ولا مالَ ولا جاهَ ﴿مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ أي: أَعْطَاهُمُ الْمِنَّةَ العظمى برضاه ودِينِه وَهُدَاهُ ﴿مِّنْ بَيْنِنَا﴾ أي: لم يُعْطِنَا نحن ذلك؟ كما قال قومُ صالحٍ عنه: ﴿أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ﴾ [القمر: آية ٢٤] إلى أن قالوا: ﴿أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا﴾ [القمر: آية ٢٥] أجاءه الوحيُ من اللَّهِ مِنْ بَيْنِنَا، ولم يكن أَفْضَلَنَا ولا أَغْنَانَا؟ هذا لا يمكنُ أبدًا!! كما قال كفارُ مكةَ: ﴿وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ
مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾
[الزخرف: آية ٣١] صاحبِ مالٍ وجاهٍ؛ لأن محمدًا - ﷺ - لم يَكُنْ عندَه الغنَى، وقد رَدَّ اللَّهُ عليهم بقولِه: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ﴾ [الزخرف: آية ٣٢] لاَ وَكَلاَّ؛ ولذا قال هنا: ﴿لِّيَقُولوا أَهَؤُلاَءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا﴾ واللامُ هنا (لامُ كَيْ)، وهي للتعليلِ، وَاللَّهُ يبتلي الخلقَ ليقعَ منهم ما يشاء اللَّهُ من خيرٍ وَشَرٍّ، وله في ذلك حكمةٌ، وَبَيَّنَ أنه يبتلي لينجحَ بعضُ الناسِ في ذلك الامتحانِ، ويسقطَ بعضُهم في ذلك الامتحانِ، أوضحَ ذلك في سورةِ المدثرِ، حيث قال (جل وعلا) - لأنه لَمَّا جاء في القرآنِ أن خَزَنَةَ جهنمَ تسعةَ عشرَ مَلَكًا، كان هذا فتنةً للكفارِ، حيث قالوا: كيفَ ونحنُ الآلافُ المؤلفةُ يَقْهَرُنَا تسعةَ عشرَ شخصًا؟ فقال لهم واحدٌ منهم كان قَوِيًّا: أنا أكفيكم منهم كذا وكذا - قدرَ سبعَ عشرةَ - وأنتم تقتلون الباقيَ فَنَحْتَلُّ الجنةَ، وندخلُها قَهْرًا (١)!! ولذا قال اللَّهُ -: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ ثم قال: ﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ثم بَيَّنَ نتيجةَ هذه الفتنةِ وهذا الاختبارِ، وَصَرَّحَ بأن قومًا ناجحونَ فيه، وقومًا بعكسِ ذلك. قال: ﴿لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ ثم قال في غيرِ الناجحين: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم
_________
(١) انظر: ابن جرير (٢٩/ ١٥٩ - ١٦٠).
الزكاة (١) - لأنه يوم الحصاد لم يكن تمراً يابساً، ولم يكن زبيباً يابساً، والزكاة إنما تُخرج منه بعد أن يكون تمراً يابساً، أو زبيباً يابساً. قالوا: المراد بيوم الحصاد: أن المراد به عند حصاده، ويراد: أن زمن الحصاد قد يطول إلى أن يصح يُبْسه من زبيب وتمر، ونحو ذلك، وهذا يوجد في كلام العرب، يقول: افعله عند كذا، ويريد به الاتساع في الوقت، كما تقول: لقيت زيداً سنة كذا، وتقول: لقيته في يوم أول منها، ويكون جميع السنة بعده لم تلقه فيه، هذا يمكن في كلام العرب، وهذا معنى قوله -على هذا القول-: ﴿وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ (٢). قرأه أبو عمرو، وابن عامر، وعاصم: ﴿يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ وفَتْح الحاء في (الحصاد) هي لغة التميميين وغيرهم من قبائل نجد. وقرأ الآخرون: ﴿يَوْمَ حِصَادِهِ﴾ بكسر الحاء. وهي لغة الحجازيين، وهما لغتان معروفتان، وقراءتان مشهورتان (٣): كالحَصاد والحِصاد، والجَذاذ والجِذاذ، والقَطاف والقِطاف (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُسْرِفُواْ﴾ في هذه الآية أوجه معروفة متقاربة من التفسير (٥):
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ١٥٨) فما بعدها.
(٢) انظر: البحر المحيط (٤/ ٢٣٨)، الدر المصون (٥/ ١٩٠)، التحرير والتنوير (٨/ ١٢٢).
(٣) انظر: المبسوط لابن مهران ص ٢٠٤.
(٤) انظر: حجة القراءات ص ٢٧٥، القرطبي (٧/ ١٠٤)، أضواء البيان (٢/ ٢٤٦).
(٥) انظر: ابن جرير (١٢/ ١٧٣)، القرطبي (٧/ ١١٠)، ابن كثير (٢/ ١٨٢).
والتمدنَ، والذوقَ السليمَ!! والتشريعَ السماويَّ - الذي يقولُ اللَّهُ فيه: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)﴾ [الأعراف: آية ٥٢] الذي طَعَنُوا فيه وَنَبَذُوهُ وراءَ ظهورِهم وتقوَّلوا عليه كما تَقَوَّلَ الكفارُ أنه لا يُسَايِرُ ركبَ الحضارةِ، وليس بصالحٍ لكلِّ زمانٍ - هو الذي يأمرُهم بالعفافِ والكرمِ والمحافظةِ على الأخلاقِ والشرفِ مع العملِ الحثيثِ في الدنيا.
وربما تضطر بعضُ النساءِ إلى مزاولةِ الأعمالِ كالتي لا زوجَ لها ولا وَلِيَّ لها يقومُ بشؤونِها، فنحنُ لاَ نقولُ: إنها تَبْقَى عالةً لاَ تعملُ، بل تذهبُ وتعملُ في بعضِ مرافقِ الحياةِ لتسدَّ خَلَّتَها وماءَ وجهِها عن تكففِ الناسِ، ولكنها تعملُ في عفافٍ وسترٍ وصيانةٍ وكرمٍ، وعدمِ مخالطةٍ للأجانبِ، وعدمِ إهدارٍ للفضيلةِ وارتكابٍ للرذيلةِ، فَرُبَّ امرأةٍ عملت عملاً من أعمالِ الحياةِ الدنيا سَدَّتْ به خَلَّتها، وَقَوَّمَتْ به شَأْنَهَا، وهي في غايةِ العفافِ والتسترِ، والأخذِ بمكارمِ الأخلاقِ.
والحاصلُ أن اللَّهَ (جل وعلا) يقولُ: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ هذا الكتابُ فَصَّلَهُ خالقُ السمواتِ والأرضِ حالَ كونِ ذلك التفصيلِ على علمٍ منه (جل وعلا)، وعلمُه محيطٌ بكلِّ شيءٍ لاَ يَخْفَى عليه شيءٌ، فهو عَالِمٌ بما كان وما يكونُ وما لو كان كيفَ يكونُ؛ لأنا بَيَّنَّا مِرَارًا أن العلمَ الكاملَ لِلَّهِ (جل وعلا) وحدَه، فهو المحيطُ علمُه بكلِّ شيءٍ، يعلمُ ما كان وما يكونُ حتى إنه من إحاطةِ عِلْمِهِ لَيَعْلَمُ ما سبقَ في علمِه أنه لا يكونُ أن لو كانَ كيفَ يكونُ.
ومن إحاطةِ علمِ اللَّهِ: أن جميعَ الخلائقِ لا يعلمونَ إلا ما عَلَّمَهُمُ اللَّهُ من علمِه، فالعلمُ المحيطُ لِلَّهِ (جل وعلا) وحدَه، ولا يعلمُ أحدٌ شيئًا إلا ما عَلِمَهُ العليمُ الخبيرُ جل وعلا.
الْغَافِلُونَ (١٧٩) وَلله الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (١٨٠) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شيء وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦)} [الأعراف: الآيات ١٧٨ - ١٨٦].
﴿مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٧٨)﴾ [الأعراف: آية ١٧٨] لما ذكر (جل وعلا) قصة الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها -والعياذ بالله- وبيّن أنه لو شاء رفعه بتلك الآيات وهداه إلى العمل بها في قوله: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا﴾ صرَّح بأن المهتدي هو من هداه الله، والضال هو مَنْ أضَلَّه الله ﴿مَن يَهْدِ اللَّهُ﴾ الأصل: من يهده الله. فحذف المفعول لدلالة المقام عليه.
﴿فَهُوَ الْمُهْتَدِي﴾ والمهتدي هو السالك طريق الهدى التي تستلزم رضا الله ونيل ما عنده من الرضوان والجنات.
﴿وَمَن يُضْلِلْ﴾ حذف المفعول أيضًا و «مَن» شرطية في الموضعين، أي: ومن يضلله الله. مضارع أَضَلَّه يَضِلُّه إضلالاً. ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾.
وهذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن بكثرة حجة على القدرية الزاعمين أن الله لا يضل أحدًا، فقد تكلمنا في هذه الدروس مرارًا على مسألة القدر (١)، وأن التحقيق أنه لا تقع في الكون تسكينة
_________
(١) راجع ما سبق عند تفسير الآية (٣٩) من سورة الأنعام.
يعنِي: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ العمارةُ المعنويةُ بالعباداتِ وَذِكْرِ اسمِ اللَّهِ فيها، والعمارةُ الحسيةُ، من بنائِها وترميمِها، هذا كُلُّهُ من شأنِ المؤمنينَ، لاَ مِنْ شَأْنِ الكفارِ، وهذا قولُه: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾. (مَنْ) فاعل قولِه ﴿يَعْمُرُ﴾ الذي آمَنَ بالله هو الذي يَعْمُرُ مساجدَ اللَّهِ، لا الكافرُ الذي عملُه ضِدٌّ لِمَا بُنِيَتْ له المساجدُ، فهذا تناقضٌ لا يمكنُ أن يكونَ عَامِرًا للمساجدِ، وعملُه ضِدُّ ما بُنِيَتْ له المساجدُ، وهذا معنَى قولِه: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ أي: صَدَّقَ به (جلَّ وعلا) وبكلِّ ما يجبُ التصديقُ به.
﴿وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ هو يومُ القيامةِ. وجرتِ العادةُ أن اللَّهَ يذكرُ الإيمانَ باليومِ الآخرِ مع الإيمانِ به؛ لأَنَّ الكفرَ باليومِ الآخِرِ سببٌ لكلِّ البلايا وأنواعِ الكفرِ والجحودِ؛ لأن مطامعَ العقلاءِ محصورةٌ في أمرين: هما: جلبُ النفعِ، ودفعِ الضرِّ، والذي لا يصدقُ بيومِ القيامةِ لاَ يرغبُ في خيرٍ في ذلك اليوم، ولا يخافُ من شَرٍّ في ذلك اليومِ، فلا يَنْزَجِرُ عن شيءٍ، ولا يَرْعَوِي عن شيءٍ؛ ولذا كان التكذيبُ بالبعثِ من أشنعِ أنواعِ الكفرِ بالله (جلَّ وعلا) وقد صرَّح اللَّهُ بأن المكذبين بالبعثِ والشاكِّين فيه من حَطَبِ جهنمَ في آياتٍ كثيرةٍ كقولِه: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا﴾ [الفرقان: آية ١١] وقولُه في المنكرين للبعثِ: ﴿وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ استفهامُ إنكارٍ منهم في الخلقِ الجديدِ بعد الموتةِ الأُولَى، قال اللَّهُ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [الرعد: آية ٥]. وهذا معنى قولِه: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ﴾ يعني: الصلواتِ المكتوباتِ الخمسَ. ﴿وَآتَى الزَّكَاةَ﴾


الصفحة التالية
Icon