يحتقرونهم، ويسخرونَ منهم، ويغمزُ بعضُهم بعضًا فيقولون: هؤلاءِ الضعفاءُ الفقراءُ، والأعبُدُ الْمَوَالِي الذين لا يَعْبَأُ بهم أَحَدٌ هم الذين يقولُ محمدٌ - ﷺ -: إن لهم عندَ اللَّهِ المكانةَ العظيمةَ، وأنهم خيرٌ منا، كما قال اللَّهُ تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ﴾ [المطففين: آية ٣٠] أي: يغمزُ بعضُهم بعضًا احتقارًا لضعفاءِ المؤمنين، كانوا يسخرونَ منهم في دارِ الدنيا، ويتغامزونَ عليهم، ثم إنه يومَ القيامةِ يكونُ أولئك الضعفاءُ في أَعْلَى عِلِّيِّينَ، ويسخرونَ في ذلك الوقتِ مِنَ الذين كانوا يَسْخَرُونَ منهم، كما في قولِه: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [البقرة: آية ٢١٢] وقد نَصَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وتعالى في السورةِ الكريمةِ - سورةِ الصافاتِ - على أن أهلَ الجنةِ يمكنُهم أن ينظروا أهلَ النارِ، وقد يتكلمونَ مع بعضِهم، كما جاءَ في قصةِ ذلك الرجلِ المقصوصِ خبرُه في الصافاتِ، وذلك كما بَيَّنَهُ المفسرون (١): أنه كان رَجُلاَنِ شريكين في تجارةٍ كثيرةٍ، ثم اقْتَسَمَا، وَأَخَذَ كُلٌّ منهما نصيبَه، وأحدُهما مؤمنٌ، والثاني كافرٌ، وكان المؤمنُ ينصحُ الكافرَ لِلدِّينِ، والكافرُ يرشدُ المؤمنَ إلى الكفرِ وإنكارِ البعثِ - والعياذُ بالله - فتزوجَ الشريكُ الكافرُ امرأةً حسنةً جميلةً، وأعطاها مالاً طائلاً، فقال شريكُه المؤمنُ: اللَّهُمَّ إن فلانًا تَزَوَّجَ امرأةً جميلةً، وَأَعْطَاهَا كذا وكذا، وإني أَخْطُبُ إليكَ من نساءِ الجنةِ بمثلِ المهرِ الذي تَزَوَّجَ به، وَتَصَدَّقَ بقدرِ ذلك المهرِ.
ثم إن فلانًا - الكافرَ - اشترى بساتينَ وَضِيَاعًا، فقال أيضا صاحبُه: اللهم إن فلانًا اشترى كذا وكذا بكذا، وإني
_________
(١) انظر: ابن جرير (٢٣/ ٥٩)، وأورد السيوطي في الدر (٥/ ٢٧٥ - ٢٧٦) روايات متعددة في هذا المعنى.
وكأن الأئمة الثلاثة: مالكًا والشافعي وأحمد، اتفقوا على أن التين لا زكاة فيه (١) وهذا من الغَرِيب؛ لأن التين ييبس ويُقْتَات ويُدخر. وكان ابن عبد البر يقول: أظن أن مالكًا رحمه الله ما كان يعرف التين، ولا يظن أنه ييبس ويُقتات ويُدَّخَر، ولو كان يظن ذلك لجعله كالزبيب ولم يعُدّه مع الفواكه.
أما الفواكه؛ كالرُّمَّان، والتّفّاح، والفِرْسِك - وهو الخوخ - والإجَّاص (٢)، والكمثرى، وما جرى مجرى ذلك، والخَضْراوات: كالقثاء والخيار وأنواع البقول المعروفة من: كَرَفْسٍ ونعناع وما جرى مجرى ذلك، فهذا لا زكاة فيه عند الأئمة الثلاثة (٣)، وقد جاء بعض الآثار وبعض الأحاديث في وجوب الزكاة في الخَضْراوات ولم يصح فيها شيء (٤).
ودليل الجمهور أن الفواكه جميعها، والخَضْراوات جميعها لا زكاة فيها: أنه لم يؤخذ عن أحد من المسلمين أن النبي - ﷺ - أخذ في المدينة شيئًا من زكاة الخَضْراوات ولم يتعرض لها أبدًا، ولمَّا
_________
(١) انظر: الكافي لابن عبد البر ص ١٠٠، الاستذكار (٩/ ٢٧٢)، المجموع (٥/ ٤٥٢، ٤٥٣)، المغني (٢/ ٥٤٩).
(٢) نوع من الثمر حلو، شجرته من الفصيلة الوردية، ويطلق في بعض البلاد على الكُمثرى. انظر: المعجم الوسيط (١/ ٧).
(٣) انظر: الكافي لابن عبد البر ص ١٠٠، الاستذكار (٩/ ٢٧٠ - ٢٧٥)، المجموع (٥/ ٤٥٢)، المغني (٢/ ٥٤٩).
(٤) للوقوف على كلام العلماء على الأحاديث والآثار الواردة في هذا الموضوع، انظر: تنقيح التحقيق (٢/ ١٤٠٢ - ١٤٠٧)، تلخيص الحبير (٢/ ١٦٥ - ١٦٩)، الدراية (١/ ٢٦٣)، نصب الراية (٢/ ٣٨٦ - ٣٨٩)، إرواء الغليل (٣/ ٢٧٦ - ٢٧٩).
لا تجدُ ضررًا من عدمِ الحظِّ الإنسانيِّ؛ لأن الرجلَ يأتيها في ليالٍ قليلةٍ، وتجدُ مَنْ يقومُ بشؤونها؛ ولذا البلادُ التي تمنعُ تعددَ الزوجاتِ تجدُها تمنعُ أمرًا حلالاً فيه صالحُ الرجلِ وصالحُ المرأةِ وصالحُ المجتمعِ بكثرةِ الأولادِ، وهم مع ذلك فيهم كثيرٌ من النساءِ هُمل لا أزواجَ لهن، لا حرفةَ لهن إلا الزنى، وكلُّ واحدٍ - والعياذُ بالله - له صدائقُ وخليلاتٌ يُزاني بهن - والعياذُ بالله - فتنتشرُ الرذيلةُ، وتضيعُ الأخلاقُ، وتضيعُ المروءةُ، فالنساءُ أكثرُ من الرجالِ، وكذلك النساءُ مستعداتٌ كُلُّهُنَّ للزواجِ؛ لأن كُلَّ امرأةٍ بلغت مبلغَ الزواجِ فهي مستعدةٌ للزواجِ، وما كل الرجالِ مستعدًّا للزواجِ؛ لأنه قد يعوقُه الفقرُ عن القيامِ باللازمِ ونحوِ ذلك. فلو قُصِرَ الواحدُ على الواحدةِ لَبَقِيَ عددٌ ضخمٌ خالٍ من أزواجٍ، وكانت حرفتُه الزنى - والعياذُ بالله - فضاعت أخلاقُه، وضاعت مروءتُه، وضاع شَرَفُهُ.
هذا هو تشريعُ خالقِ السماواتِ والأرضِ. والمرأةُ -وإن كان في الضرةِ عليها بعضُ أَذًى في قلبها- إلا أن هذا الأَذَى الخفيفَ أنه يُغْتَفَرُ لأجلِ هذه المصالحِ العظامِ، وهي مصلحةُ الرجلِ حيثُ لا تُعَطَّلُ منافعُه وقتَ حيضِ المرأةِ أو نفاسِها أو مرضِها، وفيه مصلحةٌ للمرأةِ حيث لا يَبْقَى عددٌ ضخمٌ من النساءِ لا أزواجَ لهن؛ لأن الرجالَ أقلُّ منهن، وفيه مصلحةٌ للأمةِ بكثرةِ النسلِ؛ لأنه إذا تَعَدَّدَتِ الزوجاتُ كَثُرَ النسلُ، وفي الحديثِ: أن النبيَّ ﷺ يأمرُنا بالتزويجِ، وأنه يُكَاثِرُ بنا الأممَ (١)، فتعددُ الزوجاتِ مصلحةٌ لنفسِ المرأةِ؛ لئلا تبقى لا زوجَ لها فتحترفُ حرفةَ الزنى وتضيعُ، ومصلحةٌ للرجلِ؛ لئلا تُعَطَّلَ منافعُه وقتَ حيضِ المرأةِ أو نفاسِها أو مرضها، وفيه مصلحةٌ للأمةِ بكثرةِ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٥١) من سورة الأنعام.
أَنْ تَأْتِيَ الجُمَل الشَّرْطِية أحوالاً (١). المعنى: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ﴾ في حال كون الكلب مُتَّصِفًا بأخس حالاته وهو مُدَاوَمَتُهُ اللَّهْث في جميع حالاته.
﴿إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ﴾ معنى ﴿إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ﴾ إن تشد عليه وتطرده وتُجْهِده يلهث وإن ﴿تَتْرُكْهُ﴾ في رخاء ودَعة ﴿يَلْهَثْ﴾ والعرب تقول: لَهَثَ الكلب -بفتح الهاء- يَلْهَث -بفتحها؛ لأنه حَلْقِي العين- لَهْثًا ولُهاثًا: إذا فتح فاه ومَدَّ لسانه وصار يلهث، يطلع النَّفَسَ ويردها بقوة كفعل الذي أصابه إعياء وتَعَبٌ شَدِيد. وجميع الحيوانات لا يلهث شيء منها إلا إذا أصابه إِعْيَاء شديد، أو تعب شديد، أو عطش شديد، إلا الكلب وحده فإنه يلهث دائمًا، في حالة الرِّيّ يَلْهَث، وفي حالة العطش يلهث، وفي حالة الشد عليه والطرد والتعب يلهث، وفي حالة الرَّخَاءِ يَلْهَث، فهو يلازم اللهْث في جميع حالاته (٢). واللهث مِنْ أخَسّ حالاته؛ لأنه فاتِحٌ فاه، مادٌّ لِسَانَهُ، يُطْلعِ النَّفَس وينزلها بقوة، وهذه مِنْ أخسّ الحالات وأقبحها، فضربه الله مثلاً لهذا الكافر، إن وَعَظْتَهُ وذَكَّرْتَهُ بآيات الله فهو كافر لا محالَةَ، لا يسمع ولا يتَّعِظ، كلهث ذلك الكلب في حالة الرخاء وعدم العطش. ﴿تَتْرُكْهُ يَلْهَث﴾ إن وعظته لم يَتَّعِظْ، وإن تَرَكْتَهُ لم يَتَّعِظْ، فهو ملازم -والعياذ بالله- كفرانه وعصيانه على جميع الحالات. وهو في أخس تلك الحالات كالْكَلْبِ الذي يلازم لهثَهُ في جميع الأحوال، وهي حالة من أخس حالاته والعرب تُسَمِّي الذي أصابه شيء حتى بَهَظَه تقول: هذا لاهث، وتقول: فلان ملجأ
_________
(١) انظر: الدر المصون (٥/ ٥١٦).
(٢) انظر: القرطبي (٧/ ٣٢٢)، الدر المصون (٥/ ٥١٧).
والثانيةُ: عمارتُه المعنويةُ، وهي عبادةُ اللَّهِ وطاعتُه فيه، واللائقُ بالكفارِ هنا هو الأولُ؛ لأنهم كانوا يَسْدِنُونَ البيتَ وقد بَنَوْهُ، كما قال زهيرٌ (١):

وَأَقْسَمْتُ بِالْبَيْتِ الَّذِي طَافَ حَوْلَهُ رِجَالٌ بَنَوْهُ مِنْ قُرَيْشٍ وَجُرْهُمِ
وبناءُ قريشٍ له معروفٌ، حضره النبيُّ ﷺ في صِغَرِهِ كما هو معروفٌ.
وهذا معنَى قولِه: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾ [التوبة: آية ١٧].
﴿أُولَئِكَ﴾ الكفرةُ الشاهدونَ على أنفسهم بالكفرِ ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ ومنها عمارتُهم للبيتِ الحرامِ؛ لأن الكفرَ يحبطُ جميعَ الأعمالِ. ومعنَى ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ اضْمَحَلَّتْ وكانت لا فائدةَ فيها؛ لأن أفعالَ الكفارِ تضمحلُّ ولا تنفعُهم يومَ القيامةِ؛ لأن اللَّهَ يقولُ: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنْثُورًا (٢٣)﴾ ويقول تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ (١٥) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٦)﴾ [هود: الآيتان ١٥، ١٦] أما أفعالُ الكافرِ من قُرَبِهِ فإنها تنفعُه في الدنيا؛ لأن الكافرَ إذا أطاع اللَّهَ في الدنيا مُخْلِصًا في طَاعتِه لوجهِ اللَّهِ كَأَنْ يَبَرَّ وَالِدَيْهِ، ويصلَ الرحمَ، وَيُقْرِيَ الضيفَ، وَيُنَفِّسَ عن المكروبِ، ويعينَ [المظلوم] (٢)، فإذا فَعَلَ الكافرُ هذه القربَ يقصدُ بها وجهَ اللَّهِ فإن اللَّهَ يعاوضه في الدنيا ويعطيه ثوابَه في الدنيا من الصحةِ والرزقِ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٧٢) من سورة الأعراف.
(٢) في الأصل: «الظالم» وهو سبق لسان.


الصفحة التالية
Icon