﴿أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ﴾ [النمل: آية ١٩] أما إذا أوقعتَ الشكرَ على نفسِ الْمُنْعِمِ، كأن يُنْعِمَ عليك إنسانٌ فتقول له: «أنا أشكرُ لكَ». فاللغةُ العربيةُ الفصحى هي تَعْدِيَتُهُ باللامِ، ولا تكادُ العربُ تُعَدِّيهِ بنفسِه، تقولُ: «شكرتُ لكَ، وشكرَ اللَّهُ لكَ». ولا تقول: «شَكَرْتُكَ». وتقول: «أَحْمَدُ اللَّهَ وأشكرُ له». ولا تقولُ: «أشكرُه». فاللغةُ الفصحى هي تعديةُ (شَكَرَ) إلى المنعمِ باللامِ لا بالفعلِ بنفسِه. [هذه] (١) هي لغةُ القرآنِ، وهي اللغةُ الفصحى بإطباقِ أهلِ اللسانِ العربيِّ، ولم يأتِ في القرآنِ مادةُ (الشكر) مُعَدًّاة إلى المنعمِ إلا باللامِ، نحو قولِه: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي﴾ ولم يقل: «أَنِ اشْكُرْنِي» ﴿وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ [لقمان: آية ١٤] ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: آية ١٥٢] ولم يَقُلْ: «واشكروني» فَيُعَدِّيهَا للمفعولِ.
وَظَنَّ قومٌ أن تعديةَ (شكر) إلى المنعمِ بالفعلِ نفسِه لاَ بالحرفِ أنها لحنٌ، وقالوا: (أشكره) لحنٌ، و (شكرتُك) لحنٌ. والتحقيقُ: أنه ليس بلحنٍ، وأنه لغةٌ مسموعةٌ في كلامِ العربِ، إلا أن تعديتَه باللامِ أجودُ. ومن إطلاقِ مادةِ (الشكرِ) متعديةً إلى المنعمِ بنفسِها لا باللامِ قولُ أَبِي نُخَيْلَةَ (٢):
شَكَرْتُكَ إِنَّ الشُّكْرَ حَبْلٌ مِنَ التُّقَى وَمَا كُلُّ مَنْ أَوْلَيْتَهُ نِعْمَةً يَقْضِي
فإن هذا الشاعرَ العربيَّ قال: «شكرتُك». ومن هذا المعنَى قولُ جميلِ بنِ معمرٍ الشاعرِ المشهورِ، قال (٣):
_________
(١) في الأصل: هذا.
(٢) البيت في عيون الأخبار (٣/ ١٦٥)، اللسان (مادة: شكر) (٢/ ٣٤٤).
(٣) ديوان جميل بن معمر ص١٠٢.
بلاد بعيدة، وقد يكون عندهم ذكور البقر يحمل الواحد منهم فوق ما يحمله البعير (١)، ويسافرون عليها من بلاد إلى بلاد، وإن كان بعض علماء المالكية أفتى بأن البقر لا يجوز ركوبه، ولا الحمل عليه، ظنًّا منه أن ركوبه والحَمْلَ عليه من تَكْلِيفِهِ ما لا يطيقه (٢)، ونحن شاهدنا ذي الأيام في بعض الأقطار ذكور البقر تكون معروضة تحمل الأثقال العظيمة من بلاد إلى بلاد رَأْيَ العين، وبذلك نعلم أنها داخلة في قوله: ﴿حَمُولَةً﴾ أي: ما يحملون عليه أثقالهم كالإبل، وربما دخل البقر في بعض الأقطار.
وقوله: ﴿وَفَرْشاً﴾ الفرش هنا فيه أقوال متقاربة للعلماء (٣): حكى الفراء إجماع أهل اللغة على أن الفرش صغار الإبل، وهي الفصلان (٤). وقال بعض العلماء: الفرش: الغنم.
والتحقيق: أن الآية تشمل كل ذلك، وأن الأنعام منها ركوبة كالإبل، ومنها فرش، وهو ما يؤكل، ويُشرب مِنْ لَبَنِهِ، مع أنه ليس صالحًا لِلرّكُوبِ، فيدخل في الفرش: الغنم، وفِصال الإبل، وعَجَاجِيل البقر؛ لأن ولد البقرة يُقال له: عِجل. ويُجمع على:
_________
(١) انظر: الحيوان للجاحظ (٧/ ١٩٥).
(٢) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (٣/ ١١٤٣)، القرطبي (١٠/ ٧٢، ٧٧)، إكمال إكمال المعلم للأُبي (٦/ ١٩٧).
(٣) انظر: ابن جرير (١٢/ ١٧٨) فما بعدها، القرطبي (٧/ ١١٢)، ابن كثير (٢/ ١٨٢).
(٤) لم يرد ذكر لهذا الإجماع عند تفسير الفراء لهذه الآية في كتابه: (معاني القرآن ١/ ٣٥٩) وإنما الذي نقل الإجماع في ذلك هو الزجاج في معاني القرآن (٢/ ٢٩٨) فلعل الشيخ عناه لكن سبق لسانه إلى الفراء.
رسلَه على ما شاءَ من غَيْبِهِ، وقد أَطْلَعَ نَبِيَّنَا صلى اللَّهُ عليه وسلم على أمورٍ من الغيبِ لاَ يعلمُ كثرتَها إلا اللَّهُ، فما تُوُفِّيَ ﷺ حتى لم يكن طائرٌ يُحَرِّكُ جناحه إلا أعطى لأصحابِه عنه عِلْمًا، وَبَيَّنَ لأصحابِه جميعَ الفتنِ، وجميعَ ما يقعُ في آخِرِ الزمانِ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ من الغيوبِ - ولكنهم نَسُوهُ - ولكنه لا يَعْلَمُ من ذلك إلا ما عَلَّمَهُ اللَّهُ، كما قال جل وعلا: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ﴾ الآيةَ [الجن: الآيتان ٢٦، ٢٧] أما اللَّهُ (جل وعلا) فَعِلْمُهُ محيطٌ بكلِّ شيءٍ، يعلمُ ما كان، ويعلمُ ما لم يكن، وما سيكونُ كيف يكونُ ويعلمُ ما سبقَ في علمِه أنه لا يكونُ، يعلمُ أن لو كان كيف يكونُ، فهو يعلمُ أن أبا لهبٍ لَنْ يؤمنَ، ويعلمُ لو آمَنَ أبو لهبٍ أيكونُ إيمانُه تَامًّا أو ناقصًا. والآياتُ الشاهدةُ بهذا في القرآنِ كثيرةٌ، فإن الكفارَ يومَ القيامةِ إذا عَايَنُوا العذابَ وَرَأَوْا حقيقةَ الآخرةِ نَدِمُوا وَتَمَنَّوْا أن يُرَدُّوا إلى الدنيا مرةً أخرى لِيُصَدِّقُوا الرسلَ ويؤمنوا: ﴿فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنعام: آية ٢٧] وفي القراءةِ الأُخْرَى (١):
﴿وَلاَ نُكذِّبُ بآيات ربنا ونَكُونُ من المؤمنين﴾ وَاللَّهُ يعلمُ أن هذا الردَّ الذي تَمَنَّوْهُ لا يكونُ، ومع ذلك فهو عَالِمٌ أَنْ لو كانَ كيفَ يكونُ؛ وَلِذَا قال: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام: آية ٢٨] والمتخلفونَ عن غزوةِ تبوكَ عَلِمَ اللَّهُ في سَابِقِ أَزَلِهِ أنهم لن يحضروها أبدًا؛ لأنه هو الذي ثَبَّطَهُمْ عنها لحكمةٍ، كما قال: ﴿وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ [التوبة: آية ٤٦] وخروجُهم الذي سَبَقَ في علمِه أنه لا يكونُ هو عالمٌ أن لو كانَ كيفَ يكونُ، كما صَرَّحَ به في قولِه: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٠٦) من سورة الأنعام..
الجاهل: ناشدتك اللهَ يَا هَذا إلا ما كففت عني من دُعَائِكَ الخبيث، إن كانت قد سُرقت ولم يُرد سرقتها فقد يريد ردها ولا تُرد (١)، فالذي يُفعل الشيء دونه ولا بمشيئته فأنا لست على ثقة منه أن بيده شيئًا.
فالحاصل أنهم وقعوا في شَرٍّ مما فَرّوا منه. والدليل القاطع الذي لا يترك لهم شبهة هو دليل العلم، وإيضاح ذلك أنك تقول للمعْتَزلي القدري إذا ناظرته: هل أنت مقر بأن الله (جل وعلا) يعلم ما يكون قبل أن يكون؟ فلا بد أن يقول: نعم؛ لأن كل من يقر بالإسلام يقر بهذا. فتقول له: إذن هذا العمل الذي زعمت أن العبد يخلقه بقدرته وإرادته من غير مشيئة لله آلله عالم أنه يقع من هذا العبد؟ فيقول: نعم. فقل له: لو شاء العبد أن يعمل ذلك العمل ويستقل به مخالفًا لما سبق به علم الله الأزلي [فهل يمكنه ذلك؟] (٢) فقولك إنه مستقل به يقتضي أنه يمكنه أن يعمل عملاً مستقلاً غير ما سبق به العلم، فينقلب علم الله جهلاً -سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون الفجرة علوًّا كبيرًا- فإذن لا بُدَّ أن يكون العمل مطابقًا لما سبق به علم خالق السماوات والأرض في أزَلِهِ.
فالحاصل أن الله (تبارك وتعالى) خلق للنار خلقًا علم أنهم من أهل النار وأنها أولى بهم، وخلق للجنة خلقًا علم في أزَلِهِ بأنَّهُمْ أهْل لها، ثم إن الله (تبارك وتعالى) يُيَسِّر كُلاً من الفريقين لما خلقه له، فيعمل هؤلاء بعمل أهل الجنة حتى يدخلوها، وهؤلاء بعمل أهل النار حتى يدخلوها، وقد جاءت أحاديث صحيحة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم
_________
(١) السابق.
(٢) ما بين المعقوين [] زيادة يقتضيها السياق.
وقال بعضُ العلماءِ: نزلت في عثمانَ بنِ طلحةَ، أو شيبةَ بنِ طلحةَ، وَعَلِيِّ بنِ أبي طالبٍ، والعباسِ بنِ عبدِ المطلبِ. قال العباسُ: أنا صاحبُ السقايةِ. وقال صاحبُ بَنِي عبدِ الدارِ: أنا سادنُ البيتِ، عندي مفتاحُ الكعبةِ، لو أشاءُ لَبِتُّ فيها. وقال عَلِيُّ بنُ أبِي طالبٍ: صليتُ إلى القبلةِ قبلَ أن يصليَ الناسُ إليها، وذكرَ الجهادَ ونحوَ ذلك، فأنزل اللَّهُ: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ﴾ (١).
_________
(١) أخرجه ابن جرير (١٤/ ١٧١)، والواحدي في أسباب النزول ص ٢٤٤ عن محمد بن كعب القرظي مرسلاً. وقد جاء بمعناه عدة آثار منها:
١ - عن الحسن البصري: أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص ٢٤٤، وعزاه في الدر (٣/ ٢١٩) لعبد الرزاق.
٢ - أنس بن مالك (رضي الله عنه): أورده السيوطي في الدر (٣/ ٢١٩) وعزاه لأبي نعيم في فضائل الصحابة، وابن عساكر.
٣ - السدي: أخرجه ابن جرير (١٤/ ١٧٢).
٤ - الشعبي: أخرجه ابن أبي حاتم (٦/ ١٧٦٧).


الصفحة التالية
Icon