا خلقيًّا ونقصًا جبليًّا، وجعلَ الذكورةَ
_________
(١) البيتان لابن الرومي، وهما في ديوانه (٣/ ١٠٠٧، ١٠٠٨)، (تحقيق حسين نصار) مع شيء من الاختلاف، والذي في الديوان:
ومَا الحَلْيُ إلا حيلة لنَقِيْصةٍ... تُتَمِّمُ من حُسْنٍ إذا الُحسْنُ قَصَّرَا... وليس لحليٍ في الجميلةِ منظرا... جمال ولكن في القبيحة منظرا... تضيء نجومُ الليل في الليلِ وحده... وليس لها ضوءٌ إذا الصبحُ نوَّرا... فأمَّا إذا ما الحُسنُ كان مُكَمَّلا... كحُسْنكِ لم يحتجْ إلى أن يُزَوَّرَا
التاريخ معروفة، ويذكر المؤرخون أنّ النبيّ لما حَكَت عليه شِعْرَهُ قال: آمَنَ شِعْرُهُ وَكَفَرَ قَلْبُهُ (١).
والله تعالى أعلم.
وبعض العلماء يقول: نزلت هذه الآية في أبي عامر الراهب ابن صيفيّ (قبّحَهُ اللهُ). وأبو عامر هذا رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ هو: والد حَنْظَلَةَ الغِسِّيل (رضي الله عنه وأرْضَاه)، الذي يذكر الإخباريّون وأصحاب المغازي أنّ الملائكة غَسَّلَتْهُ يَوْمَ أُحُدٍ؛ لأنه كان قَرِيب عرس بتزوج جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول، وأنّه كان يغتسل فاستخفّه القتال فلم يكمل غسله، فمات شهيدًا يوم أُحد، وأن الملائكة غسلته (٢). هكذا يقول أصحاب المغازي والأخباريون.
_________
(١) الرواية التي فيها استنشاد النبي ﷺ شعره، وأنه قال فيه: «فلقد كاد يُسلم في شعره» أخرجها مسلم في الشعر، حديث رقم (٢٢٥٥)، (٤/ ١٧٦٧)، من حديث الشريد رضي الله عنه.
وأما رواية: «آمَنَ شِعْرُهُ وَكَفَرَ قَلْبُهُ» فقد أخرجها ابن عبد البر في التمهيد (٤/ ٧)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (٩/ ٢٧٢)، عن عكرمة قال: قلت لابن عباس: أرأيت ما جاء عن النبي ﷺ في أمية بن أبي الصلت: «آمن شعره وكفر قلبه»؟ إلخ.
وأخرجه الفاكهي في أخبار مكة (١٩٧٣)، (٣/ ١٦٨) من وجه آخر من طريق هشام بن الكلبي عن أبيه. وقال الحافظ في الإصابة (٤/ ٣٧٦): ((وأخرج القصة - قصة قدوم أخته الفارعة على النبي ﷺ - الفاكهي في كتاب مكة من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس مطولة. وقد نقلها الثعلبي في تفسيره، وفيها أنها أنشدت النبي ﷺ عدة قصائد من شعره... فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((آمن شعره وكفر قلبه)) ا. هـ. وانظر تفسير الثعلبي (٤/ ٣٠٦ - ٣٠٧). قلت: لم أقف في أخبار مكة في الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يتعلق بقدومها على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ما يتعلق بقوله صلى الله عليه وسلم: ((آمن شعره وكفر قلبه)). وإنما روى واقعة أٌخرى، انظر: أخبار مكة (١٩٧٠، ١٩٧١)، (٣/ ١٦٦).
والحديث ذكره السيوطي في الجامع الصغير (فيض القدير) (١/ ٥٧)، وعزاه لأبي بكر الأنباري في المصاحف، والخطيب وابن عساكر ورمز له بالضعف.
وقال المناوي في الفيض (١/ ٥٩): «ورواه عنه أيضًا الفاكهي وابن منده» اهـ.
وقال في أسنى المطالب ص٣١: «رواه الخطيب وهو ضعيف» اهـ.
وأما خَبَر قُدوم أُخته الفَارِعة على النبي ﷺ فقد ساقه الخطابي بإسناده في كتابه غريب الحديث (١/ ٤٤٤) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ورواه ابن عبد البر في الاستيعاب (٤/ ٣٨٨) من طريق ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن شهاب، عن سعيد بن المسيب (مرسلاً). قال الحافظ في الإصابة (٤/ ٣٧٥ - ٣٧٦): ((وأخرج القصة أبو نُعيم من طريق ثعلب، عن ابن الأعربي، قال: قال ابن إسحاق بهذا السند نحوه. وأخرجها ابن أبي عاصم، وابن مَنْدَه، من طريق إبراهيم بن محمد بن يحيى السِّجْزِي، عن أبيه، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس... قال الحافظ: وفي السند إلى ابن إسحاق ضعف... )) ا. هـ.
(٢) أخرجه الإمام قوام السنة الأصبهاني في دلائل النبوة (١/ ١١٠)، وأبو نعيم في الحلية (١/ ٣٥٧)، من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه.
كما أخرجه البيهقي (٤/ ١٥)، والحاكم (٣/ ٢٠٤)، وقال: «صحيح على شرط مسلم» اهـ. وأخرجه ابن حبان (الإحسان) (٩/ ٨٤)، من حديث يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده.
وأخرجه البيهقي (٤/ ١٥)، عن عاصم بن عمر بن قتادة، وعامر الشعبي مرسلاً.
لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون: آية ٦٣] يعلمها قبل أن يعملوها. وهذه الآية نصّ الله على ما دلت عليه هنا في آيات كثيرة كقوله: ﴿الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢)﴾ [العنكبوت: الآيتان ١، ٢] لا يكون ذلك ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (٣)﴾ ومن نظائرها قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢)﴾ [آل عمران: آية ١٤٢] وقوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ﴾ [البقرة: آية ٢١٤]. وقوله: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ﴾ [آل عمران: الآيتان ١٦٦، ١٦٧] أي: يميز بينهم بما يعمله من الاختبار ﴿مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ [آل عمران: آية ١٧٩] ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (٣١)﴾ [محمد: آية ٣١] إلى غير ذلك من الآيات القرآنية المصرحة بأنه قد اقتضت حكمة الله أن لا يترك خلقه من غير ابتلاء وامتحان، بل لا بد أن يمتحنهم ويبتليهم بالشدائد والعظائم ليظهر الذي هو على الحق من الذي هو على الباطل، ويتبين الصادق من الكاذب.
وهذا معنى قوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً﴾ [التوبة: آية ١٦].
﴿وَلَمْ يَتَّخِذُواْ﴾ معطوف على فعل الصلة، والمعنى: ولما يعلم الله الذين جاهدوا ويعلم الذين لم يتخذوا من دون الله وليجة. والمعنى: لا بد أن يمتحنكم حتى يُعْلَم المجاهد في سبيل الله


الصفحة التالية
Icon