تُؤَكِّدُ الإسنادَ الخبريَّ في حالةِ السلبِ، كما يُؤَكَّدُ الإسنادُ الخبريُّ بـ (إن) و (اللام) في حالةِ الإثباتِ.
﴿الشَّاكِرِينَ﴾ جمعُ الشاكرِ. و (الشاكرُ): اسمُ فاعلِ الشكرِ، و (الشكرُ) أصلُه في لغةِ العربِ: الظهورُ (١). ومنه: ناقةٌ شكورٌ. يظهرُ عليها السِّمَنُ، ومنه سَمَّتِ العربُ (العُسْلُوج) الذي ينبتُ في الشجرةِ التي كانت مقطوعةً إذا ظَهَرَ فيها غصنٌ جديدٌ بعدَ أن لم يَكُنْ، قالوا: (شَكِيرٌ)؛ لأنه يظهرُ بعدَ أن لم يكن ظاهرًا. هذا أصلُه في اللغةِ.
وهو في القرآنِ (٢) يُطْلَقُ من الربِّ لعبدِه، ومن العبدِ لِرَبِّهِ، كما قال في شكرِ الربِّ لعبدِه: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: آية ١٥٨] ﴿إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر: آية ٣٤] وقال في شُكْرِ العبدِ لِرَبِّهِ هنا: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: آية ٥٣] ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ [لقمان: آية ١٤] ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء: آية ٣].
قال بعضُ العلماءِ: معنى شُكْرِ اللَّهِ لعبدِه: هو إثابتُه الثوابَ الجزيلَ من عَمَلِهِ القليلِ. ومعنى شكرِ العبدِ لِرَبِّهِ: هو أن يصرفَ العبدُ نِعَمَ رَبِّهِ فيما يُرْضِي رَبَّهُ.
فعلينا جميعًا أن نصرفَ نِعَمَ رَبِّنَا فيما يُرْضِيهِ، فهذه العيونُ التي فتحَ لنا في أَوْجُهِنَا على هذا الشكلِ الغريبِ شُكْرُهَا عندَ اللَّهِ أن لاَ ننظرَ بها في شيءٍ إلا في شيءٍ يُرْضِي مَنْ خَلَقَهَا وَمَنَّ بها (جل وعلا).
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٢) من سورة البقرة.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٢) من سورة البقرة.
حدود الله إلى ما حَرَّمَه الله (جل وعلا) (١). وهذا معنى قوله: ﴿وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ﴾.
وهذه الآية كأنّا ذكرنا عندها نوعاً من أنواع الزكاة، وهو ما تنبته الأرض، وسيأتي في سورة براءة زكاة النقود: الذهب والفضة، وما جرى مجراهما من التجارات والمعادن والحُلي المباح، وغير ذلك، وسنذكره - إن شاء الله - عند محله (٢)، وسيأتي في بعض المواضع في آيات الزكاة المطلقة ما تدخل فيه زكاة الحيوانات، وسنتكلم عليه - إن شاء الله - في موضعه. أما هذه الآية فهي خاصة بما تنبته الأرض، وقد تكلمنا على زكاة ما تنبته الأرض عند الأئمة الأربعة، ومع كل واحد منهم موافقون من فقهاء الأمصار، والله (جل وعلا) نسأل أن يوفقنا جميعاً إلى ما يرضيه.
يقول الله جل وعلا: ﴿وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ [الأنعام: الآية ١٤٢].
قوله: ﴿حَمُولَةً﴾ معطوف على ﴿جَنَّاتٍ﴾ مما قبله (٣). وتقرير المعنى: وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات، وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشًا، فهو منصوب بالعطف على منصوب؛ أي: وهو الذي أنشأ جنات معروشات، وأنشأ حمولة وفرشاً من الأنعام،
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ١٧٦)، القرطبي (٧/ ١١٠، ١١١)، المفردات (مادة: سرف) ٤٠٧.
(٢) انظر: الأضواء (٢/ ٤٣٤) فما بعدها.
(٣) انظر: القرطبي (٧/ ١١١)، البحر المحيط (٤/ ٢٣٨)، الدر المصون (٥/ ١٩٠).
آية ٥٠] وقد قيل له أن يقولَ: ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ﴾ [الأعراف: آية ١٨٨].
وهذا نَبِيُّ اللَّهِ إبراهيمُ - وَهُوَ هُوَ - قال اللَّهُ له: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ [البقرة: آية ١٢٤] ذَبَحَ عجلَه وَتَعِبَ هو وامرأتُه في إنضاجِ العجلِ يظنُّ أن الضيفَ الذين عنده يأكلونَ، ولم يعلم أنهم جبريلُ والملائكةُ معه! ﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾ [هود: آية ٧٠]، وَبَيَّنَ لهم أنه خائفٌ منهم: ﴿قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ﴾ [الحجر: آية ٥٢] ولم يعلم أنهم ملائكةٌ - رسلُ اللَّهِ - حتى أخبروه. قال لهم: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (٥٨)﴾ [الحجر: الآيتان ٥٧ - ٥٨] وَلَمَّا نزلوا بنبيِّ اللَّهِ لوطٍ - وهو هو -: ﴿سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾ [هود: آية ٧٧] يظن أنهم فتيانٌ حِسَانُ الوجوهِ، حسانُ الثيابِ، حسانُ الروائحِ، وأن قومَه يفعلونَ بهم فاحشةَ اللواطِ، حتى قال كلامَه المحزنَ: ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ [هود: آية ٨٠] ولم يعلم أنهم ملائكةٌ حتى قال له جبريلُ: ﴿يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ﴾ [هود: آية ٨١] وهؤلاء الذين كانوا يدفعونَ البابَ ليكسروه يريدونَ أن يفعلوا فاحشةَ اللواطِ بجبريلَ والملائكةِ معه لَمَّا أَذِنَ اللَّهُ لجبريلَ فيهم مَسَحَ وجوهَهم بريشةٍ من جناحِه فبقيت أعينُهم كأنها لم تكن أصلاً، كما يأتي في قولِه عنهم: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ﴾ [القمر: آية ٣٧].
وهذا نَبِيُّ اللَّهِ نوحٌ - وهو هو - (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) ما كان يظنُّ أن ابنَه كافرٌ، وكان يقولُ: ﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ﴾ [هود: آية ٤٥] أي: وقد قلتَ لي: {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ
وقال: هؤلاء للنار ولا أُبالي، وخلق للجنة خلقًا، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الخَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» (١)
والله يقول: ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ [الحج: آية ٤٧] مثلاً لو قال القدري: هذه المعاصي والذنوب التي كانت سبب كونه في النار، قال البعيد: قدرها الله عليه، وسبق في علمه أنه مرتكبها، وأنه هو لو شاء لقلب العِلْم الأوَّل السابق في ذلك جهلاً لا يمكنه ذلك فما شاءه الله وعلمه وقدره في الأزل واقع لا محالة. فيقول البعيد: هو إذن مجبور. فإن السني يقول له: جميع الأسباب التي أعطاها الله للمهتدين أعطاك مثلها، فالعيون التي أبصروا بها آياته حتى آمنوا أعطاك عينين مثلها، والقلوب التي فهموا بها عن الله آياته حتى اهتدوا أعطاك مثلها، والآذان التي سمعوا بها آيات الله واتعظوا بها حتى اهتدوا أعطاك مثلها، ولكن وقع التفاوت في شيء واحد: وهو أن الله (جل وعلا) وفق هؤلاء لما يرضيه، وصرف قدرتهم ومشيئتهم بقدرته وإرادته إلى عمل أهل الجنة، وأنت لم يوفقك لما يرضيه، وهذا التوفيق ليس واجبًا لك عليه حتى تدعي عليه أنه ظلمك!! وقد ذكرنا مرارًا (٢) أن هذا
_________
(١) أخرجه مسلم في القدر، باب حجاج آدم وموسى (عليهما السلام) حديث رقم: (٢٦٥٣)، (٤/ ٢٠٤٤). ولفظه عند مسلم: «كتب الله مقادير الخلائق... ».
وفي لفظ عند البيهقي في الأسماء والصفات: «قدر الله المقادير... » وفي لفظ: «فرغ الله (عز وجل) من المقادير وأمور الدنيا... ».
(٢) راجع ما سبق عند تفسير الآية (٣٩) من سورة الأنعام.
وقولُه: ﴿وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ﴾ لم يَخَفْ أحدًا إلا اللَّهَ. وفي هذه الآيةِ الكريمةِ وأمثالِها في القرآنِ سؤالٌ معروفٌ، وهو أن يقالَ: لاَ يوجدُ أحدٌ إلا هو يَخْشَى من غيرِ اللَّهِ، ويخافُ من غيرِ اللَّهِ؛ لأن كل المخاوف والمحاذير جُبلت طبائعُ البشرِ على الخوفِ والخشيةِ منها، والذي لم يَخْشَ شيئًا من المخاوفِ والمحاذرِ هذا أمرٌ صَعْبٌ.
والعلماءُ يُجِيبُونَ عن هذا بِجَوَابَيْنِ (١):
بعضُهم يقولُ: الخشيةُ التي هي شِرْكٌ بالله التي يحذِّر اللَّهُ منها هي خشيةُ الأصنامِ، والخوفُ من المعبوداتِ من دونِ اللَّهِ، وهذا النوعُ دَلَّتْ عليه آياتٌ كثيرةٌ؛ لأن عَبَدَةَ الأصنامِ يُخَوِّفُونَ مَنْ يَسُبُّ الأصنامَ بأن الأصنامَ ستفعلُ له وتفعلُ، كما قالوا لِنَبِيِّ اللَّهِ هودٍ: ﴿إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ﴾ الآية [هود: الآيات ٥٤ - ٥٦] وكذلك لما خوَّفوا منها نبيَّ اللَّهِ إبراهيمَ (عليه وعلى نبينا الصلاةُ والسلامُ) وقالوا له: سوف تفعلُ بكَ أصنامُنا وتفعلُ، قال لهم: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١)﴾ [الأنعام: آية ٨١] وخوَّفوا بها نَبِيَّ اللَّهِ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، كما نَصَّ اللَّهُ عليه في سورةِ الزمرِ في قولِه ﴿وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ ثم قال ردًّا عليهم: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر: آية ٣٦] وفي القراءةِ الأخرى (٢): ﴿بكاف عباده﴾ وهذا كثيرٌ في
_________
(١) انظر: القرطبي (٨/ ٩٠).
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ص٣٨٤.