فغايةُ «حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» في هذا الحديثِ الصحيحِ يُفَسِّرُ الغايةَ في قولِه: ﴿حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ أي: لاَ يَبْقَى أحدٌ إلا وهو يشهدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ على أظهرِ التفسيرين، وخيرُ ما يُفَسَّرُ به القرآنُ بعدَ القرآنِ: السنةُ الصحيحةُ؛ لأَنَّ النبيَّ - ﷺ - قِيلَ له: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: آية ٤٤] فالسنةُ بيانٌ للقرآنِ.
الرابعُ: إطلاقُ الفتنةِ بمعنَى (الحجةِ)، كما قالَه بعضُ العلماءِ في قولِه المتقدمِ: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ﴾ [الأنعام: آية ٢٣] أي: حُجَّتُهُمْ ﴿إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ على القولِ بذلك.
والمرادُ بالفتنةِ في هذه الآيةِ التي نحن بِصَدَدِهَا: الاختبارُ والابتلاءُ. أي: ﴿فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ﴾ أَيِ: اخْتَبَرْنَا وَابْتَلَيْنَا بعضَهم
وقال بعض العلماء: الوجوب لا يلزم إلا بدليل جازم، وبعضهم يقول: هو سُنَّة.
والدليل على الخَرْص: هو حديث عَتَّاب بن أسيد أن النبي - ﷺ - أمَرَ أن يُخْرَص العنب كما يُخرص النخل، فتُؤدَّى زكاته زبيباً عند الجذاذ، كما تُؤدى زكاة النخل تمراً (١). هذا الحديث من مراسيل سعيد بن المسيب، ورواه سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد، وسعيد لم يُدرك عتاب بن أسيد رضي الله عنهما؛ لأن سعيدًا وُلِدَ في خلافة عمر، وعَتَّاب بن أُسيْد توفِّيَ في اليوم الذي توفي فيه أبو بكر رضي الله عنهما فَلَمْ يُدْرِكْه، إلا أن مراسيل سعيد بن المسيب معروف حكمها في علوم الحديث (٢). وقد أقرّ علماء الشافعية أن هذا النوع من مرسل سعيد يتفق الشافعية على قبوله؛ [١٨/ب] /ولأنه شاع عن الشافعي أنه يَقْبَل جميع مراسيل سعيد بن المسيب؛ لأنها تُتُبِّعَتْ كلها فَوُجِدَتْ
_________
(١) أخرجه ابن أبي شيبة (٣/ ١٩٥)، وأبو داود في الزكاة، باب في خرص العنب، حديث رقم: (١٥٨٨ - ١٥٨٩)، (٤/ ٤٩١ - ٤٩٢)، والترمذي في الزكاة، باب ما جاء في الخرص، حديث رقم (٦٤٤)، (٣/ ٢٧)، وقال: «حسن غريب» اهـ. وأخرجه ابن ماجه في الزكاة، باب خرص النخل والعنب، حديث رقم: (١٨١٩)، (١/ ٥٨٢)، والنسائي في الزكاة، باب شراء الصدقة، حديث رقم: (٢٦١٨)، (٥/ ١٠٩)، والدارقطني (٢/ ١٣٢ - ١٣٣، ١٣٤)، والبيهقي (٤/ ١٢١ - ١٢٢)، والحاكم (٣/ ٥٩٥)، وابن خزيمة (٤/ ٤١)، وابن الجارود (غوث المكدود ٢/ ١٧)، والطحاوي في شرح المعاني (٢/ ٣٩)، وابن حبان (الإحسان ٥/ ١١٨)، والطبراني في الكبير (١٧/ ١٦٢)، وقد ضَعَّفَهُ كثير من العلماء. انظر: تلخيص الحبير (٢/ ١٧١)، إرواء الغليل (٣/ ٢٨٢، ٢٨٣).
(٢) انظر: جامع التحصيل ص ٩٩، تدريب الراوي (١/ ١٩٩).
لأنه يُحْبِلُهَا وهي كارهةٌ، كما قال أبو كبير الهذليُّ في ربيبه تأبط شرًّا (١):
مِمَّنْ حَمَلْنَ بِهِ وَهُنَّ عَوَاقِدٌ | حُبُكَ النِّطَاقِ فَشَبَّ غَيْرَ مُهبَّلِ |
أَفْنَاهُ قيل اللَّهِ لِلشَّمْسِ: اطْلُعِي (٢).............................
فالرجل لم يُنْقِصْ من جمالِها شيئًا، وإنما نَقَصَهُ اللَّهُ بطولِ عُمْرِهَا. والمدةُ التي مَكَثَ معها هو قائمٌ بجميعِ شؤونها، وليس مُلْزَمًا بالبقاءِ دائمًا عندَ حقلٍ لاَ خيرَ له فيه، فلو أُرْغِمَ على البقاءِ معها دائمًا وهو كارهٌ لم تَسْتَفِدْ منه شيئًا، ولم تَقْدِرْ أن تأتيَ منه بولدٍ، ولا أن تحصلَ منه على شيءٍ، بخلافِ الرجلِ.
وكذلك يزعمونَ أن تعددَ الزوجاتِ من التشريعِ الذي ليس بِطَيِّبٍ. وكلُّ هذا قصورٌ منهم - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - لأن تعددَ الزوجاتِ فيه مصلحةُ المرأةِ، ومصلحةُ الرجلِ، ومصلحةُ المجتمعِ، فهو تشريعٌ سماويٌّ يشملُ جميعَ المصالحِ، وهم يقولونَ: إن تعددَ الزوجاتِ أمرٌ
_________
(١) البيت لأبي كبير الهذلي يصف تأبط شرًّا، وهو في ديوان تأبط شرًّا ص٨٨، الكامل (١/ ١٧٥)، مغني اللبيب (٢/ ١٩٣)، شواهد الكشاف ص١٠٥.
(٢) هذا شطر بيت لأبي النجم، وشطره الثاني:
........................... حتى إذا واراك أفق فارجعي
وهو في «الإيضاح في علوم البلاغة (١/ ٢٩)، ورحلة الحج إلى بيت الله الحرام ص١٨٥».
قَدْ نُخْضِبُ العِيرَ من مَكنُونِ فَائِلِهِ | وقد يَشِيطُ على أَرْمَاحِنَا البَطَلُ |
الظاهر أن (كان) هنا بمعنى (صار) وقد تَقَرَّرَ في علم العربية: أن (كان) تطلق ويراد بها صار. ومعنى قوله: ﴿فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ صار من الكافرين. وإطلاق (كان) بمعنى (صار) إطلاق معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر (١):
بتَيْهَاءَ قَفْرٍ والمُطي كأنَّها | قَطَا الحَزْنِ قد كانت فِرَاخًا بُيوضُهَا |
ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا﴾ [الأعراف: آية ١٧٦] القاعدة المقررة في علم العربية: أن فعل المشيئة إذا قُرن بالشرط حذف مفعوله؛ لأن جزاء الشرط يغني عن المفعول، فالمفعول محذوف، والأصل: ولو شئنا رفعه بها لرفعناه بها. ولا تكاد العرب تنطق بالمفعول -مفعول فعل الإرادة مع ربطه بالجزاء- وقد يذكر نادرًا، وجاء ذكر المفعول في مواضع من القرآن مع أنه مصدر منسبك من (أن) وصلتها في آيات غير كثيرة، كقوله جل وعلا: ﴿لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَصْطَفَى﴾ [الزمر: آية ٤] فجملة ﴿أَنْ يَتَّخِذَ﴾ في محل مفعول (أراد) ولم يَكْتَف هنا بجزاء الشرط، ونحو ذلك من الآيات.
_________
(١) البيت لعمرو بن أحمر الباهلي. وهو في المقتصد في شرح الإيضاح (١/ ٤٠٢)، اللسان (مادة: عرض) (٢/ ٧٤٥).
وفي القراءة الأُخرى: ﴿تَهْجُرُونَ﴾ (١). ﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ﴾ أي: بالبيتِ، على أَظْهَرِ التفسيرين؛ لأنهم يتكبرون به بأنهم قُطَّانه وعُمَّاره وأولياؤه، فَرَدَّ اللَّهُ عليهم في هذه الآيةِ الكريمةِ. وقد قدمنا طرفًا من ذلك في سورةِ الأنفالِ في قولِه: ﴿وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (٣٤)﴾ [الأنفال: آية ٣٤]. وقال هنا: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ ما يصح ولا ينبغي ولا يمكن هذا التناقضُ؛ لأن المساجدَ بيوتُ اللَّهِ، أُسِّسَتْ على طاعتِه والتقربِ إليه بما يرضيه، والمشركونَ كفَرَةٌ فجَرَةٌ، أعمالُهم في المساجدِ كلِّها كفرٌ وتمردٌ على الله وَعُدْوَانٌ، كيف يكونُ هذا يجتمعُ مع هذا؟! لأن المساجدَ إنما بُنِيَتْ لطاعةِ اللَّهِ، وتُؤَسَّسُ على ما يُرْضِي اللَّهَ (جلَّ وعلا) وهؤلاء كفَرَةٌ أعمالُهم كلُّها كفرٌ وصدٌّ عن سبيل الله، فهذا من الشيء الذي لا يمكنُ أن يجتمعَ؛ لأن فيه اجتماعَ النقيضين. وهذا معنَى قولِه: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ [التوبة: آية ١٧] وفي قراءةِ ابنِ كثيرٍ وأبِي عمرٍو: ﴿يعمروا مسجدَ الله﴾ هو المسجد الحرام، مسجد مكة حرسها الله.
وقولُه: ﴿شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾ هذا محلُّ التناقضِ؛ لأن عمارةَ المسجدِ الحرامِ فِعْلُ الْمُطِيعِينَ والمتقربين إلى اللَّهِ، كيف يفعلونَ هذا في وقتِ الحالِ التي هم شاهدونَ فيها على أنفسِهم بالكفرِ؟
وقولُه: ﴿شَاهِدِينَ﴾ حالٌ من واوِ الفاعلِ في قولِه: ﴿يَعْمُرُوا﴾ أي: يعمروها في حالِ كونِهم شاهدين على أنفسِهم بالكفرِ.
_________
(١) السابق ص٣١٣.