خَلِيْلَيَّ عُوْجَا الْيَوْمَ حَتَّى تُسَلِّمَا عَلَى عَذْبَةِ الأَنْيَابِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ
فَإِنَّكُمَا إِنْ عُجْتُمَا لِي سَاعَةً شَكَرْتُكُمَا حَتَّى أُغَيَّبَ فِي قَبْرِي
فقولُه: «شكرتُكما» لم يقل: «شكرتُ لَكُمَا» على هذه اللغةِ القليلةِ. وهذا معنى قولِه: ﴿لِّيَقُولوا أَهَؤُلاَءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾.
﴿وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [الأنعام: آية ٥٤].
﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ في هذين الْحَرْفَيْنِ (١) ثلاثُ قراءاتٍ سبعيات (٢): قرأه ابنُ عامرٍ وعاصمٌ: ﴿أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ بفتحِ همزةِ الْحَرْفَيْنِ، وَوَافَقَهُمَا نافعٌ في فتحِ الحرفِ الأولِ، وَخَالَفَهُمَا فَكَسَرَ الثانيَ، وباقي السبعةِ يكسرُها في الحرفين ﴿كتب ربكم على نفسه الرحمة إِنَّهُ من عمل منكم﴾ ثم يقرؤون: ﴿فَإِنَّهُ غفور رحيم﴾ وَهُمْ: ابنُ كثيرٍ،
_________
(١) المراد بالحرفين: الهمزة في قوله ﴿أَنَّهُ مَن عَمِلَ﴾ والهمزة كذلك في قوله ﴿فَأَنَّهُ غَفُورٌ﴾.
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ص١٩٤ - ١٩٥.
عجاجيل، على غير قياس (١)، فالغنم، وفِصَال الإبل، وعجاجيل البقر كلها يدخل في الفرش.
قيل: وإنما سُميت هذه الصغار: (فرشاً) لقربها من الفراش والمهاد الذي هو التراب؛ لأنها صغيرة قصار قريبة من الأرض. هكذا قالوا، والله أعلم (٢).
وعلى كل حال فجميع الأقوال راجعة إلى أن الله أنشأ الأنعام، وجعل فيها منَّة الركوب والأكل.
أما قول من قال: (فرشاً) فإنه لا يتناول إلا ما يُصنع منه الفِرَاش، كالضأن الذي يُصنع من صوفها الفراش، والمعز الذي يصنع من بعض شعرها الفراش ونحو ذلك، وأن الفرش هو ما يستمده الخلق من جلود الأنعام، وأصوافها، وأشعارها، وأوبارها (٣) - كما يأتي في سورة النحل - فهذا قول غير متجه؛ لأن المنة تكون بمجرد الأصواف، والأوبار، والأشعار، والجلود، لا بنفس الأنعام، والمعروف في القرآن - وإنْ ذَكَر المِنَّة بالأصواف، والأوبار، والأشعار، والجلود في قوله: ﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا﴾ [النحل: الآية ٨٠] وفي قوله: ﴿وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ﴾ الآية [النحل: الآية ٨٠] إلا أن المراد هنا: - الامتنان بها جميعًا، وأعظم أنواعه: الأكل منها، وهذا المعروف في القرآن، كقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة البقرة.
(٢) انظر: القرطبي (٧/ ١١٢).
(٣) انظر: القرطبي (٧/ ١١٢)، البحر المحيط (٤/ ٢٣٩)، الدر المصون (٥/ ١٩١).
زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: آية ٤٧] وهذا في القرآنِ كثيرٌ (١)، كقولِه: ﴿وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥)﴾ [المؤمنون: آية ٧٥] فعلمه تعالى محيط بكل شيء، فإذا كان هذا العلم المحيط بكل شيء علم الله (جل وعلا) وهو الذي فصل هذا الكتاب بهذا العلم المحيط علمنا أنه ضمنه استجلاب كل خير، والتحذير من كل شر، ورتب فيه جميع المصالح ودرأ جميع المفاسد، ودعا فيه إلى جميع مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، ورفع الهمم وكل شيء صالح للدنيا والآخرة في شؤونِ الفردِ وشؤونِ المجتمعِ كما يعرفُه مَنْ تَأَمَّلَ آياتِ القرآنِ وَتَدَبَّرَهَا. وهذا معنَى قولِه: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [الأعراف: آية ٥٢].
﴿هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: آية ٥٢] في قولِه: ﴿هُدًى وَرَحْمَةً﴾ وجهانِ من الإعراب (٢):
أحدهما: أنهما مَصْدَرَانِ مُنَكَّرانِ حالانِ. والمصدرُ المُنَكَّرُ يقعُ حالاً بكثرةٍ. جئناهم بكتابٍ في حالِ كونِه هاديًا وَذَا رَحْمَةٍ.
وقال بعضُ العلماءِ: هما مفعولانِ من أَجْلِهِ. والمعنَى: جئناهم بكتابٍ فصلناه لأَجْلِ هُدَى الناسِ؛ ولأَجْلِ أن نرحمَ بِاتِّبَاعِهِ الناسَ. وكلا الإِعْرَابَيْنِ له وجهٌ من النظرِ.
ومعنَى ﴿هُدًى﴾ هذا القرآنُ فَصَّلْنَاهُ حالَ كونِه هاديًا، أو لأَجْلِ كونِه هُدًى يهدي الناسَ إلى ما فيه صلاحُهم من خيرِ الدنيا والآخرةِ،
_________
(١) انظر: الأضواء (٢/ ٣٠٣).
(٢) انظر: البحر المحيط (٤/ ٣٠٦)، الدر المصون (٥/ ٣٣٦).
بمثل هذا، منها حديث عمران بن حصين المتفق عليه المشهور أنهم لما سألوا النبي ﷺ وأخبرهم أن الأمر قُضي وفُرغ منه قالوا له: ففيم العمل؟ أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال لهم صلى الله عليه وسلم: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» (١) فالله (جل وعلا) لا يقع في ملكه شيء إلا بمشيئته، يَصْرف قُدر قَوْمٍ وإراداتهم إلى ما هو أليق بهم، ويَصْرف قُدر قوم وإراداتهم إلى ما هو أليق بهم فيعمل هؤلاء بعمل أهل الجنة، وهؤلاء بعمل أهل النار، وإنما كان ذلك من حكمته (جل وعلا) لتظهر بذلك أسرار أسمائه وصفاته في خلقه؛ لأنه لو لم يصرف قدرة قوم ومشيئتهم إلى ما لا يرضيه حتى يعذبهم لم يظهر بطشه وقوته وشدة نكاله التي تستوجب الخوف منه، فخلق قومًا فَصَرَفَ قُدرهم وإراداتهم لما يستوجبون به النار ليظهر بذلك سر أسمائه وصفاته، من جبروته وقوَّتِهِ وبطشه وشدة عذابه ليخافه خلقه، وصَرَفَ قُدَرَ قوم وإراداتهم إلى ما يستوجبون به جنته ليظهر بذلك أسرار بعض أسمائه وصفاته من رحمته ولطفه وعدله (جل وعلا) وغير ذلك؛ ولذا قال: ﴿مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٧٨)﴾ [الأعراف: آية ١٧٨] من أضله الله فقد ضل (والعياذ بالله)، وكل الناس ضال إلا مَنْ هَدَاهُ الله، ولا مهتد إلا مَنْ هَدَاه الله.
وقد قدمنا في هذه الدروس مرارًا (٢) أن لفظ الضلال يطلق في القرآن العظيم وفي اللغة العربية إطلاقات مشهورة معروفة، من أشهرها ثلاثة إطلاقات معروفة في القرآن وفي كلام العرب:
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٣٩) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٣٩) من سورة الأنعام.
وأكثرُ المفسرين أن سببَ نزولِها هو افتخارُ الكفارِ بسقايتِهم الحاجَّ، وعمارتِهم المسجدَ الحرامَ، وَجَعْلِهِمْ ذلك مثلَ إيمانِ المؤمنين، وأن لهم من الأَجْرِ مثلَ ما للمؤمنين، فَأَنْكَرَ اللَّهُ عليهم.
وقد جاء في سببِ نزولِ هذه الآيةِ الكريمةِ حديثٌ مُشْكِلٌ، لأنه خرَّج جماعةٌ عن النعمانِ بنِ بشيرٍ (رضي الله عنه)، ومن جملةِ مَنْ خَرَّجَ حديثَه مسلمُ بنُ الحجاجِ (رحمه الله) في صحيحِه، أن سببَ نزولِها أن النبيَّ ﷺ كان يومَ جمعةٍ وعندَ منبرِ النبيِّ ﷺ رِجَالٌ، فقال واحدٌ منهم: لا أُبَالِي أن أفعلَ شيئًا بعدَ الإسلامِ إلاَّ أن أسقيَ الحاجَّ. وقال الثاني: لا أبالي أن أفعلَ شيئًا بعد الإسلامِ إلا أن أُعَمِّرَ المسجدَ الحرامَ. وقال الثالثُ: الجهادُ في سبيلِ اللَّهِ أفضلُ من هذا كلِّه. فزجرهما عمرُ بنُ الخطابِ (رضي الله عنه) وقال: لا تَرْفَعُوا أصواتَكم عندَ منبرِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وكان هذا يومَ جمعةٍ. فإذا صلى الجمعةَ استفتيتُ رسولَ الله فيم اختلفتُم فيه. وأنه استفتى النبيَّ ﷺ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ سببُ نزولِ هذه الآيةِ على هذا السياقِ أَخْرَجَهُ مسلمٌ في صحيحِه وجماعةٌ (١)، وهو مُشْكِلٌ جِدًّا؛ لأنا لو فَرَضْنَا أن نزولَها في المؤمنين لاَ يناسبُ قولَه في آخِرِهَا: ﴿وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [التوبة: آية ١٩] فَدَلَّ على أن الصحيح أنها في الكفارِ، وهذا الحديثُ أصلُه فيه إشكالٌ معروفٌ في سببِ نزولِ هذه الآيةِ الكريمةِ، وقد أَوْرَدَ أبو عبدِ اللَّهِ القرطبيُّ (رحمه الله) في تفسيرِ هذه الآيةِ إزالة هذا الإشكال (٢)،
_________
(١) مسلم في الإمارة، باب: فضل الجهاد والخروج في سبيل الله. حديث رقم: (١٨٧٩) (٣/ ١٤٩٩).
(٢) تفسير القرطبي (٨/ ٩٢)..


الصفحة التالية
Icon