هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} [هود: آية ٢٧] وَطَلَبُوا منه أَنْ يَطْرُدَهُمْ؛ ولذا قَالَ: ﴿وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْما تَجْهَلُونَ﴾ [هود: آية ٢٩] وقال في شَأْنِهِمْ: ﴿وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدتُّهُمْ﴾ [هود: آية ٣٠] وقال في هذا في سورةِ الشعراءِ: ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ﴾ [الشعراء: آية ١١١] وَبَيَّنُوا له أن أعمالَهم رياءٌ - كما قال هؤلاء في أصحابِ النبيِّ - فقال نوحٌ: ﴿قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣)﴾ [الشعراء: الآيتان ١١٢ - ١١٣] ليس عَلَيَّ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، ولا عليهم من حِسَابِي مِنْ شَيْءٍ، ثم قال: ﴿وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء. آية ١١٤] لا أَطْرُدُهُمْ أبدًا. فالقصةُ شبيهةٌ بالقصةِ؛ ولذا قال هنا: ﴿فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾.
[٥/أ] / ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥)﴾ [الأنعام: الآيات ٥٣ - ٥٥].
يقول اللَّهُ جل وعلا: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: آية ٥٣].
قولُه: ﴿كَذَلِكَ﴾ أي: وكذلك الفتونُ المتقدمُ الذي فَتَنَ اللَّهُ فيه أغنياءَ العربِ ورؤساءَهم فَتَنَهُمْ بضعفاءِ المسلمين حيث احتقروهم، وَأَبَوْا أن يُجَالِسُوا النبيَّ - ﷺ - وهم مَعَهُ في المجلسِ، وقالوا له: اطْرُدْهُمْ عَنَّا، فَإِنَّا لاَ نرضى أن نجلسَ معهم. حتى أنزلَ اللَّهُ في ذلك ما أَنْزَلَ.
﴿وَكَذَلِكَ﴾ أي: كما فَتَنَ هؤلاء الأغنياءَ بهؤلاء الفقراءِ، كذلك
رجلاً يبذلُ لها مالاً كثيرًا يُسَمَّى الصداق، ويقومُ بشؤونها من إنفاقٍ وملبسٍ ومأكلٍ ومشربٍ وكلِّ ما تحتاجُ إليه. فإيثارُ مترقبِ النقصِ على مترقبِ الزيادةِ حكمةٌ بالغةٌ، وأمرٌ واضحٌ واقعٌ موقعَه كما لا يَخْفَى إلا على مطموسِ البصيرةِ، وإنما جَعَلَ اللَّهُ الرجالَ قَوَّامِينَ على النساءِ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ في الذكورةِ بِجِبِلَّتِهَا وخلقتها من القوةِ والكمالِ، وقصورِ الأنوثةِ عن ذلك؛ ولذلك كان الولدُ يُنْسَبُ إلى الرجلِ، والمرأةُ راضيةٌ، نفسُ المرأةِ تقولُ لولدِها الذي نُفِسَتْ به وخرج من قُبُلها: «هذا ابنُ فلان». تعني [زوجها] (١)، تنسبُه لأبيه وَفْقًا لقولِه تعالى: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ﴾ [الأحزاب: آية ٥] وجعل الله الرجلَ هو المسؤولَ عن المرأةِ، يُقَوِّمُ أخلاقَها، وَيَقُومُ بشؤونِها، وهو مترقبٌ النقصَ والبذلَ دائمًا، وهي مترقبةٌ الزيادةَ دائمًا. وجَعْلُ اللَّهِ النساءَ يُنْفَقُ عليهن، وَيُكْفَيْنَ المؤنةَ ليسَ لإهانةٍ لهن، ولا لهضمٍ لحقوقهن، ولكنما هو إكرامٌ لهن بحسبِ طبيعتِهن وخلْقَتِهن التي جَبَلَهُنَّ عليها خالقُ السماواتِ والأرضِ؛ لأَنَّ المرأةَ تتعرضُ لأعينِ الخونةِ؛ لأن المرأةَ كُلَّهَا هي متعةٌ وتلذذٌ أَبَتْ أم كَرِهَتْ؛ لأن عينَ الإنسانِ إذا نظرت إلى جمالِها الْتَذَّتْ منها واستغلت جَمَالَهَا كرهًا، فاقتضت حكمةُ الشرعِ أن تُصَانَ، وَتُجْعَلُ كالدرةِ المصونةِ، وتُكفى مؤنَ الدهرِ ولوازمَه ونوائبَه؛ لئلا تضطرَ إلى الابتذالِ وما لا يليقُ بِشَرَفِهَا. فهذه تعاليمُ الإسلامِ، وصيانتُه للمرأةِ وإكرامُها وبذلُها لحقوقِها الكاملةِ، مع أنَّا بَيَّنَّا مِرَارًا أنها تُسَاعِدُ في بناءِ المجتمعِ، وتربيةِ الأسرةِ داخلَ بيتِها مساعدةً أعظمَ مما يعملُه الرجلُ خارجًا، لَكِنَّ تلك المساعدةَ في عفافٍ وسترٍ وكرمٍ. وهذا واضحٌ مَنْ نَظَرَهُ
_________
(١) في الأصل: زوجة.
﴿آيَاتِنَا﴾ هنا: آيات كتابه الشرعية.
﴿فَانسَلَخَ مِنْهَا﴾: خرج منها والعياذ بالله كما تنسلخ الحيّة من ثَوْبِهَا، ولم يعلق به منها شيء.
﴿فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ﴾ العرب تقول: «أَتْبعه وتبعه واتَّبعه» بمعنى واحد ومعنى: (أتبعه الشيطان): اتّبعه الشيطان حتى لحق به وأدركه وجعله قرينًا له يذهب معه حيث يذهب. هذا معنى قوله: ﴿فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ﴾.
والشيطان في لغة العرب (١): هو كل عات متمرِّد، فكل من كان عاتيًا متمردًا فهو شيطان في لسان العرب، سواء كان من الجن أو من الإنس، أو من غيرهما. وجاء في القرآن العظيم: إطلاق الشياطين على العتاة المتمردين من الإنس والجنّ، كما قال جل وعلا: ﴿شياطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام: آية ١١٢] وقال تعالى: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شياطِينِهِمْ﴾ [البقرة: آية ١٤] أي: رؤسائهم وعتاتهم المتمردين، وفي الحديث: «الكَلْبُ الأَسْوَدُ شَيْطَانٌ» (٢) وقد قال جرير وهو عربي قحّ (٣):

أَيَّامَ يَدعُونني الشَّيْطَانَ مِنْ غَزَلٍ وَكُنَّ يَهْوَيْنَني إِذْ كُنْتُ شَيْطَانًا
يعني: عاتيًا مُتَمَرِّدًا. واختلف العلماء في وزن الشَّيْطَان بالميزان الصرفي على قولين (٤) أشار إلى كل واحد منهما سيبويه في كتابه، فقال المحققون: وزن الشيطان: (فَيْعَال) بالميزان الصرفي،
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٣) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٣) من سورة الأنعام.
(٣) السابق.
(٤) السابق.
أولياء، ويوالونهم، ويفشون إليهم أسرار المسلمين، كما كان يفعله المنافقون، وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول أبان بن تغلب:
فَبِئْسَ الْوَلِيجَةُ لِلْهَارِبِينَ وَالمُعْتَدِينَ وَأَهْلِ الرِّيَب (١)
وهذا معنى قوله: ﴿وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً﴾ أي: بطانة سوء وأولياء يدخلونهم ويولجونهم في المسلمين وليسوا من المسلمين، بل هم أعداء المسلمين، يفشون إليهم أسرار المسلمين، كما قال: ﴿لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً﴾ [آل عمران: آية ١١٨].
﴿وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ يعني: الخبير أخص من العالم، والخبرة أخص من العلم؛ لأن العلم يطلق على كل علم، والخبرة لا تطلق في اللغة إلا على علم خاص، وهو علم الشيء الذي من شأنه أن يخفى، فالعرب تقول في الشيء الذي شأنه أن يخفى: على الخبير سقط، وأنا خبير بهذا. فلو قلت مثلاً: أنا عالم بأن الواحد نصف الاثنين، وأن الكل أكبر من الجزء، كان هذا كلاماً عربيّاً، ولو قلت: أنا خبير بأن الواحد نصف الاثنين، وأن الكل أكبر من الجزء، لما كان هذا كما ينبغي؛ لأن العرب لا تكاد تطلق الخبرة إلا على المعرفة بما من شأنه أن يخفى، كما قال الشاعر في العيافة (٢):
خَبِيرٌ بنُو لهْبٍ فَلاَ تَكُ مُلْغِيَا مَقَالةَ لهْبيِ إذا الطَّيْرُ مَرَّتِ
_________
(١) البيت في القرطبي (٨/ ٨٨).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٨) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon