ببعضٍ. فالأغنياءُ يُبْتَلَوْنَ بالفقراءِ، والفقراءُ يُبْتَلَوْنَ بالأغنياءِ، وقد بَيَّنَ اللَّهُ في سورةِ الفرقانِ: أن هذا الابتلاءَ يحتاجُ إلى صبرٍ، وأن لله فيه حكمةً كما قال: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ [الفرقان: آية ٢٠] غالبًا الأغنياءُ يُبْتَلَوْنَ وَيُفْتَنُونَ بما يُعْطِيهِ اللَّهُ للفقراءِ من الدِّينِ والإيمانِ بِاللَّهِ (جل وعلا)، والفقراءُ غَالِبًا يُبتلون بما يعطيه اللَّهُ للأغنياءِ من الدنيا، فيقولُ الفقراءُ: كيف أُعْطِيَ هؤلاء الغنَى والدنيا، ونحن خيرٌ منهم ولم نُعْطَهَا؟ وَيَحْسُدُونَهُمْ على غِنَاهُمْ، كما أن الأغنياءَ يَقُولُونَ: كيف يكونُ هؤلاء الفقراءُ على حَقٍّ وَدِينٍ ويكونون أفضلَ منا ونحن خيرٌ منهم؟
وهذا النوعُ من الابتلاءِ هو المقصودُ هنا. أي: جَعَلْنَا فقراءَ المسلمين ابتلاءً وامتحانًا لأغنياءِ الكفارِ، حيث قالوا: هؤلاءِ الضعفاءُ كيف يَعْبَأُ اللَّهُ بهم وهم لا جَاهَ لهم ولا مَكَانَةَ؟ وَاللَّهِ لاَ يَعْبَأُ اللَّهُ بهم، ولو كان ما هم عليه فيه خيرٌ لَكُنَّا سابقين إليه؛ لأَنَّا أفضلُ منهم وَأَوْلَى منهم بِكُلِّ خيرٍ. كما قال تعالى عن الكفارِ في هذا الموضوعِ: ﴿لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾ [الأحقاف: آية ١١] وكما قال: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾ [مريم: آية ٧٣] أَيُّنَا أحسنُ مجالسَ وأكثرُ غِنًى وأثاثًا؟ يَعْنُونَ: أَنَّا أفضلُ منكم، ولو لم نكن أفضلَ عند اللَّهِ منكم في الآخرةِ لَمَّا فَضَّلَنَا عليكم في الدنيا!! يَقِيسُونَ الدنيا على الآخرةِ، ويحتقرون المسلمين، ويحلفونَ أن هؤلاء الضعفاءَ لا يرحمهم اللَّهُ، ولا يَعْبَأُ بهم لسقوطِ مكانتِهم فيما يَظُنُّونَ.
كما يأتي في الأعرافِ في قولِه: ﴿أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ [الأعراف: آية ٤٩] وكانوا إذا رَأَوْهُمْ
مَسَانيد.
وقال النووي في شرح المهذب وغيره: إن الشافعي لم يَقُلْ بالعمل بمراسيل سعيد مطلقاً بل بِقَيْدٍ، وهو أن يرِد الحديث مرسلًا من جهة أُخْرَى، أو مسنداً من جهة أخرى، أو يعمل به بعض الصحابة، أو يعمل به أكثر العلماء (١). وهذه الشروط موجودة هنا؛ لأن الخرص عمل به بعض الصحابة، وعمل به أكثر العلماء، فمرسل سعيد هذا اتفق الشافعية على قبوله، مع أن المشهور في مذهب مالك ومذهب أبي حنيفة ومذهب أحمد: الاعتداد بالمرسل مطلقاً، فظهر إجماع الأئمة الأربعة على الاحتجاج بمرسل سعيد هذا في خرص التمر والعنب (٢).
ولا يخرص غير التمر والعنب من الأشجار، ولا من الحبوب على التحقيق الذي عليه جمهور العلماء؛ لأن النص إنما ورد بخرص التمر والعنب فقط، ولم يرد في خرص شيء غيرهما. والثاني: أن خرص التمر ممكن لأن أعذاقه تجتمع في رأس النخلة في محل متقارب، فيمكن خارصها أن ينظر جميعها حتى يحزر ما فيها، وكذلك العنب تجتمع عناقيده وتَتَمَيَّز ويمكن خرصها، أما غير ذلك من الأشجار فإن ثِمَارَهُ تَتَفَرَّق في كل الشجرة وتختلط بأوراقها، والحب مستتر في سُنْبُلِهِ، فلا يمكن الخرص فيه (٣).
_________
(١) في تحقيق مذهب الشافعي في المرسل انظر: الأم (٣/ ١٨٨)، مختصر المزني ص ٧٨، المجموع للنووي (١/ ٦٠ - ٦٣)، إرشاد طلاب الحقائق للنووي (١/ ١٧١، ١٧٥ - ١٧٩)، الكفاية للخطيب ٤٠٤ - ٤٠٥، اللمع ص ٧٤، التبصرة ص ٣٢٩ (كلاهما للشيرازي).
(٢) انظر: أضواء البيان (٢/ ٢٣٣).
(٣) انظر: المصدر السابق (٢/ ٢٣٧).
لاَ ينبغي؛ لأَنَّ الرجلَ إذا كانت امرأتُه واحدةً أمكنه أن يأخذَ بِخَاطِرِهَا، وأن يعيشَ معها في عيشٍ مستقيمٍ لذيذٍ، كُلٌّ منهما قريرُ العينِ بصاحبِه، أما إن جَمَعَ معها أخرى فإنه إن أَرْضَى هذه سَخِطَتْ هذه، وإن أَرْضَى هذه سخطت هذه، فهو بَيْنَ سخطتين دائمًا، وفي نزاعٍ دائمٍ، وأن الإتيانَ بالضرةِ الأخرى يُؤْلِمُ قلبَ الزوجةِ الأُولَى، وأن هذا التشريعَ ليس بطيبٍ. وكلُّ هذا جهالةٌ منهم قَبَّحَهُمُ اللَّهُ؛ لأن المشاغبةَ أمرٌ طبيعيٌّ بينَ الناسِ، فالرجلُ تقعُ المشاغبةُ بينَه وبينَ أُمِّهِ، وبينَه وبينَ أبيه وأخيه، وبينَه وبينَ زوجتِه الواحدةِ، فهي أمرٌ طبيعيٌّ بالنسبةِ إلى الناسِ يتخاصمونَ مرةً ويكونُ بينَهم بعضُ الشنآنِ والشرِّ ثم يرجعُ كلٌّ منهم إلى رضا الآخَرِ، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ من ضرورياتِ الحياةِ. والمرأةُ الواحدةُ قد تَمْرَضُ، وقد تُنفس، وقد تحيضُ، فتبقى منافعُ الرجلِ معطلةً، والمرأةُ غيرُ صالحةٍ في ذلك الوقتِ - لِنِفَاسِهَا أو حيضها أو مرضها، غير صالحة في ذلك الوقتِ - لأخصِّ لوازمِ الزوجيةِ، فتبقى مواهبُ الرجلِ معطلةً، وهذا لا يَنْبَغِي.
ثم إن اللَّهَ أجرى العادةَ بأن النساءَ أكثرُ من الذكورِ في جميعِ أقطارِ الدنيا، وكذلك تُثْبِتُهُ الإحصاءاتُ العالميةُ؛ لأن الذكورَ أكثرُ تعرضًا لأسبابِ الموتِ من النساءِ [فهم] (١) أكثرُ خروجًا للقتالِ، وأكثرُ مزاولةً في ميادينِ الحياةِ، فالموتُ يَكْثُرُ [فيهم] (٢) غالبًا، فالنساءُ أكثرُ في جميعِ أقطارِ الدنيا، فلو قُصر كُلُّ رجلٍ على امرأةٍ واحدةٍ لبقي عددٌ ضخمٌ ورقمٌ عالٍ عظيمٌ من النساءِ لا أزواجَ لهن فَيُضْطُرِرْنَ إلى الرذيلةِ، وإلى الزنى، وإلى تفشيِ الرذيلةِ وضياعِ الخُلقِ ومكارمِ الأخلاقِ. مع أنه لو جَمَعَ الرجل اثنتين أو ثلاثًا كما قال الله فلا ضررَ على المرأةِ
_________
(١) في الأصل: «فهن» وهذا سبق لسان.
(٢) في الأصل: «فيهن» وهذا سبق لسان.
وهذا معنى قوله: ﴿وَلَوْ شِئْنَا﴾ رفعه بها ﴿لَرَفَعْنَاهُ﴾ لو شئنا رفع هذا الذي آتيناه آياتنا بتلك الآيات لوفقناه للعمل بها فعمل بها حتى مات عليها فكان مرفوع الدرجة رفيع الذكر في الدنيا والآخرة.
﴿وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ﴾ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ معناه: ركن ومال إلى لَذَّاتِ الدّنْيَا وحطامها وشهواتها فآثَرَها على آيات الله فسَلَخَهُ الله من آياته (والعياذ بالله). والعرب تقول: أخلد إلى الشيء: إذا رَكَنَ ومَالَ إلَيْهِ، وأصل الإخلاد: هو ملازمة الشيء والدوام فيه. فالعرب تقول: أخلد بهذا المكان: إذا لازَمَهُ ودَامَ فِيه، وهو معنى معروف في كلامها (١)، ومنه قول زهير بن أبي سُلمى (٢):
لِمَنِ الدِّيَارُ غَشَيْتُهَا بِالْفَدْفَدِ | كَالْوَحْي في حَجَرِ المَسِيلِ المُخْلِدِ |
ثم إن الله ضربه مثلاً قال: ﴿فَمَثَلُهُ﴾ أي: فصفته (والعياذ بالله) في خساسته وقبحه وملازمته الخساسة في جميع الأحوال ﴿كَمَثَلِ الْكَلْبِ﴾ وهو الحيوان المعروف. وجملة: ﴿إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث﴾ جملة شرطية، وهي في محل نصب في موضع الحال على ما حَقَّقَهُ بَعْض علماء العربية مِنْ أَنَّهُ لا مَانِعَ مِنْ
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٣/ ٢٧٠).
(٢) مضى عند تفسير الآية (١٦٠) من سورة الأعراف.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٥٦) من سورة الأنعام.
[٣/أ] / قال بعضُ العلماءِ (١): شهادتُهم على أنفسِهم بالكفرِ إنما هي بأفعالِهم؛ لأن مَنْ سَجَدَ ووضعَ جبهتَه للصنمِ فقد شَهِدَ على نفسِه، وَنَادَى بأعظمِ الكفرِ وأفظعِه. وعلى هذا فهي شهادةُ حَالٍ.
وقال بعضُ العلماءِ: هي شهادةُ مقالٍ أيضًا، فهم شاهدون بالحالِ والمقالِ. قالوا: يُرَادُ بذلك أنهم في تَلْبِيَتِهِمْ وطوافِهم بالبيتِ في المسجدِ الحرامِ يقولونَ: لَبَّيْكَ لا شريكَ لكَ، إلا شريكًا هو لَكَ، تملكُه وما مَلَكَ [وقال بعضُ العلماءِ: شهادتُهم على أنفسِهم بالكفرِ هو أن الكافرَ إذا قلتَ له: ما دِينُكَ؟ فيقول] (٢) النصرانيُّ: نصرانيٌّ، والصابئ: صابئٌ، والمشركُ يقول: مشرك؛ لأنه يَعْبُدُ مع الله غيرَه. والله (جلَّ وعلا) ذَكَرَ مثلَ هذا من شهادتِهم على أنفسِهم في غيرِ هذا الموضعِ كقولِه: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (٧)﴾ [العاديات: الآيتان ٦، ٧] أي: الإنسان، وفيه الأقوالُ المذكورةُ هنا. وهذا معنَى قولِه: ﴿شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾ لأن عمارةَ مساجدِ اللَّهِ هي من القربةِ والطاعةِ لله لا تمكن من أحد هو في حال وقت فعله إيَّاها شاهدٌ على نفسه بأنه كافر.
وعمارةُ المسجدِ الحرامِ تشملُ أَمْرَيْنِ:
أحدُهما: العمارةُ الحسيةُ، وهي مَرَمَّتُهُ وبناؤُه وتزيينُ بنائه.
_________
(١) في معنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر. انظر ابن جرير (١٤/ ١٦٥)، القرطبي (٨/ ٨٩)، ابن كثير (٢/ ٣٤٠).
(٢) في هذا الموضع وُجد انقطاع في التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
انظر: ابن جرير (١٤/ ١٦٥)، ابن أبي حاتم (٦/ ١٧٦٥)، القرطبي (٨/ ٩٠).