وأبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ، هذه هي قراءةُ السبعةِ في هذين الحرفين.
ومعنى الآيةِ الكريمةِ: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ جمهورُ المفسرين (١) على أن المرادَ بـ ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا﴾ هُمُ الفقراءُ، فقراءُ المؤمنين الذين طَلَبَ الكفارُ طَرْدَهُمْ وإبعادَهم وقتَ مُجَالَسَتِهِمْ للنبيِّ - ﷺ -، فجمعَ اللَّهُ لهم بين ثلاثةِ أشياء تدلُّ على عِظَمِ مكانتِهم، وعِظَمِ منزلتِهم عِنْدَ اللَّهِ (جل وعلا)، وَإِنِ احْتَقَرَهُمُ الكفرةُ الفجرةُ:
الأولُ: هو نَهْيُهُ - ﷺ - عن أن يَطْرُدَهُمْ.
وشهادةُ اللَّهِ لهم بالإخلاصِ والعبادةِ حيث قال: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾.
وَنَهَى النبيُّ عن طردِهم: ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ ثم في سورةِ الكهفِ أَمَرَهُ بالصبرِ معهم، وأن لا يقومَ حتى يقوموا ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ ونهاه أن يطيعَ الكفرةَ فيهم ﴿وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: آية ٢٨] ثُمَّ هنا أَمَرَهُ إذا جاؤوا أن يَتَلَقَّاهُمْ، ويُسلِّمَ عليهم، وَيُخْبِرَهُمْ
_________
(١) انظر: ابن جرير (١١/ ٣٧٦ - ٣٨٠) (ولم يرجح هذا القول). وابن عطية (٦/ ٥٩) (وعزاه للجمهور) والقرطبي (٦/ ٤٣٥)، البحر المحيط (٤/ ١٣٩) والشوكاني (٢/ ١٢٤).
أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (٧٢)} [يس: الآيتان ٧١، ٧٢] ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ [النحل: الآية ٥] ﴿اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ [غافر: الآية ٧٩] إلى غير ذلك من الآيات، فتبيّن أن المنة في الركوب، وغيره من الأكل، وغير ذلك من النعم، يعني: هذا الذي أنشأ لكم الأنعام -حمولتها وفرشها- هو الله جل وعلا.
ثم قال: ﴿وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ﴾ أي: هذا الذي خلقته لكم، وهي: الأنعام، والفرش، كلوا من الذي رزقكم الله من الأنعام، والفرش، والزروع، المعطوف عليها في قوله: ﴿أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ﴾ [الأنعام: الآية ١٤١] فهذا رزق الله كلوا منه، ولا تُحرِّموا منه شيئاً على أنفسكم افتراء على الله، ولا تجعلوا منه شيئًا للأوثان، كما قال: ﴿وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ يعني: كلوا من رزقي ونعمتي، ولا تتبعوا في نعمتي ورزقي تشاريع الشيطان وقوانينه، بأن تُحلّوا هذه وتُحرموا هذه، فتُحرموا البَحِيرة والسائبة، والوصيلة، والحام، وتقولوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، وتقولوا: هذه أنعام وحرث حجر، كل هذا اتباع خطوات الشيطان.
والآية نص صريح في أن مَنْ مشى على تشريع جَعَلَه الشيطان، يُحل فيه ما لا يُحله الله، ويحرم فيه ما لا يحرمه الله، أنه اتبع خطوات الشيطان.
فَيُبَيِّنُ لهم الخيرَ في الدنيا والآخرةِ، ويأمرُهم بِاتِّبَاعِهِ، وَيُبَيِّنُ لهم الشرَّ في الدنيا والآخرةِ، ويأمرُهم باجتنابِه.
﴿وَرَحْمَةً﴾ يعنِي: وَمَنْ سَلَكَهُ وَاتَّبَعَهُ يرحمه اللَّهُ (جل وعلا) ويصلحُ له دينَه ودنياه.
وقولُه: ﴿لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ خَصَّ القومَ المؤمنيِن لأنهم هم المنتفعونَ به كما بَيَّنَّا الآياتِ الدالةَ عليه (١) في قولِه: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ وقولِه: ﴿هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ [فصلت: آية ٤٤] وقولُه: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء: آية ٨٢].
ثم لَمَّا بَيَّنَ أن هذا القرآنَ العظيمَ هو الذي أَنْزَلَهُ، وهو الذي فَصَّلَهُ وَبَيَّنَ حلالَه وحرامَه وعقائدَه ومواعظَه وأمثالَه وآدابَه ومكارمَه، وأنه بَيَّنَ هذا بعلمِه المحيطِ بكلِّ شيءٍ، هَدَّدَ الكفارَ الذين لم يَعْمَلُوا به فقال: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ﴾ [الأعراف: آية ٥٣] التأويلُ: يُطْلَقُ ثلاثةَ إِطْلاَقَاتٍ (٢): أما التأويلُ في لغةِ القرآنِ فهو ما يَؤُولُ إليه الأمرُ وتصيرُ إليه الحقيقةُ في ثانِي حالٍ. وعلى هذا فتأويلُ القرآنِ هو ما يَؤُولُ إليه أَمْرُهُ في ثانِي حقيقةٍ، وتقعُ عليه الحقيقةُ، وهو صِدْقُ ما وَعَدَ به بأن يُدْخِلَ مَنْ آمَنَ به الجنةَ وَيُخَلَّدَ في نعيمها، وَيُدْخِلَ مَنْ كَفَرَ به النارَ ويخلد في جحيمها، فهذا تَأْوِيلُهُ، أي: ما تُؤَوَّلُ إليه حقيقةُ ما كان يَعِدُ به وينطقُ به في دارِ الدنيا. وهذا هو التأويلُ في لغةِ القرآنِ.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة الأنعام.
(٢) انظر: أضواء البيان (١/ ٢٦٦، ٢٦٧)، المذكرة في أصول الفقه ص١٧٦، قواعد التفسير (٢/ ٦٨٣).
منها: إطلاق الضلال على الضلال عن طريق الهدى إلى طريق الزيغ، وعن طريق الجنة إلى طريق النار، كما في هذه الآية ﴿وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ ومنه قوله تعالى: ﴿غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: آية ٧] وقوله: ﴿قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ﴾ [المائدة: آية ٧٧] وهذا أغلب استعمال الضلال والعياذ بالله.
الاستعمال الثاني: هو إطلاق الضلال على الغَيْبَةِ والاضمحلال، تقول العرب: «ضل هذا الشيء». إذا غاب واضْمَحَلَّ ولم يبق له وجود. تقول العرب: «ضَلَّ السمن في الطَّعَام» إذا غاب فيه واضْمَحل ولم يبق له أثر. وهذا معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الأخطل (١):
كُنْتَ القَذَى في مَوْجٍ أَكْدَرَ مُزْبِد | قَذفَ الأَتِيُّ به فَضَلَّ ضَلاَلاً |
أَلَمْ تسألْ فتخبركَ الديارُ | عن الحي المُضَلَّلِ أينَ سَارُوا |
_________
(١) السابق.
(٢) السابق.
وكلامُه فيه أجودُ ما وقفتُ عليه في إزالةِ إشكالِه، قال: إنهم لَمَّا اختلفوا وَذَكَرَ واحدٌ منهم عمارةَ المسجدِ، وَذَكَرَ الثاني سقايةَ الحجِّ، وَذَكَرَ الثالثُ الجهادَ، وسأل عمرُ بنُ الخطابِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، أن النبيَّ إنما قرأَ الآيةَ- وَكَانَتْ نازلةً قَبْلُ- مستدلاً بها لحكم ما اختلفوا فيه، وهي قولُه: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ﴾ فظنَّ الراوي أن قراءةَ النبيِّ لها أن ذلك وقتُ نزولها، وذلك ليس بوقتِ نزولِها، فهي نازلةٌ قبلُ ولكنه ذَكَرَهَا استشهادًا واستدلالاً لِمَا اختلفوا فيه. وهذا هو الأظهرُ، والله تعالى أعلم.
وقولُه: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ﴾ الظاهرُ أن (جَعَلَ) هنا هي التي بمعنَى اعْتَقَدَ، وأنه أَنْكَرَ عليهم اعتقادَهم تساوي هذين الأمرين وهما بعيدٌ من المساواة، بينهما بَوْنٌ عظيمٌ، وبونٌ شاسعٌ.
وكان بعضُهم يقولُ: لاَ يبعدُ أن تكونَ هي التي بمعنَى (صيَّر) أي: صيرتُم هذا كهذا وادعيتُم أنه مثلُه.
وقد ذَكَرْنَا في هذه الدروسِ مرارًا (١) أن لفظةَ (جعل) تأتِي في اللغةِ العربيةِ لأربعةِ مَعَانٍ، ثلاثةٌ منها موجودةٌ في كتابِ الله، ورابعها موجودٌ في اللغةِ العربيةِ ولم يوجد في كتابِ اللَّهِ، من هذه المعانِي الأربعةِ: كونُ (جعل) بمعنَى (اعتقد) وجعل التي بمعنَى اعتقدَ أصلُها تَنْصِبُ المبتدأَ والخبرَ مفعولين، ومنها قولُه: ﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا﴾ [الزخرف: آية ١٩] وفي القراءة الأخرى (٢): ﴿الذين هم عند الرحمن إناثًا﴾ والمعنَى: جَعَلُوا الملائكةَ إناثًا، أي:
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٠٠، ١١٢) من سورة الأنعام والآية (١٨٩) من سورة الأعراف.
(٢) مضت عند تفسير الآية (١١٢) من سورة الأنعام.