لهؤلاء، ليسوا عارفينَ بحقيقةِ الأمرِ: ﴿فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ لأَجْلِ أن يقولوا. أي: أن يقولَ أولئك الأغنياءُ محتقرين لأولئك الفقراءِ إنكارًا: ﴿أَهَؤُلاَءِ﴾ يَعْنُونَ: أهؤلاءِ المساكينُ الفقراءُ الذين لاَ يُعْبَأُ بهم ﴿مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ فَأَعْطَاهُمُ المنَّة العظمى، وهي التوفيقُ والإيمانُ لِمَا يُرْضِي اللَّهَ جل وعلا، والفضل برضا اللَّهِ (جل وعلا) عَنْهُمْ، إنكارًا لهم أن اللَّهَ يَمُنُّ على الضعفاءِ في زعمِهم أنهم أَحَقُّ بذلك منهم، وأن الذي هم عليه لو كان حَقًّا لكان أولئك الأغنياءُ سابقين إليه.
كما قال عنهم: ﴿لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾ [الأحقاف: آية ١١] وقال الواحدُ منهم: ﴿وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى﴾ [فصلت: آية ٥٠] ﴿وَلَئِن رُّدِدْتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَبًا﴾ [الكهف: آية ٣٦] ﴿لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا﴾ [مريم: آية ٧٧] هذا كُلُّهُ جهلٌ منهم، يظنونَ أن اللَّهَ ما أعطاهم الغنَى والجاهَ في الدنيا إلا لأنهم يستحقونَ ذلك، وأن لهم مكانةً عِنْدَ اللَّهِ وشرفًا استحقوا به ذلك، واللَّهُ (جل وعلا) كَذَّبَهُمْ مِرَارًا في هذه المقالةِ الكاذبةِ، قال: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ﴾ يعني: التي تفتخرونَ بها في الدنيا وَتَقِيسُونَ عليها الآخرةَ ﴿بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى﴾ [سبأ: آية ٣٧] وقال: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لاَ يَشْعُرُونَ (٥٦)﴾ [المؤمنون: الآيتان ٥٥ - ٥٦] وَبَيَّنَ أن ذلك استدراجٌ من اللَّهِ، كما قال: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣)﴾ [الأعراف: الآيتان ١٨٢ - ١٨٣] ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [آل عمران: آية ١٧٨] وَلِذَا قال هنا: ﴿لِّيَقُولوا﴾ مُحْتَقِرِينَ ضعفاءَ المسلمين ﴿أَهَؤُلاَءِ﴾ الضعفاء الذين لا مكانةَ لهم،
للنصوص يَرِدُ عليه ما ذكرناه الآن من أن النبي - ﷺ - لم يَتَعَرَّضْ هو ولا أحَدٌ من أصحابه إلى أخْذِ الزكاة من الفَوَاكِهِ والخَضْراوات، ولا شيء من ذلك.
وهذا الذي ذكرنا يُعلم منه أن أبا حنيفة (رحمه الله) لا يَشْتَرِطُ النِّصَاب، ولا خمسة أوسق، ولا كون النابت في الأرض قوتًا أو غير قوت، ييبس أو لا ييبس، مدخراً أو لا، وأن الأئمة الثلاثة اشترطوا كما ذكرنا.
وهذا معنى قوله: ﴿وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام: الآية ١٤١] على أن المراد بها الزكاة.
وهذا الذي ذكرنا يعرف به الإنسان مذاهب العلماء في كل ما يخرج من الأرض، وقد بَيَّنَّا خلافهم في عين ما تجب فيه الزكاة، وبَيَّنَّا أنه عند الشافعي ومالك: كل ما يُقتات ويُدَّخَر، وأنه عند أحمد: كل ما يَيْبَس ويُكَالُ ويبقى، وأنه عند أبي حنيفة: لا يُشْتَرَطُ فيه شيء، هذا عين الذي تجب فيه الزكاة، وقد بينا أنها عند الجميع القدر الذي تجب فيه هو: خمسة أوسق فصاعدًا، وأن أبا حنيفة يوجبها في القليل والكثير، وأن القدر اللازم إخراجه هو العُشر فيما لا يُسقى بِكُلْفَة، ونصف العُشر فيما سُقي بهذا (١). هذا هو حاصل كلام العلماء في هذه المسائل الثلاثة. وإذا عرفت عين ما تجب فيه الزكاة، وقدر النصاب الذي تجب فيه، وقدر الزكاة التي تخرج منه، فقد عرفت المسألة.
وقوله: ﴿يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ فيه للعلماء إشكال -على أنه
_________
(١) انظر: القرطبي (٧/ ١٠٩)، الأضواء (٢/ ٢٣٠).
النزيهُ، وبناءُ المجتمعِ من الطرفين على أكملِ الوجوهِ وَأَتَمِّهَا وأليقها بالشرفِ والمروءةِ، فيأتِي لأوليائِه ويهمسُ في آذانهم وأذنِ المرأةِ ويقولُ: الرجلُ يخرجُ ويختلطُ بالدنيا وَتَبْقَيْنَ أنتِ محبوسةً كالدجاجةِ، فأنتِ لستِ بدجاجةٍ، أنتِ إنسانٌ ينبغي أن تخرجي كما يخرجُ الرجلُ، وَتُزَاوِلِي ما يزاولُه الرجلُ، فإذا خَرَجَا معًا اضطرا لأن يُؤَجِّرَا إنسانًا يجلسُ
في البيتِ ليحافظَ على الأولادِ وشؤونِ البيتِ الداخليةِ، فيصيرُ ذلك الأجيرُ المسكينُ هو الضحيةَ، وهو الدجاجةُ المحبوسةُ في البيتِ لتتمكنَ المرأةُ من الخروجِ، ويكونُ جَمَالُهَا وَقْفًا على الخونةِ كما أَوْضَحْنَاهُ مرارًا؛ لأنها إذا خرجت كانت كُلُّ عينٍ فاجرةٍ تنظرُ إليها وتتمتعُ بجمالِها كما شاءت، والرجلُ ربما نَزَلَ منه المنيُّ بالنظرةِ إلى جمالِ المرأةِ الجميلةِ كما هو معروفٌ، فيُستغل جمالَها مَجَّانًا بلا ثمنٍ، غدرًا وخيانةً ومكرًا وجنايةً على شرفِ المسكينةِ وعلى مروءتها وعلى فَضْلِهَا وعلى أُسْرَتِهَا، باسمِ فلسفةٍ شيطانيةٍ فاضيةٍ جوفاءَ باسمِ التقدمِ، باسم الحضارةِ، باسمِ التمدنِ!! وكلُّ ذلك ضلالٌ وإضلالٌ، وضياعٌ للأخلاقِ والمروءةِ والشرفِ تحتَ شعاراتٍ براقةٍ زائفةٍ كاذبةٍ، يُضَيِّعُ الشيطانُ تحتَها كُلَّ فضيلةٍ وكلَّ شرفٍ وكلَّ مروءةٍ، وهذا مُشَاهَدٌ في الأقطارِ التي أَطْلَقَتْ لنسائِها الحريةَ، وَصِرْنَ يَخْرُجْنَ عارياتٍ، يُزَاوِلْنَ ما يزاوله الرجالُ من الأعمالِ، فَتَرَاهُنَّ ذَهَبَ مِنْ جميعهن الحياءُ والشرفُ النسويُّ، وصارت أولادُ الزنى تُؤْخَذُ من الشوارعِ تُعَدُّ بالآلافِ والملايين!!
وَمَنْ نَظَرَ في إحصائياتِ أولادِ الزنى في العالمِ المتمدنِ يعلم أن نتيجةَ فلسفاتِ الشيطانِ هي الزنى والانحطاطُ الخلقيُّ، وضياعُ الشرفِ وذهابُ المروءةِ والكرمِ. ومع هذا يسمونه التقدمَ والحضارةَ
موسى اندلع لسانه فصار على صدره، فصار لسانه متدليًا - كلسان الكلب - يلهث كلهاث الكلب، وأن هذا معنى قوله: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ... ﴾ الآية. هذا التفسير غير صحيح، بل الصحيح أنه مثل مضروب كما بيّنَّا، ويدل عليه قوله: ﴿ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ ﴿مَثَلُ الْقَوْمِ﴾ وصفتهم ﴿الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ في ملازمتهم حالة الكفر والتكذيب القبيحة كمثل هذا الكلب في ملازمته حالة اللهث القبيحة في جميع أحواله.
﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ﴾ ﴿فَاقْصُصِ﴾ معناه: اقصص عليهم يا نبي الله ﴿الْقَصَصَ﴾ أي: هذا الخبر كخبر بلعام بن باعوراء وغيره ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أي: لأجل أن يتفكروا ويُعملوا أفكارهم فيتعظوا بمثلات الله وما أوقعه بالذين عصوه في الزمن الماضي لينزجروا وينكفوا. وهذا معنى قوله: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٧٦].
وقوله: ﴿سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ﴾ (ساء) بمعنى: بئس. و (مثلاً) مُمَيِّز. و (القوم) فاعل بئس (١) ﴿مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ ساء مثلهم والعياذ بالله؛ لأنه مثل السوء ﴿سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ (٢) كَانُواْ يَظْلِمُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٧٧].
يقول الله (جل وعلا): {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٧٨) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ
_________
(١) هذا الإعراب لا يخلو من إشكال، وللوقوف على كلام المعربين انظر: القرطبي (٧/ ٣٢٤)، البحر المحيط (٤/ ٤٢٥)، الدر المصون (٥/ ٥١٨).
(٢) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وبقية الآية معروفة.
هذا!! وهذا يتمسك به الملاحدةُ وأذنابُ الكفرةِ (١).
والجوابُ عن هذا أن الكافرَ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - خبثُه الذي ينطوي عليه الذي هو سببُ كُلِّ ما جاءه من البلايا هو دائمٌ أبدًا لا يزولُ ولا ينقطعُ، فكان جزاؤُه دائمًا لا يزولُ ولاَ ينقطعُ، والله (جلَّ وعلا) يقول: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ﴾ [الأنفال: آية ٢١] (خيرًا) نكرةٌ في سياقِ الشرطِ وهي تَعُمُّ، فلا يكونُ في قلوبِهم خيرٌ أبدًا في وقتٍ ما كائنًا ما كَانَ. ومما يوضحُ ذلك: أنهم لَمَّا عاينوا النارَ، وشاهدوا الحقائقَ، وكشفَ اللَّهُ غطاءهم عنهم، وَعَايَنُوا كُلَّ شيءٍ، وَتَمَنَّوُا الردَّ إلى الدنيا مرةً أخرى، صرَّح اللَّهُ بأن ما طُبِعُوا عليه وما جُبِلُوا عليه من الكفرِ لا يزولُ أبدًا، وأنه لو رَدَّهُمْ إلى الدنيا لرجعوا إلى كفرهم؛ لأنهم مُنْطَوُونَ عليه لا يفارقُهم أبدًا، كما قال: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام: آية ٢٨] فهذا يدلُّ على أنهم لا يَنْفَكُّونَ عن كفرِهم، وأنهم دائمونَ عليه أبدًا، فكان جزاؤُه دائمًا عليهم أبدًا، جزاءً وفاقًا، ولله (جل وعلا) الحكمةُ في كل ما يفعلُه، وهو الحكمُ العدلُ اللطيفُ الخبيرُ. وهذا معنَى قولِه: ﴿أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ﴾.
﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)﴾ [التوبة: آية ١٨].
[المقررُ] (٢) عند علماءِ العربيةِ أن (إنما) أداةُ حصرٍ وإثباتٍ.
_________
(١) راجع هذه الشبهة والجواب عنها، عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام.
(٢) في هذا الموضع انقطاع في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.