وهذه اليدُ التي فَرَّقَ اللَّهُ أصابَعَها، وشدَّ رؤوسها بالأظفارِ، شُكْرُ نعمةِ مَنْ أنعمَ بها أن لاَ نَمُدَّهَا ولا نبطشَ بها إلا في شيءٍ يُرْضِي مَنْ خَلَقَهَا وَمَنَّ بِهَا. وهذه الرِّجْلُ التي جَعَلَهَا اللَّهُ للإنسانِ يمشي عليها إلى حيثُ يشاءُ، شُكْرُ نِعْمَتِهَا أن لا يمشيَ بها الإنسانُ إلا إلى شيءٍ يُرْضِي مَنْ خَلَقَهَا وَمَنَّ بها. وهكذا، فالجاهُ إذا مَنَّ اللَّهُ على إنسانٍ بجاهٍ وقبولِ كلمةٍ فشُكْرُ هذا أن لا يستغلَّ ذلك الجاهَ والنفوذَ إلا في شيءٍ يُرْضِي مَنْ خَلَقَهُ وَمَنَّ به، وكذلك الأموالُ، شُكْرُ المالِ أن لا يصرفَه العبدُ ولا يفعلَ فيه إلا شيئًا يُرْضِي خَالِقَهُ (جل وعلا) الذي مَنَّ به.
وفي (١) الحقيقةِ أن الإنسانَ يفعلُ أمورًا يعرقُ منها الجبينُ، ويخجلُ منها العاقلُ؛ لأن هذا الإنسانَ المسكينَ الضعيفَ يمنُّ عليه هذا الخالقُ الجليلُ العظيمُ بهذه النِّعَمِ، ثم يصرفُ هذه النعمَ أمامَ رَبِّهِ فيما يُسْخِطُ رَبَّهُ (جل وعلا) وَيُغْضِبُهُ، فهذا أمرٌ يعرقُ منه الجبينُ، وهو عظيمٌ جِدًّا، فعلى المسلمِ أن يستحييَ من رَبِّهِ الذي خَلَقَهُ وَأَنْعَمَ عليه، ويحترزُ من أن يصرفَ نعمةً من نِعَمِ خالقِه إلا في شيءٍ يُرْضِي خَالِقَهُ (جل وعلا)، وعلى الأقلِّ إلا في شيءٍ لا يُسْخِطُ مَنْ خَلَقَهُ (جل وعلا) وَيُغْضِبُهُ عليه.
هذا أصلُ شُكْرِ العبدِ لِرَبِّهِ كما قالَه العلماءُ. وقد قَدَّمْنَا معنى الشكرِ لغةً (٢). ومادةُ «شَكَرَ» لها حَالَتَانِ (٣): قد تَتَعَدَّى إلى النعمةِ، وَتَعَدِّيهَا إلى النعمةِ تتعدى إليها بنفسِها بلا حرفٍ بإطباقِ أهلِ اللسانِ العربيِّ، كأن تقولَ: «شكرتُ نعمةَ زيدٍ». ومنه قولُه جل وعلا:
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٦) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٢) من سورة البقرة.
(٣) انظر: بصائر ذوي التمييز (٣/ ٣٣٤)، الدر المصون (١/ ٣٥٧)، (٢/ ١٨٤).
والمعنى: هو الذي رزقكم أنواع النباتات والحبوب، وأنواع الأنعام، فما كان لكم أن تقولوا: ﴿هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ﴾ ولا أن تجعلوا لشركائه من الأنعام والزروع شيئًا. أي: وهو الذي أنشأ لكم من الأنعام حمولة وفرشًا.
التحقيق أن الأنعام: الإبل، والبقر، والغنم بأصنافها الثلاثة (١)، والحمولة: هي ما يُحمل عليه الأثْقَال، ويُسَافَرُ عليها -بها- من بلد إلى بلد (٢)، كما قال: ﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ﴾ [النحل: الآية ٧] ﴿فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ﴾ [يس: الآية ٧٢] ومن نقل عن ابن عباس أن الحمولة: الإبل، والبغال، والخيل، وكل ما يُحمل عليه من الدواب (٣)؛ فهو قول لا يصح؛ لأن الأنعام لا تطلق إلا على الإبل، والبقر، ونوعي الغنم، فلا تطلق على الخيل، ولا على البغال؛ ولذا فسَّر الله الأنعام في هذه السورة بقوله: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ [الأنعام: الآية ١٤٣] كما يأتي إيضاحه؛ أي: وهو الذي أنشأ لكم من الأنعام حمولة؛ أي: مراكب تحملون عليها أمْتِعَتِكُم، وتركبون عليها، كالإبل. قال بعض العلماء: وكالبقر في بعض البلاد، وهو صادق؛ لأنَّا شاهدنا بعض الأقطار يحملون الأحمال الثقيلة على ذكور البقر من بلاد بعيدة إلى
_________
(١) انظر: القرطبي (٧/ ١١١)، (١٠/ ٦٨).
(٢) انظر: ابن جرير (١٢/ ١٧٨) فما بعدها، القرطبي (٧/ ١١١ - ١١٢)، ابن كثير (٢/ ١٨٢).
(٣) أخرجه ابن جرير (١٢/ ١٨٠) من طريق علي بن أبي طلحة، وهو إسناد جيد، وقول ابن عباس هذا هو الذي رجحه ابن جرير (رحمه الله) في تفسيره (١٢/ ١٨١).
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [هود: آية ٤٠] ولم يَدْرِ ما حقيقةُ ولدِه حتى أَعْلَمَهُ الحكيمُ الخبيرُ فقال له: ﴿يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [هود: آية ٤٦] فما كان من نوحٍ إلا أن قال: ﴿رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [هود: آية ٤٧].
وهذا نَبِيُّ اللَّهِ يعقوبُ الذي قال اللَّهُ فيه: ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ﴾ [يوسف: آية ٦٨] ابْيَضَّتْ عيناه من الحزنِ فهو كظيمٌ، ولم يَدْرِ عن ولده يوسفَ في مصرَ، ما بينَه وبينَه إلا مراحلُ قليلةٌ حتى جاءه البشيرُ بِخَبَرِهِ.
وهذا سليمانُ أعطاه اللَّهُ الريحَ غُدُوُّهَا شهرٌ وَرَوَاحُهَا شهرٌ، وَسَخَّرَ له الجنَّ والطيرَ، ما كان يدري عن ملكةِ سبأٍ، ولا عن مَأْرِبٍ، ولا ما جَرَى فيها حتى أخبرَه الهدهدُ المسكينُ الضعيفُ.
وكان سليمانُ (عليه السلام) متوعدًا للهدهدِ لأنه خرجَ بلاَ إِذْنٍ ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (٢١)﴾ [النمل: الآيتان ٢٠ - ٢١] فَلَمَّا علم الهدهدُ من قضيةِ اليمنِ بعضَ علمِ التأريخِ وَعِلْمِ الجغرافيا - من ملكةِ سبأٍ وقومِها - وكان سليمانُ يجهلُه أعطاه هذا العلمُ قوةً وصمودًا أمامَ سليمانَ، ووقفَ أمامَ النبوةِ وَالْمُلْكِ وقفةَ الرجلِ الصامدِ، ونسبَ الإحاطةَ لنفسِه ونفاها عن سليمانَ، وقال: إني: ﴿أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ [النمل: آية ٢٢] وهكذا.
أما اللَّهُ (جل وعلا) فهو المحيطُ علمُه بكلِّ شيءٍ، ولكنه يُطْلِعُ
أَوْضَحَتْهُ مناظرة أبي إسحاق الإسفراييني مع عبد الجبار - من كبار المعتزلة القدريين القائلين بهذا المذهب - وأن عبد الجبار جاء يتقرب بهذا المذهب فقال عند أبي إسحاق: سبحان من تَنَزَّه عن الفحشاء! يعني أنه تَنَزَّهَ عن أن تكون السرقة والزنا ونحوها بمشيئته.
فقال أبو إسحاق: كلمة حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطل. ثم قال أبو إسحاق: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء!
فقال عبد الجبار: أتراه يشاؤه ويعاقبني عليه؟
فقال أبو إسحاق: أتراك تفعله جبرًا عليه؟ أأنت الرب وهو العبد؟
فقال عبد الجبار: أرأيت إن دعاني لِلْهُدَى وقَضَى عَلَيَّ بِالرَّدَى، دَعَاني وَسَدَّ الباب دوني أتراه أحْسَنَ إِلَيَّ أَمْ أسَاءَ؟
قال أبو إسحاق: أرى هذا الذي منعكه إن كان حقًّا واجبًا لك عليه فقد ظَلَمَك وقد أساء، وإن كان ملكه المحض فإن أعطاك ففضل، وإن منعك فعدل. فبُهِتَ عبد الجبار، وقال الحاضرون: والله ما لهذا جواب!! ولذا قال تعالى: ﴿قُلْ فَللهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩)﴾ [الأنعام: آية ١٤٩] مَنُّهُ بالتوفيق على قوم وعدم مَنِّهِ بالتوفيق على آخرين حجته البالغة.
وذكروا أن عَمْرَو بن عبيد -كبير المعتزلة، المشهور بالعبادة والنسك، وهو من كبار أهل هذا المذهب الخبيث- جاءه بدوي أعْرَابي يقول له: إنَّ دَابَّتَهُ سُرِقَتْ. يريد أن يدعو الله ليردها عليه، فأراد عمرو بن عبيد التقرب بهذا المذهب الخبيث فقال: اللهُمَّ إِنَّهَا سُرِقَتْ وَلَمْ ترد سرقتها فارْدُدْهَا عليه. فقال له الأعرابي البَدَوِيّ
القرآنِ، فهذه الخشيةُ التي يخافُ صاحبُها من عاقبةِ الأصنامِ هذا كفرٌ بِاللَّهِ وشركٌ به.
وقال بعضُ العلماءِ: هي الخشيةُ الدنيويةُ من الناسِ إذا كانت تحملُ الإنسانَ على أن يعصيَ اللَّهَ، كالذي يَخْشَى من الكفارِ وَيَجْبُنُ عن الجهادِ في سبيلِ اللَّهِ، كما تقدَّم في قولِه: ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُم مُّؤُمِنِينَ﴾ [التوبة: آية ١٣] أما ما يعرض للإنسانِ من الخوفِ من الأشياءِ والمحاذيرِ بِجِبِلَّتِهِ فهذا أمرٌ لا مؤاخذةَ به؛ لأن اللَّهَ لاَ يكلفُ نفسًا إلا وسعَها كما هو معلومٌ، وهذا معنى قولِه: ﴿وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ [التوبة: آية ١٨].
﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩)﴾ [التوبة: آية ١٩].
قال بعضُ العلماءِ: نزلت هذه الآيةُ الكريمةُ في العباسِ بنِ عبدِ المطلبِ، ذلك أنه لَمَّا أُسِرَ يومَ بدرٍ كان علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) يلومُه ويشددُ عليه في قتالِه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابةُ يُعَيِّرُونَهُ وأصحابَه بالشركِ بالله، فقال لهم: تذكرونَ مساوئَنا ولاَ تذكرونَ محاسنَنا!! فقال له عَلِيٌّ: أَلَكُمْ مَحَاسِنُ؟ قال: نعم، نحن نُعَمِّرُ بيتَ اللَّهِ الحرامَ، ونسقي الحاجَّ، ونفكَّ العانيَ، ونفعل ونفعل (١).
_________
(١) أخرج نحوه ابن جرير (١٤/ ١٧٠)، وابن أبي حاتم (٦/ ١٧٦٨) وإسناده صحيح، والواحدي في أسباب النزول ص (٢٤٤)، وأورده السيوطي في الدر (٣/ ٢١٨) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما). كما أورده عنه مختصرًا وعزاه لابن مردويه.
وقد جاء في هذا المعنى جملة من الآثار منها:
١ - الشعبي: أخرجه ابن جرير (١٤/ ١٧١)، وابن أبي حاتم (٦/ ١٧٦٨)، وأورده السيوطي في الدر (٣/ ٢١٨) وعزاه لابن مردويه وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
٢ - عبد الله بن عبيدة: أورده السيوطي في الدر (٣/ ٢١٨) وعزاه لابن أبي شيبة وابن مردويه وأبي الشيخ.
٣ - ابن سيرين: أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص ٢٤٤، وعزاه في الدر (٣/ ٢١٨) للفريابي.
٤ - الضحاك: أخرجه ابن جرير (١٤/ ١٧٢).