أشتري منكَ في الجنةِ بذلك الثمنِ، فَتَصَدَّقَ بالثمنِ على الفقراءِ والمساكين. حتى افْتَقَرَ ذلك المؤمنُ، وجاء لشريكِه الكافرِ يطلبُ أن يكونَ عندَه أجيرًا، فامتنعَ أن يُشَغِّلَهُ، ولاَمَه وَوَبَّخَهُ، فدخلَ ذلك المؤمنُ الجنةَ وذلك الكافرُ النارَ، وكان ذلك المؤمنُ يتحدثُ [مع] جلسائِه [في] (١) الجنةِ، وقال لهم: كان لي في الدنيا صديقٌ صاحِبٌ من أمرِه كيت وكيت، فاطَّلِعوا معي لِنَرَى حالَه وما هو عليه في النارِ، فَأَخْبَرُوهُ أنهم لا يعرفونَه معرفةً سابقةً، ولا حاجةَ لهم فيه، وأنه هو إن شَاءَ يَطَّلِعُ لِيَنْظُرَ إليه، فَاطَّلَعَ فرآه في النارِ، وقال له ذلك الكلامَ الذي ذَكَرَهُ اللَّهُ في الصافاتِ، أشار اللَّهُ إلى هذه القصةِ بقولِه في أهلِ الجنةِ: ﴿وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (٥٠) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢)﴾ إِنْكَارًا للبعثِ ﴿أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣)﴾ إِنَّا لَمُجَازَوْنَ؟ لا يكونُ ذلك. إِنْكَارًا منه للبعثِ ﴿قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧)﴾ [الصافات: الآيات ٤٨ - ٥٧].
ومعنى قولِه (جل وعلا) هنا: ﴿فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ أي: جَعَلْنَا بعضَهم فتنةً لبعضٍ، كما جَعَلَ اللَّهُ فقراءَ المسلمين الضعفاءَ الذين ليس لهم مالٌ ولا جاهٌ في ذلك الوقتِ كبلالٍ وعمارٍ وصهيبٍ وما جرى مَجْرَى ذلك من الفقراءِ الذين لَيْسُوا أصلاً من قريشٍ ولا مالَ عندهم فَتَنَ اللَّهُ بهم أولئك الأغنياءَ. كأن اللَّهَ (جل وعلا) قال: إنه من حكمتِه أن يَفْتِنَهُمْ بهم ليقولوا هذا القولَ مُحْتَقِرِينَ
_________
(١) في الأصل: «في جلسائه في الجنة». وهو سبق لسان.
فَتَحوا الطائف كانت الفواكه فيه بكثرة من غيرها؛ مِنْ رُمَّان وفِرْسِك وغير ذلك، ولم يُنْقَل عن النبي ولا عن أحد من أصحابه أن أحداً منهم تَعَرَّضَ لِلْفَوَاكِهِ أو الخَضْراوات وأخذ منها شيئًا.
ومعلوم أن أبا حنيفة يوجب الزكاة في الجميع نظراً للآية التي ذكرنا (١).
فبهذا تعلمون أن مالكاً والشافِعِيَّ يُوجِبَان الزكاة في كلِّ مُقتات مُدَّخر، وليس مُقتاتاً عندها من الأشجار إلا التمر والزَّبِيب، وأن الإمام أحمد يوجب الزكاة في كل ما ييبس ويُكالُ ويَبْقَى.
وكان داود بن علي الظاهري يقول: ما تُنْبِتُهُ الأرض إن كان مكيلاً فلا يُزَكَّى حتى يبلغ الخمسة أوسق، وإنْ كَانَ غير مكيل وَجَبَتِ الزكاة في قليلِهِ وكَثِيرِهِ (٢).
والحق أن هذا المذهب لولا أنه عُورض بما هو أقوى منه كان أقرب المذاهب إلى ظاهر النصوص؛ لأن قوله - ﷺ -: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» (٣) يدل على أن الزكاة تَخْتَصُّ بما هو موسّق، والوسق يختص بالْكَيْلِ بإجماع العلماء؛ لأن الوسق معيار كيلي بلا نزاع؛ لأنه ستون صاعاً، والصاع معيار كيلي، وهذا معروف، وإن كان ليس مكيلًا يدخل في عموم: ﴿وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ﴾ [البقرة: الآية ٢٦٧] إلا أن مذهب داود هذا مع اتجاهه وجَمْعِهِ
_________
(١) انظر: المبسوط (٣/ ٢).
(٢) انظر: المحلى (٥/ ٢١٢).
(٣) مضى عند تفسير الآية (١٣١) من سورة الأنعام.
الرجالِ؛ لأن الكثرةَ لها شأنٌ، وَتَقْدِرُ الأمةُ على أن تكافحَ بها عدوَّ الإسلامِ وتردَّ بها الكفاحَ الداهمَ لبلادها. فهذه مصالحُ الإسلامِ، وهي واضحةٌ لا شَكَّ فيها.
وكذلك ما يزينُه إبليسُ من أنه لابدَّ أن تكونَ النساءُ كالرجالِ في جميعِ الميادين، فهذا أَمْرٌ قَدْ بَيَّنَّا أيضًا أن الحقَّ فيه مع القرآنِ كما لا يَخْفَى، وأن الفلسفاتِ الشيطانيةَ إنما أَضَاعَتْ أخلاقَ الناسِ، وابتذلت النساءَ وضيعتهن من حيث لا يَشْعُرْنَ؛ لأن الشيطانَ يسوؤه لعداوتِه للإنسانِ ما جاءَ به الإسلامُ من معاونةِ الرجلِ وامرأتِه على بناءِ أولادِهما وأسرتِهما، والمساعدةِ في مجتمعِهما بأن يخرجَ الرجلُ؛ لأَنَّ فحولتَه وذكورتَه مناسبةٌ للخروجِ، عظامُه قويةٌ وعضلاتُه قويةٌ، وعيونُه محمرةٌ قويةٌ لاَ يتلذذُ به من رَآهُ، وليس مُتَعَرِّضًا للفتنةِ، يقومُ في كدحِ الحياةِ لتحصيلِ شؤونِ الحياةِ، وفي الجهادِ لِرَدِّ الكفاحِ المسلحِ وإعلاءِ كلمةِ اللَّهِ، ويتركُ قرينَه الآخَرَ الكريمَ وهو امرأتُه الكريمةُ العفيفةُ الصَّيِّنَةُ المطيعةُ لِلَّهِ (جل وعلا)، الْمُحَافِظَةُ على شَرَفِهَا ودينِها وكرمِها، المُبَيِّضة وجهَ نفسِها ووجهَ أسرتِها، يتركُها في بيتِه في صيانةٍ وسترٍ وعفافٍ فيجدُها قائمةً أحسنَ قيامٍ، تَحْنُو على الرضيعِ فترضعُه، وعلى الفطيمِ فترحمُه، وعلى المريضِ فَتُعَالِجُهُ، وعلى شؤونِ البيتِ فتقومُ بجميعِ مصالِحها، فإذا جاء الرجلُ مِنْ عَمَلِهِ وَجَدَ قرينَه الآخَرَ الكريمَ قائمًا بأكبرِ مساعدةٍ وأعظمِ معونةٍ وأعظمِ تربيةٍ للأولادِ الصغارِ، من تعليمِهم الأدبَ ومبادئَ الدينِ والإصلاحِ البيتيِّ، فيجدُ قرينَه الآخَرَ الكريمَ قائمًا له بأعظمِ مساعدةٍ على بناءِ الأسرةِ الخاصِّ وبناءِ المجتمعِ العامِّ؛ لأنه مُتَرَكِّبٌ من الأُسَرِ الخاصةِ، إلا أن الشيطانَ لعداوتِه لِبَنِي آدمَ يغيظُه هذا التعاونُ الكريمُ الشريفُ
للاهث. معناه: ملجأ للمحزوب المحْزُون الذي فَدَحَه الأمر، وهو معنى معروف في كلامها، ومنه قول الشاعر وهو بعض الأزْدِيّين (١):
فنِعْمَ فتى الجُلَّى ومُسْتَنْبَط النَّدى | ومَلْجَأ محْزُوبٍ ومَفْزَع لاهِثِ. |
عِيَاذُ بْنُ عَمْرِو بن الحُلَيْس بن جَابِر | ابْن زَيْدِ بْنِ مَنْظُور بن زيد بنِ وَارِثِ |
إنْ يقتلوكَ فقد ثَلَلْتُ عروشَهُم | بعتيبةَ بن الحارثِ بن شهابِ |
وأما قول من قال: إن بلعام بن باعوراء لما دعا على نبي الله
_________
(١) البيتان لابن دريد، وهما في ديوانه ص١٠٤.
(٢) البيت في البحر المحيط (٢/ ٢٨٥)، الدر المصون (٢/ ٥٦٠)، فتح القدير (٢/ ٢١١).
والمالِ، ولا شيءَ له يومَ القيامةِ، كما دَلَّتْ على هذا آياتٌ من كتابِ اللَّهِ، كقولِه: ﴿نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ﴾، ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ﴾ [الشورى: آية ٢٠]. وَثَبَتَ معناه في صحيحِ مسلمٍ من حديثِ أنسٍ رضي الله عنه (١). وهذا معنى قولِه: ﴿أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ [التوبة: آية ١٧] النار- والعياذُ بالله - هي نارُ الْخِزْيِ التي أَعَدَّ اللَّهُ لأعدائه يومَ القيامةِ.
والألفُ التي بين النونِ والراءِ منقلبةٌ عن واوٍ، فأصلُها من مادةِ الأجوفِ واوي العين، أصلها (نَوِرْ) ولذا يقولون في النظرِ من بعيدٍ إلى النارِ: تَنَوَّرْتُهَا. فلو كانت يائيةَ العينِ لقالوا: تَنَيَّرْتُهَا. قالوا واشتقاقُها من: نَارَتِ الظبيةُ. إذا ارتفعت جافلةً؛ لأن طبيعةَ النارِ الارتفاعُ. (٢)
﴿وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ خلودُ الكفارِ في النارِ خلودٌ أبديٌّ سرمديٌّ لا انقطاعَ له، كما قال تعالى: ﴿كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا﴾ [الإسراء: آية ٩٧]، ﴿فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا (٣٠)﴾ [النبأ: آية ٣٠]، ﴿لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ [البقرة: آية ١٦٢].
ومعروفٌ في هذا إيرادٌ يُورِدُهُ الكفرةُ الملاحدةُ وأذنابُهم وَمَنْ تَعَلَّقَ بهم يقولونَ: إن الله (جلَّ وعلا) في غايةِ الحكمةِ والعدالةِ، وهو العدلُ الحكيمُ (جلَّ وعلا) والكافرُ إنما عَصَى في الدنيا أيامًا معدودةً، قالوا: فكيفَ يكونُ العملُ في أيامٍ معدودةٍ محدودةٍ والجزاءُ دائمٌ لاَ ينقطعُ أبدًا؟ وأين الحكمةُ والإنصافُ في هذا؟ قَبَّحَ اللَّهُ مَنْ يقولُ
_________
(١) تَقَدَّمَ تخريجُه عند تفسير الآية (٤٢) من سورة الأعراف.
(٢) مضى عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام.