فَتَنَّا بعضَهم ببعضٍ، فاللَّهُ يَفْتِنُ بعضَ الناسِ ببعضٍ، يفتنُ الغنيَّ بالفقيرِ، والفقيرَ بِالْغَنِيِّ.
وقد قَدَّمْنَا مِرَارًا أن الفتنةَ أُطْلِقَتْ في القرآنِ ثلاثةَ إطلاقاتٍ، وبعضُهم
يقولُ: أربعةُ إطلاقاتٍ (١)، أما الإطلاقاتُ الثلاثُ التي لم يُخَالِفْ فيها أَحَدٌ:
فمنها إطلاقُ الفتنةِ على (الاختبارِ)، وهو أشهرُها في القرآنِ.
ومنها إطلاقُ الفتنةِ على (الإحراقِ بالنارِ)؛ لأن العربَ تقولُ: فَتَنْتُ الذهبَ، إذا سَبَكْتَهُ في النارِ وَأَذَبْتَهُ، أي: لِيَتَبَيَّنَ أخالصٌ هو أم زَائِفٌ. ومن إطلاقِ الفتنةِ على مُطْلَقِ الوضعِ في النارِ قولُه تعالى: ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾ [الذاريات: آية ١٣] أي: يُحْرَقُونَ بالنارِ - والعياذُ بِاللَّهِ - وقولُه تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [البروج: آية ١٠] أي: أَحْرَقُوهُمْ بنارِ الأخدودِ على أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ.
وكذلك تُطْلَقُ الفتنةُ على نتيجةِ الاختبارِ إن كانت سيئةً خاصةً، كالمعاصِي والكفرِ، فإن الكفارَ والعصاةَ اخْتَبَرَهُمُ اللَّهُ بالأوامرِ والنواهِي، فكانت نتيجةُ الاختبارِ فيهم غيرَ محمودةٍ حيث كَفَرُوا وَعَصَوْا؛ وَلِذَا يُطْلَقُ اسمُ (الفتنةِ) على الكفرِ والمعاصِي، ومنه قولُه تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [البقرة: آية ١٩٣] أي: حَتَّى لا يَبْقَى شِرْكٌ. وهذا أَصَحُّ التفسيرين، والدليلُ على صحةِ هذا التفسيرِ: قولُه - ﷺ -: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» (٢).
_________
(١) انظر: المفردات (مادة: فتن) ص٦٢٣، نزهة الأعين النواظر ص٤٧٧، إصلاح الوجوه والنظائر ص٣٤٧.
(٢) جاء ذلك في عدد من الأحاديث رواها عن النبي - ﷺ - جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم:
١ - ابن عمر (رضي الله عنه)، عند البخاري في الإيمان، باب: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ﴾ [التوبة: ٥] رقم (٢٥)، (١/ ٧٥)، ومسلم في الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله. حديث رقم (٢٢)، (١/ ٥٣).
٢ - أبو هريرة (رضي الله عنه)، عند البخاري في الزكاة، باب وجوب الزكاة، حديث رقم (١٣٩٩)، (٣/ ٢٦٢)، ومسلم في الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. حديث رقم (٢٠، ٢١)، (١/ ٥١، ٥٢).
٣ - جابر (رضي الله عنه)، عند مسلم في الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ورقمه في الباب (٣٥)، (١/ ٥٣).
٤ - أنس (رضي الله عنه)، عند البخاري في الصلاة، باب: فضل استقبال القبلة، حديث رقم (٣٩٢)، (١/ ٤٩٧)....
٥ - النعمان بن بشير (رضي الله عنه)، عند النسائي في تحريم الدم، حديث رقم (٣٩٧٩)، (٧/ ٧٩ - ٨٠).
٦ - أوس بن حذيفة (رضي الله عنه)، عند النسائي في تحريم الدم الأحاديث (٣٩٨٠ - ٣٩٨٣)، (٧/ ٨٠ - ٨١).
وشذّت طائفة من العلماء (١)،
فقال الشعبي: الخرص بدعة (٢). وقال سفيان الثوري: لا يجوز الخرص؛ لأنه ظَنٌّ وتَخْمِينٌ، والظنّ أكْذَب الحديث (٣). وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة - رحمه الله (٤) - قال: الخرص ظن وتخمين لا يثبت به حكم أبداً، وإنما كان النبي يأمر بخرص النخيل تخويفاً للقائمين عليه من أن يخونوا، فالمقصود به عنده تخويفهم من الخيانة. وقالوا: لا يُعمل بالخرص، ولا يثبت به حكم؛ لأنه ظَنّ وتَخْمِين، والظن لا يُغني من الحق شيئًا.
وجمهور العلماء على أن الخرص حق، ولكن اختلفوا: هل هو واجب أو سنة؟ (٥) فبعضهم يقول: واجب؛ لئلا يُضيَّقَ على أهل النخيل في ثمارهم؛ لأنهم يحتاجون إلى الأكْلِ مِنْهَا، ولا تضيع حقوق الفقراء؛ إذ لو أكلوها قبل الخرص، ولم يُعلَمْ قدر ما فيها لضاع هؤلاء، والخرص يجمع مصلحة الطرفين، بأن يُخلى بين أهل البساتين وبساتينهم، وتُحفظ للفقراء حقوقهم.
_________
(١) ٤ - حديث جابر (رضي الله عنه) عند أحمد (٣/ ٢٩٦، ٣٦٧)، وعبد الرزاق (٤/ ١٢٤)، وابن أبي شيبة (٣/ ١٩٤)، وأبي داود في البيوع، باب الخرص، حديث رقم: (٣٣٩٧ - ٣٣٩٨) (٩/ ٢٨٠ - ٢٨١)، والدارقطني (٢/ ١٣٣)، والبيهقي (٤/ ١٢٣)، والطحاوي (١/ ٣٨ - ٣٩). وانظر الإرواء (٣/ ٢٨١)، صحيح أبي داود (٢/ ٦٥٤).
٥ - حديث أبي هريرة (رضي الله عنه). عند الدارقطني (٢/ ١٣٤). وانظر: الاستذكار (٢١/ ١٩٦).
٦ - عامر بن عبد الرحمن، مرسلًا، عند عبد الرزاق (٤/ ١٢٤).
٧ - عبد الله بن عبيد بن عمير، مرسلًا، عند عبد الرزاق (٤/ ١٢٣).
٨ - الشعبي، مرسلًا، عند أبي عبيد في الأموال ص ٤٣٢، وابن أبي شيبة (٣/ ١٩٤).
٩ - سليمان بن يسار، مرسلاً، عند مالك في المساقاة، باب ما جاء في المساقاة، حديث رقم: (١٣٨٨) ص ٤٩٤، والبيهقي (٤/ ١٢٢)، وانظر: الاستذكار (٢١/ ١٩٦).
١٠ - سعيد بن المسيب، مرسلاً، عند مالك في المساقاة، باب ما جاء في المساقاة، حديث رقم: (١٣٨٧) ص ٤٩٤، والبيهقي (١/ ١٢٢).
١١ - عطاء، مرسلاً، عند عبد الرزاق (٤/ ١٢٢ - ١٢٤).
١٢ - الزهري، مرسلاً، عند عبد الرزاق (٤/ ١٢٢، ١٢٣).
() انظر: الأموال لأبي عبيد ص ٤٣٩ - ٤٤١، التمهيد (٦/ ٤٧٠)، القرطبي (٧/ ١٠٥)، فتح الباري (٣/ ٣٤٤)، أضواء البيان (٢/ ٢٣٢).
(٢) انظر: مصنف عبد الرزاق (٤/ ١٢٧)، ابن أبي شيبة (٣/ ١٩٤)، الاستذكار (٢١/ ٢١٤).
(٣) انظر: الاستذكار (٢١/ ٢١٤).
(٤) انظر: شرح معاني الآثار (٢/ ٤١).
(٥) انظر: الأضواء (٢/ ٢٣٥).
يعلمُ أن تفضيلَ الرجلِ في الميراثِ عن المرأةِ لحكمةٍ بالغةٍ واضحةٍ لاَ يجهلُها إلا مَنْ طَمَسَ اللَّهُ بصيرتَه.
كذلك جَعْلُ الطلاقِ بيدِ الرجلِ حكمتُه بالغةٌ واضحةٌ لاَ إشكالَ فيها؛ لأن القرآنَ بَيَّنَ أن النساءَ وإن كُنَّ في غايةِ الكرامةِ على أزواجهن وعلى أُسَرِهِنَّ، وهن بالمنزلة العليا التي جَعَلَهَا اللَّهُ لهن من أنهن يُكْفَيْنَ جميعَ الحقوقِ، ويُكفينَ جميعَ المؤناتِ، ويُصَنَّ أكرمَ الصيانةِ وأعزَّها، وأن لا يُبْذَلْنَ لضياعِ شَرَفِهِنَّ، ولا مروءتهن وَهُنَّ مع ذلك مَزَارِعُ تُزْرَعُ فيها النطفُ حتى تُسْتَحْصَدَ ويأخذها صاحبُها فتثمرُ النطفةُ في رَحِمِ المرأةِ، ثم تَلِدُهَا فيأخذها صاحبُها الذي زَرَعَهَا وهو الرجلُ، ويقال: هذا ابنُ فلانٍ. وَاللَّهُ يقولُ: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ [البقرة: آية ٢٢٣] وإنما سَمَّى النساءَ حَرْثًا لأن طبيعةَ الحالِ والأمرَ الواقعَ هو يقتضي ذلك بِلاَ شَكٍّ ولا رَيْبٍ؛ لأن آلةَ التناسلِ والازدراعِ هي مع الرجلِ، فلو أَرَادَتِ المرأةُ أن تأخذَ حَمْلاً من الرجلِ، وأن تجامعَه فتحمل منه وهو كارهٌ فإن ذَكَرَهُ لاَ ينتشرُ إليها، ولا تَقْدِرُ أن تأخذَ منه شيئًا، بخلافِ الرجلِ فعنده آلةُ النسلِ وآلةُ الازدراعِ، فهو فاعلٌ بطبيعةِ حالِه، وهي مفعولٌ بطبيعةِ الوضعِ الذي خَلَقَهَا اللَّهُ وَجَبَلَهَا عليه. فالرجلُ قد يُجَامِعُهَا راغمةً مكرهةً وَتَلِدُ ولدًا يكونُ هو خيرُ الدنيا والآخرةِ عليها وإن حملت به كرهًا وإرغامًا غيرَ راضيةٍ، أما الرجلُ فلا تكادُ المرأةُ أن تحصلَ منه على حملٍ وهو كارهٌ أبدًا؛ لأنه إذا كان غيرَ راغبٍ في ذلك لا ينتشرُ ذَكَرُهُ ولا يقومُ إليها، ولا تقدرُ منه على شيء. فتبين أنه فاعلٌ بطبيعةِ الحالِ والجبلةِ الخلقيةِ، وأنها مفعولٌ به بالطبيعةِ التي خَلَقَهَا اللَّهُ وجبلها عليها، كما قال: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ﴾
فالزائد فيه: الياء والألف. وحروفه الصحيحة: الشين في مكان الفاء، والطاء في مكان العين، والنون في مكان اللام (شَطَن) وأنّ هذا أصله، وأن اشتقاق المادة من البُعد؛ لأنّه بعيد من رحمة الله تعالى غاية البُعد، والعرب تقول: نوىً شطون. أي: بعيد، وبئر شطون: بعيدة القعر، ومن هذا المعنى قول الشاعر (١):

نَأتْ بِسُعَادَ عنكَ نَوىً شَطُون فبانتْ والفؤادُ بها حَزِينِ
ويؤيد هذا القول - أن وزن الشيطان بالميزان الصرفي (فَيعَال) وأنه من (شَطَنَ) - قول أمية بن أبي الصلت، وهو عربي قح فصيح (٢):
أيُّما شَاطِنٍ عَصَاهُ عَكَاهُ ثم يُلقَى في السِّجْنِ والأَكْبالِ
فصرح عن الشيطان بالشاطن، وهو اسم فاعل (شطَن) من غير نزاع.
وقال قوم آخرون -وأشار له الشيخ عمرو أعني سيبويه في موضع من كتابه (٣) - بأن وزن الشيطان (فَعْلاَن) وأن الألف والنون زائدتان، وعلى هذا فأصله من (شَاطَ) فعلى هذا القول ففاء المادة شين، وعينها ياء، ولامها طاء. من (شاط) وأصله: (شيط) والعرب تقول: «شاط يشيط». إذا هلك؛ لأن الشيطان هالك لبعده عن رحمة الله. ومِن شاط بمعنى هلك قول الأعشى في شعره (٤):
_________
(١) السابق.
(٢) السابق.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٤٣) من سورة الأنعام.
(٤) السابق.
ومعنى خِبْرَته (جلّ وعلا): أنه يعلم الخفايا والخبايا كما يعلم الظاهر، فلا تخفى عليه خافية. وهذا الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم الذي نوَّهْنَا عنه مراراً كثيرة ولا نزال ننوه عنه. وهذا معنى قوله: ﴿وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
قال تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (١٧)﴾ [التوبة: آية ١٧] ﴿مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ مساجدُ هنا ذُكِرَتْ مرتين: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ والثانية في قوله: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾.
أما الأُولى منهما وهي قولُه: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ فقد قرأه عامةُ السبعةِ غيرَ ابنِ كثيرٍ وأبي عمرو: ﴿أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ بصيغةِ جمعِ التكسيرِ. وقرأه ابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو: ﴿ما كان للمشركين أن يعمروا مسجدَ الله شاهدين على أنفسهم بالكفر﴾ (١).
أما مساجدُ الثانيةُ وهي قولُه: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ فقد أَجْمَعَ جميعُ القراءِ على قراءتِها بصيغةِ الجمعِ: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ ولم يقرأها أحدٌ بالإفرادِ كما هو معروفٌ.
وقولُه: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ سببُ نزولِها أن كفارَ قريشٍ صَدُّوا النبيَّ ﷺ عن البيتِ الحرامِ، وقالوا: هو بيتُنا ونحن أولياؤه، وافتخروا بعمارةِ المسجدِ الحرامِ، كما يأتي. يفتخرونَ دائمًا ببيتِ اللَّهِ الحرامِ وأنهم عُمَّارُهُ وأهلُه، كما سيأتي في قولِه: ﴿فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تُهْجِرُونَ (٦٧)﴾ [المؤمنون: الآيتان ٦٦، ٦٧]
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢٢٦.


الصفحة التالية
Icon