مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} كذلك قولُه هنا: ﴿لِّيَقُولوا﴾ محتقرين ضعفاءَ المسلمين: ﴿أَهَؤُلاَءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنْ بَيْنِنَا﴾ لا يمكنُ ذلك؛ [لأنه لو كان ما أعطاهم اللَّهُ خيرًا لأعطانا] (١)؛
لأنَّا أَوْلَى منهم وَأَعْظَمُ وأحقُّ بالخيرِ ﴿لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾ [الأحقاف: آية ١١] رَدَّ اللَّهُ عليهم هنا بقولِه: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ هذا النوعُ من الاستفهامِ هو الاستفهامُ الْمُسَمَّى بـ (استفهامِ التقريرِ) والمقصودُ من استفهامِ التقريرِ ليس السؤالَ عن شيءٍ يفهمُه السائلُ، بل المرادُ به: حَمْلُ الْمُخَاطَبِ على أن يُقِرَّ فيقولَ: «بلى»، ولا يكونُ استفهامُ التقريرِ إلا في شيءٍ لاَ يمكنُ أن يُنَازَعَ فيه، وإن كان يمكنُ فيه النزاعُ فَالْمُخَاطَبُ يَعْرِفُ الْمُخَاطِبُ أنه لاَ ينازعُ في ذلك الشيءِ، وأنه مُقِرٌّ به. فمثالُ الذي لا يمكنُ أن يكونَ فيه نزاعٌ قولُه هنا: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ الجوابُ: بلى، هو واللَّهِ أَعْلَمُ. ولا يمكن جوابٌ غير هذا لأحدٍ. أما الجوابُ الذي يمكنُ الخلافُ فيه، إلا أن المخاطِبَ يعلمُ أن المخاطَبَ مُقرٌّ به ويكفيه ذلك عن غيرِه: فَكَقَوْلِ جريرٍ يمدح عبدَ الملكِ بنَ مروانَ (٢):
أَلَسْتُم خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
فهو يعلمُ أن الممدوحَ يعتقدُ هكذا، وإن كان غيرُه قد يخالفُ ويقولُ: ليسوا أَنْدَى الناسِ بطونَ راح.
وقولُه: ﴿بِالشَّاكِرِينَ﴾ هذه (الباءُ) التي تأتي بعدَ (ليس) وبعدَ (ما) النافيةِ باطرادٍ إنما فائدتُها أنها تدلُّ على توكيدِ النفيِ، فالنفيُ الذي تدخلُ فيه هذه (الباءُ) أَوْكَدُ من غيرِه، فإن هذه (الباءَ)
_________
(١) في الأصل: ((لأن الله لو كان ما أعطاهم خيراً لأعطانا))..
(٢) انظر: الخصائص (٢/ ٤٦٣)، (٣/ ٢٦٩)، مغني اللبيب (١/ ١٦).
أحدها: كلوا من ثمره إذا أثمر، وآتوا حقه، ولا تسرفوا في الإعطاء حتى تتركوا عائلتكم وأولادكم فقراء ليس عندهم شيء يأكلونه. والذين قالوا هذا قالوا: نزلت هذه الآية في المدينة في ثابت بن قيس بن شَمَّاس، كان عنده خمسمائة نخلة فجذَّها، وقال: لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته، فلم يزل يُطعم الناس حتى راح وليس عنده ثمر، فنزل: ﴿وَآتُواْ حَقَّهُ﴾ (١).
﴿وَلاَ تُسْرِفُواْ﴾ في الإيتاء حتى لا تتركوا لأنفسكم ولعيالكم ما يأكلون، وهذا التفسير كقوله: ﴿وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ [الإسراء: الآية ٢٩]، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾ [الفرقان: الآية ٦٧].
وقال بعض العلماء: لا تسرفوا في شيء من الأعمال؛ لأن الإسراف كله مذموم.
وقال بعض العلماء: إنه راجع إلى قوله: ﴿وكُلُواْ﴾ أي: كلوا من ثمره ولا تسرفوا في الأكل، كما قال: ﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ﴾ [الأعراف: الآية ٣١] وهذا أظهرها؛ لأن الإسراف في الأكل معروف معهود النهي عنه في الكتاب والسنة.
﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ﴾ المسرفون: جمع المُسرف، اسم فاعل الإسراف، وأصل الإسراف: مجاوزة الحَدّ. تقول: أسْرَفَ فِي الشَّيْءِ: إِذَا جَاوَزَ بِهِ حَدَّهُ، وهو مُسْرِفٌ على نفسه: إذا كان يَتَعَدَّى
_________
(١) أخرجه ابن جرير (١٢/ ١٧٤) عن ابن جريج مرسلاً. وعزاه في الدر (٣/ ٤٩) لابن أبي حاتم. والرواية التي أخرجها ابن أبي حاتم في تفسيره (٥/ ١٣٩٩) إنما هي عن معاذ لا ثابت بن قيس. والله أعلم.
ومما يُوَضِّحُ هذا أن أَعْلَمَ الخلائقِ (١): الملائكةُ والرسلُ الكرامُ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليهم)، فالملائكةُ لَمَّا قال لهم خالقُهم جل وعلا: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: آية ٣١] ماذا قال الملائكةُ؟ ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢)﴾ [البقرة: آية ٣٢] فقولُه: ﴿لاَ عِلْمَ لَنَا﴾ هي (لاَ) التي تُسَمَّى (لا) النافيةَ للجنسِ، فهي لنفيِ جنسِ العلمِ، فَنَفَوْا جنسَ العلمِ عنهم أصلاً إلا شيئًا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ إياه.
[٩/ أ] / وهؤلاءِ الرسلُ الكرامُ الذين هم صفوةُ اللَّهِ من خلقِه، وأعلمُ الخلقِ بِاللَّهِ - صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليهم - هذا سيدُهم وخاتُمهم وأفضلُهم على الإطلاقِ نبيُّنا ﷺ رُمِيَتْ زوجتُه أُمُّ المؤمنينَ عائشةُ بنتُ الصِّدِّيقِ (رضي الله عنها) في غزوةِ المريسيعِ بأعظمِ فريةٍ وأكبرِ شنيعةٍ، وهو صلى اللَّهُ عليه وسلم مع ما أَعْطَاهُ اللَّهُ من النبوةِ والعلمِ العظيمِ ما كان يَدْرِي أَحَقٌّ ما قيل عنها أم كَذِبٌ، وكان يقول لها: «كَيْفَ تِيكُمْ»؟ لا يدري عن حقيقة الأمر، ويقول لها: «يَا عَائِشَةُ إِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَتُوبِي، وَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّؤُكِ». ولم يعلم حقيقةَ الأمرِ حتى أَعْلَمَهُ الحكيمُ الخبيرُ فقال له: ﴿أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [النور: آية ٢٦] وَلَمَّا نزلَ الوحيُ ببراءتِها وقالت لها أُمُّهَا: قُومِي إلى رسولِ اللَّهِ فَاحْمَدِيهِ. قالت: لاَ وَاللَّهِ لا أحمدُه ولا أحمدُ اليومَ إلا اللَّهَ، فإن اللَّهَ هو الذي بَرَّأَنِي وهو لم يُبَرِّئْنِي (٢). وقد أُمِرَ النبيُّ ﷺ أن يقولَ: ﴿قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الأنعام:
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٩) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.
ولا تحريكة إلا بمشيئة خالق السماوات والأرض -جل وعلا- والعباد لا يخلقون أعمالهم بل ما يشاءون إلا أن يشاء الله، كما صرح الله به، والقدرية على كثرتهم وكثرة حججهم وجدالهم يأتون بشبه فلسفية يزعمون أنهم ينزهون الله بها، وهم يقعون في أعظم مما فروا منه بأضعاف، يقولون: إن الله أعظم وأنزه وأَجَلّ وأكرم من أن يريد الإضلال والقبائح والمعاصي. قالوا: فهو أَجَلُّ وأعظم وأكرم وأنْزَهُ من أن يكون الزنا بمشيئته، وأن تكون السرقة بمشيئته ونحو ذلك. فأرادوا أن ينزهوه عن أن يشاء السرقة والزنا والإضلال والقبائح، ووقعوا في الداهية الكبرى والطامة العظمى، هو أنهم جعلوا بعض خلق الله إلى غيره من خلقه، وجعلوا أن المكلف يخلق أعمال نفسه، فصارت عندهم أعمال المكلفين ليست بمشيئة الله، فسلبوه ملكه وقَدَره ومشيئته وكل شيء، قبحهم الله!
والتحقيق في هذه المسألة: أن الله (جل وعلا) سبق في علمه وسابق أزله أن بعض من يخلقهم مجبولون على الخبث، وأنه سيشاء منهم أن يشاءوا أعمال أهل النار حتى يدخلوها، وأن قومًا آخرين قوم طيبون، وأنه يشاء منهم أن يعملوا أعمال أهل الجنة فيدخلوها، ثم إن الله (جل وعلا) يصرف بقدرته ومشيئته مشيئة العبد وقدرته حتى يأتي العبد ما سبق له في كتابه من شقاوة أو سعادة يأتيه طائعًا مختارًا ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان: آية ٣٠] فلو فرضنا أن قدريًّا قال لسنّي: هذه الأعمال كتبها الله في سابق الأزل وجفت الأقلام وطُويت الصحف، أو هو شيء مُستأنف؟ فمذهب أهل السنة والجماعة -وهو الحق- هو إثبات القدر، وأن كل شيء قضاه الله وقدَّره، وأن الكائنات صائرة إلى ما شاءه الله وقدَّرَه (جل وعلا)، وأنه خلق خلقًا
الحقوقَ الواجبةَ في الأموالِ كما بَيَّنَّاهُ مِرَارًا.
﴿فَعَسَى أُولَئِكَ﴾ جماهيرُ العلماءِ يقولونَ: (عسى) من اللَّهِ واجبةٌ (١) لأن اللَّهَ كريمٌ لاَ يُطْمَعُ في شيءٍ إلا هو فاعلُه لشدةِ كَرَمِهِ (جلَّ وعلا) وفضلِه.
﴿أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ أي: السالكينَ طريقَ النجاةِ والصوابِ الْمُوصِلَةَ إلى الجنةِ، وقد جاء عن النبيِّ ﷺ من حديثِ أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) أنه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) قال: «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإِيمَانِ» (٢) لأن اللَّهَ يقولُ: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ [التوبة: آية ١٨] وقال أبو بكر بن العربي في الكلامِ على هذا الحديثِ في قولِه: «فَاشْهَدَوُا لَهُ بِالإِيمَانِ» اشْهَدُوا له شهادةً ظاهرةً؛ لأن فعلَه يدلُّ عليها، وتعاهد المساجد يدلُّ على إيمانِه ظاهرًا كما دَلَّ عليه قولُه: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ أما حقيقةُ الباطنِ فهي عندَ اللَّهِ جَلَّ وعلا. وهذا معنَى قولِه: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٢٩) من سورة الأنعام.
(٢) أخرجه أحمد (٣/ ٦٨، ٧٦)، والدارمي (١/ ٢٢٢)، والترمذي في التفسير، باب: ومن سورة التوبة، حديث رقم: (٣٠٩٣) (٥/ ٢٧٧)، وابن ماجه في المساجد والجماعات، باب لزوم المساجد وانتظار الصلاة، حديث رقم: (٨٠٢) (١/ ٢٦٣)، والبيهقي (٣/ ٦٦)، والحاكم (١/ ٢١٢، ٢/ ٣٣٢)، وابن حبان (الإحسان٣/ ١١٠). وابن أبي حاتم في التفسير (٦/ ١٧٦٦)، وانظر: ضعيف ابن ماجه ص٦٢، المشكاة (٧٢٣)، ضعيف الجامع (١/ ١٨٤).


الصفحة التالية
Icon