عليه، فعلى كُلِّ حالٍ فقولُه: ﴿فَتَطْرُدَهُمْ﴾ قولاً واحدًا منصوبٌ في جوابِ النفيِ؛ لأنها فاءُ السببيةِ بعدَ النفيِ نحو: ﴿لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا﴾ (١) [فاطر: آية ٣٦] ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ﴾.
وقولُه: ﴿فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ فيه وَجْهَانِ:
أحدُهما: أنه معطوفٌ عليه: ﴿فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ بسببِ طَرْدِهِمْ.
الثاني: أنه في جوابِ: ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ فتكونَ من الظالمين. وأن الجملةَ اعتراضيةٌ بين هذا وهذا.
والطردُ: الإبعادُ.
والظالمونَ: قَدْ قَدَّمْنَا أن معناهُ وَضْعُ الشيءِ في غيرِ مَوْضِعِهِ (٢). وَمَنْ طَرَدَ مُسْلِمًا طَيِّبًا كَرِيمًا يستحقُ التقديرَ والإحسانَ على خَاطِرِ خَبِيثٍ خَسِيسٍ - يستحقُّ الطردَ - فقد وَضَعَ الأمرَ في غيرِ مَوْضِعِهِ، حيث طَرَدَ مَنْ يَسْتَحِقُّ القُرْبَ على خاطرِ مَنْ يستحقُّ البُعْدَ؛ ولذا قال: ﴿فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾. (٣) وهذه القضيةُ أَجْرَى اللَّهُ العادةَ بأن الرؤساءَ يقولون للأنبياءِ: اطْرُدُوا هؤلاءِ النَّتْنَى الضعافَ، لا نؤمنُ بكم ومعكم هؤلاء. والدليلُ على هذا: أن نُوحًا - صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه وعلى نَبِيِّنَا - أولَ الأنبياءِ، قالوا له: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ
_________
(١) انظر: التوضيح والتكميل (٢/ ٢٩٦).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة البقرة.
(٣) مضى قريبا.
صاحبه، وقالوا لصاحبه: بينك وبين بُسْتَانِكَ، فَكُلْ ما شِئْتَ، وَبِعْ ما شئت، وتصَرَّفْ فيه كيْفَ شِئْتَ، ولكنه عند الجذاذ أدِّ قدر هذا الخرص تمراً يابساً، أو زبيباً يابساً (١). وهذا لم يخالف فيه إلا القليل من العلماء، فجماهير العلماء على الخرص، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي - ﷺ - في غزوة تَبُوك لما مرّ بِوَادِي القرى نزل بحائط امرأة، فقال لقومه: اخرصوا كم يخرج منه؟ فخرصوا، وخرصه النبي - ﷺ - مع الخارصين، وقال لها: في خرصه: «أرى أن تحصُلَ منه عشرةَ أوْسُقٍ من التَّمْرِ اليَابِس، واحْفَظِيهِ حتى نرجِعَ من سَفَرنا» فلما رجعوا من غزوة تبوك سألوا المرأة فقالت: خرج منه عشرة أوسق مطابقة لحزره - ﷺ - (٢). مضمون هذا الحديث ثابت في صحيح مسلم والبخاري، وهو يَدُلّ على أن الخرص حَق، وأنه سُنَّة.
والظاهر أنهم ما خرصوه إلا ليأخذوا زَكَاتَهُ إذا كانوا قافلين، والأحاديث الكثيرة في أنَّ النبي - ﷺ - كان يبعث الخارصين، كعبد الله بن رواحة وغيره إلى يهود خَيْبَر، فيخرص عليهم النخل، ويقول لهم: إن شئتم خذوه بهذا الكيل، وإن شئتم دعوه لنا بهذا الكيل (٣)، هذا معروف.
_________
(١) انظر: المجموع (٥/ ٤٧٧)، المغني (٢/ ٥٦٩)، القرطبي (٧/ ١٠٥).
(٢) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب: خرص التمر، حديث رقم: (١٤٨١) (٣/ ٣٤٣ - ٣٤٤)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث: (١٨٧٢، ٣١٦١، ٣٧٩١، ٤٤٢٢). ومسلم، كتاب الفضائل، باب في معجزات النبي - ﷺ -، حديث رقم: (١٣٩٢) (٤/ ١٧٨٥).
(٣) في بعث النبي - ﷺ - عبد الله بن رواحة (رضي الله عنه) خارصاً ورد عدة أحاديث منها:
١ - حديث عائشة (رضي الله عنها) عند أحمد (٦/ ١٦٣)، وعبد الرزاق (٤/ ١٢٩)، وأبي عبيد في الأموال ص ٤٣٢، وأبي داود في الزكاة، باب متى يخرص التمر. حديث رقم: (١٥٩١) (٤/ ٤٩٥) وفي البيوع، باب في الخرص. حديث رقم: (٣٣٩٦)، (٩/ ٢٧٦)، والترمذي في الزكاة، باب ما جاء في الخرص (٣/ ٢٨)، والبيهقي (٤/ ١٢٣)، والدارقطني (٢/ ١٣٤)، وابن خزيمة (٤/ ٤١). وقال الألباني: «إسناده صحيح على شرط مسلم» اهـ. وانظر: تلخيص الحبير (٢/ ١٧١)، والإرواء (٣/ ٢٨٠).
٢ - حديث ابن عباس (رضي الله عنهما). عند ابن ماجه في الزكاة، باب خرص النخل والعنب، حديث رقم: (١٨٢٠) (١/ ٥٨٢). وانظر: الإرواء (٣/ ٢٨٢)، صحيح ابن ماجه (١/ ٣٠٥).
٣ - حديث ابن عمر (رضي الله عنهما) عند أحمد (٢/ ٢٤)، والطحاوي في شرح المعاني (٢/ ٣٨)، وانظر: الإرواء (٣/ ٢٨١).
في أصلِ خلقتِها كمالاً طبيعيًّا وقوةً جِبِلِّيَّةً، اقتضت حكمةُ العليمِ الخبيرِ أن يجعلَ ذلك القويَّ بطبعه، الكاملَ بجبلته قَيِّمًا على ذلك الضعيفِ بقوتِه، الناقصِ بجبلته؛ ليستجلبَ له ما يعجزُ عنه من الخيرِ، ويدفعُ عنه ما يعجزُ عنه من الشَّرِّ، ولذلك كان الرجلُ يترقبُ النقصَ في حياتِه دائما؛ فإنه يبذلُ دائمًا النفقاتِ في صَدُقَاتِ الزوجاتِ، والإنفاقِ عليهن، وفي مُؤَنِ الجهادِ، وفي نوائبِ الدهرِ، فهو غارمٌ باذلٌ دائمًا، والمرأةُ تترقبُ طولَ حياتِها الزيادةَ، وأن يُمْلأَ كِيسُهَا، تترقبُ رجلاً يدفعُ لها مالاً كثيرًا في صَدَاقِهَا، ويقومُ بجميعِ مُؤَنِهَا ولوازِمها في الدنيا، فهي تترقبُ الزيادةَ دائمًا، والرجلُ يترقبُ النقصَ دائمًا.
فلما كان الحكيمُ الخبيرُ أرادَ أن يُقَسِّمَ عليهما الميراثَ آثَرَ مترقبَ النقصِ دائمًا على مترقبِ الزيادةِ دائما جَبْرًا لبعضِ نقصِه المترقبِ؛ ولذا تَجِدُ الرجلَ وأختَه، تجدُ أختَه تُدفع لها الأموالُ الكثيرةُ في صَدَاقِهَا، ويقومُ غيرُه بنفقاتِها وَكُلِّ ما يَلْزَمُ لها، والرجلُ أخوها الآخَرُ هو الذي يَبْذُلُ ما عندَه في نفقاتِ زوجاتِه ومهورهن، ونوائبِ الدهرِ، ومعوناتِ الجهادِ، وغيرِ ذلك.
وإذا وجدنا مَنْ يَقْسِمُ على اثْنَيْنِ أحدهما يترقبُ النقصَ دائمًا، والثاني يترقبُ الزيادةَ دائمًا، فآثر مترقبَ النقصِ دائمًا على مترقبِ الزيادةِ دائمًا جَبْرًا لبعضِ نقصِه المُترقب لقلنا له: إن إِيثَارَكَ لهذا وزيادتَك لهذا عن هذا واقعةٌ مَوْقِعَهَا عن حكمةٍ بالغةٍ، ووضع أَمْرٍ في موضعِه، وإيقاعِه في موقعِه، ولهذا كان (جل وعلا) يُفَضِّلُ في الميراثِ الذكرَ على الأنثى؛ لأن الذكرَ باذلٌ يبذلُ في مهورِ الأزواجِ وفي نفقاتِهن وفي نفقاتِ الأولادِ، وفي مُؤَنِ الجهادِ وغيرِ ذلك من وُجُوهِ الْبِرِّ.
والمرأةُ دائمًا تترقبُ
فوالده هو أبو عامر هذا الخبيث الذي يُقال له: أبو عامر الراهب، وهو الذي حفر الحفر في الميدان يوم أُحد التي جاء النبي في واحدة منها وانتشله منها عَلِيّ بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله، كما هو مذكور في المغازي في غزوة أحد (١). كان هذا الخبيث أبو عامر يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إنّه على دين إبراهيم. فبيّن له النبي -فيما يذكرون- أنّه على الحنيفية بعد التغيير. وأنّه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أمات الكاذب منا وحيدًا طريدًا (٢). وسافر إلى الشام، وراح إلى بعض الملوك يريد جيشًا يُخرج به النبي ﷺ من المدينة، وهو الذي أوعز للمنافقين أنْ يبنوا له مسجد الضرار بقباء ليدبروا الشؤون فيه. وهو المذكور في قوله: ﴿وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ﴾ [التوبة: آية ١٠٧] هو أبو عامر هذا (٣).
وقول من قال: إنّ آية الأعراف هذه في أمية بن أبي الصلت أو أبي عامر الراهب كله لا دليل عليه، وأكثر المفسرين يقولون: إنها في رجل علَّمه الله علم الكتاب من بني إسرائيل. وشذ قوم فقالوا: من الكنعانيين. وهذا معنى قوله: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا﴾.
_________
(١) المغازي (١/ ٢٤٤)، ابن هشام ص٦٢٠ - ٦٢١.
(٢) ذكره ابن هشام في السيرة ص٦٢٠ - ٦٢١، وأبو نعيم في دلائل النبوة (١/ ٩٣ - ٩٤).
(٣) أخرجه ابن جرير (١٤/ ٤٧٠)، عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة.
والمخلص الذي لم يتخذ وليجة من دون الله ولا رسوله؛ لأن بعض الناس ظهر نفاقهم وبعضهم ظهر اتخاذهم الوليجة من دون الله.
واعلم أن الوليجة في لغة العرب: كل شيء أدخلته في شيء فهو وليجة (١). والمراد بها هنا: بطانة السوء؛ لأنهم يدخلون في المسلمين وليسوا منهم؛ لأن كثيراً من غير المخلصين يتخذون أعداء الله أولياء، ويفشون إليهم أسرار المسلمين، ويطلعونهم على حقائقهم، وهم أعداء للمسلمين، كما كان عبد الله بن أُبيّ وأصحابه يفعلون، هم مع الكفار واليهود، والمعنى: ﴿وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ ولم يتخذوا من دون رَسُول الله، ولم يتخذوا من دون المؤمنين وليجة، أي: أولياء وبطانات سوء يوالونهم دون المسلمين؛ لأن الأعداء خارجون عن المسلمين، فإدخالهم فيهم كأنه وليجة لهم وإدخال لمن ليس منهم فيهم.
فالوليجة هنا: بطانة السوء، وأولياء السوء، يتخذُهم بعض غير الصادقين في إيمانهم أولياء، كما تقدم في قوله: ﴿لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: آية ٢٨] فاتخاذ هؤلاء الأولياء هو الوليجة؛ لأن العدو الموالَى من المسلمين المُدْخَل فيهم وليجة فيهم وليس منهم، والعرب تقول للرجل في القوم ليس منهم: هو وليجة. يعني داخل فيهم وليس منهم. ووليجة الأمر: دخيلته، وهؤلاء وليجة فلان، معناه: أصحاب سره وداخله، وتطلق على المفرد والجمع. وهذا معنى ﴿وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً﴾ [التوبة: آية ١٦] أي: دخيلة من الأعداء يتخذونهم
_________
(١) انظر: المقاييس في اللغة، كتاب الواو، باب الواو واللام وما يثلثهما، (مادة: ولج) ص١١٠٣.