بسعةِ رحمةِ اللَّهِ (جل وعلا)؛ لتطمئنَ قلوبُهم، وَيُسَرُّوا بذلك. وعلى هذا فالمعنَى: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا﴾ أي: وهم ﴿الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ إذا جاؤوكَ ﴿فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾ فَابْتَدَرَهُمْ وَسَلَّمَ عليهم.
وقولُه: ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾ فيه ثلاثةُ أَوْجُهٍ (١):
أشهرُها: أن النبيَّ - ﷺ - أُمِرَ بأن يُسلمَ عليهم مبتدئًا إياهم بالسلامِ.
القولُ الثاني: ﴿فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾ أَيْ مِنْ رَبِّكُمْ. وعلى هذا التفسيرِ فاللَّهُ يُقْرِئُهُمُ السلامَ على لسانِ نَبِيِّهِ - ﷺ - لَمَّا احتقرهم أعداءُ اللَّهِ.
الوجهُ الثالثُ: أن السلامَ من النبيِّ - ﷺ -، وأنه رَدٌّ لسلامِهم عليه، وهذا لم يَقُمْ ما يدلُّ عليه، فأشهرُها: أن النبيَّ أُمِرَ بالتسليمِ عليهم.
ومعنَى: ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾ ﴿سَلاَمٌ﴾ هنا مبتدأٌ، و ﴿عَلَيْكُمْ﴾ خبرُه، وإنما سَوَّغَ الابتداءَ به وهو نكرةٌ: أنه مُشَمٌّ رائحةَ الدعاءِ (٢)، وقد تقررَ في فَنِّ العربيةِ: أن النكرةَ إن كان فيها معنَى الدعاءِ بِخَيْرٍ، نحو: (سلام)، أو بِشَرٍّ، نحو: (ويل لهم)، أنها يجوزُ الابتداءُ بها (٣).
و ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾ معناه: سَلَّمَكُمُ اللَّهُ من الآفاتِ والمحذورِ.
_________
(١) انظر: القرطبي (٦/ ٤٣٥)، البحر المحيط (٤/ ١٤٠).
(٢) انظر: البحر المحيط (٤/ ١٤٠)، الدر المصون (٤/ ٦٤٩).
(٣) انظر: التوضيح والتكميل (١/ ١٦٩).
والخُطوة - بضم الخاء - هي ما بين قَدَمَيِ المَاشِي (١)، فكما بين قدمي الماشي من المسافة: (خُطوة)، والمرّة من خَطْوِهِ تُسمى (خَطْوَه) بالفتح، وفيه قراءتان سبعيتان: قرأه ابن عامر، والكسائي، وقُنبل عن ابن كثير، وحفص عن عاصم: ﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ بضم الطاء إِتباعاً للخاء، وقرأه باقي السبعة: نافع، وأبو عمرو، وحمزة، والبَزِّي عن ابن كثير، وشعبة عن عاصم: ﴿خُطْوات الشيطان﴾ بسكون الطاء (٢).
والشيطان - قبحه الله - معروف، وهو هنا: الشيطان الذي سنّ المعاصي، وقد قدمنا مرارًا (٣) أن كل مُتَمَرِّدٍ عاتٍ شَيْطان، وذكرنا أن الشيطان فيه قولان للعلماء: هل اشتقاقه من (شَطَنَ الشيء) بمعنى بعُد، أو اشتقاقه من (شَاطَ الشيء) إذا هَلَكَ؟ قال بعض العلماء: الشيطان من (شَطَن) تقول العرب: «شَطَنَ، يشطن، فهو شطين»، أي: بعيد، ومنه قول الشاعر (٤):
نَأَتْ بِسُعَادَ عنكَ نَوى شَطُون | فَبَانَت والفُؤادُ بِهَا حَزِينُ |
أيما شَاطِنٍ عَصَاهُ عَكَاهُ | ثم يُلْقَى في السِّجْنِ والأكْبَالِ |
(١) انظر: المفردات (مادة: خطو) ص٢٨٨.
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ص١٣٩.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٤٣) من هذه السورة.
(٤) السابق.
(٥) مضى عند تفسير الآية (٤٣) من هذه السورة.
وَيُطْلَقُ التأويلُ أيضًا على التفسيرِ، ومنه قولُه ﷺ في ابنِ عباسٍ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» (١). وقولُهم: فلانٌ يعلمُ تأويلَ القرآنِ. أي: تفسيرَه.
والإطلاقُ الثالثُ - إطلاقٌ حادثٌ هو اصطلاحُ الأصوليين لم يَكُنْ معروفًا في الزمنِ الأولِ - وهو أن التأويلَ: حَمْلُ اللفظِ عن ظاهرِه الْمُتَبَادَرِ منه إلى محتملٍ مرجوحٍ بدليلٍ يدلُّ عليه. هذا اصطلاحٌ حادثٌ، وهو المعروفُ عندَ الأصوليين باسمِ التأويلِ.
وهو ثلاثةُ أنواعٍ: تأويلٌ صحيحٌ، وتأويلٌ فاسدٌ، وَلَعِبٌ. فإذا كان التأويلُ: صَرْفَ الكلامِ عن ظاهرِه الْمُتَبَادَرِ منه إلى معنًى مرجوحٍ ليس هو الظاهرَ من الكلامِ بدليلٍ صحيحٍ يدلُّ عليه حقًّا في نفسِ الأمرِ، فهو التأويلُ الصحيحُ الْمُسَمَّى بالتأويلِ القريبِ. ومثالُه: قولُ النبيِّ ﷺ الثابتُ في صحيحِ البخاريِّ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ» (٢) فإن ظاهرَ هذا الحديثِ الثابتِ في صحيحِ البخاريِّ أن الشفعةَ ثابتةٌ لِلْجَارِ؛ لأَنَّ الصقبَ والسقبَ هو ما يُلاَصِقُ الجارَ من أرضِ جارِه. إلا أنه حُمِلَ على محتملٍ مرجوحٍ، وهو أن المرادَ بالجارِ هنا: خصوصُ الشريكِ المُقاسِمِ. وهذا احتمالٌ مرجوحٌ، إلا إنه دَلَّ عليه نصٌّ صحيحٌ، فَحُمِلَ اللفظُ عليه لدلالةِ ذلك النصِّ، وهو قولُه ﷺ في حديثِ جابرٍ: «فَإِذَا صُرِفَتِ الطُّرُقُ، وَضُرِبَتِ الْحُدُودُ
_________
(١) الحديث بلفظ: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» أخرجه أحمد (١/ ٣٢٨)، وهو في الصحيحين بلفظ: «اللهم علمه الكتاب». كما في البخاري (١٤٣، ٣٧٥٦، ٧٢٧٠)، ومسلم (٢٤٧٧).
(٢) البخاري في الشفعة، باب عرض الشفعة على صاحبها قبل البيع. حديث رقم (٢٢٥٨) (٤/ ٤٣٧) وأطرافه في: (٦٩٧٧، ٦٩٧٨، ٦٩٨٠، ٦٩٨١).
دُفن فيه يؤول إلى أن تختلط أجزاؤه وعظامه في الأرض فيغيب فيها ويضمحل كما يغيب السمن في الطعام، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [السجدة: آية ١٠] يعنون بقولهم: ﴿ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ﴾ أنه اضمحلت عظامهم ولحومهم وجلودهم فيها فأكلتها واختلطت بها. وإطلاق العرب الإضلال على الدفن مشهور في كلامهم وأشعارهم، ومنه قول المُخَبَّل السعدي يرثي قيس بن عاصم التميمي المنقري المشهور (١):
أَضَلَّت بنُو قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَمِيْدَهَا | وفَارِسَهَا في الدهْرِ قيسَ بن عَاصِمِ |
فإنْ تَحْيا لا أملكْ حياتي وإنْ تَمُتْ | فما في حياتي بعدَ موتِكَ طائِلُ |
فآبَ مُضِلُّوهُ بعينٍ جَلِيَّة | وغُودِرَ بالجَولانِ حَزمٌ ونَائِلُ |
وأما الإطلاق الثالث من إطلاقات الضلال: فإنه جاء في القرآن
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١١٦) من سورة الأنعام.
(٢) هذان البيتان مضى ذكرهما مضى عند تفسير الآية (٣٩) من سورة الأنعام.
اعْتَقَدُوهُمْ إناثًا؛ لأنهم لم يصيروهم إناثًا ولا يَقْدِرُونَ، فهي (جَعَلَ) بمعنَى (اعتقد).
والثانيةُ: (جَعَلَ) بمعنَى (صيَّر) ومنه قولُه: ﴿جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ﴾ [الأنبياء: آية ١٥] أي: صَيَّرْنَاهُمْ. وهذه أيضًا تَنْصِبُ المبتدأَ والخبرَ مفعولين.
والثالثةُ: (جَعَلَ) بمعنَى (خَلَقَ) وهي تتعدى إلى مفعولٍ واحدٍ، ومن هذا قولُه في أولِ سورةِ الأنعامِ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [الأنعام: آية ١] أي: خلق الظلماتِ والنورَ، بدليلِ عطفِه على قولِه: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾.
هذه ثلاثةُ مَعَانٍ كُلُّهَا في القرآنِ: (جَعَلَ) بمعنى (اعْتَقَدَ)، (جعل) بمعنَى (صيَّر)، (جعل) بمعنى (خَلَقَ).
الرابعُ منها: (جَعَلَ) بمعنَى (شَرَعَ) جَعَلَ يفعلُ كذا إذا شَرَعَ فيه. وهذه ليست موجودةً في كتابِ اللَّهِ، وهي موجودةٌ في كلامِ العربِ بكثرةٍ، ومنه قولُ الشاعرِ (١):
وَقَدْ جَعَلْتُ إِذَا مَا قُمْتُ يُثْقِلُنِي | ثَوْبِي فَأَنْهَضُ نَهْضَ الشَّارِبِ السَّكِرِ |
والسقاية هي إحدى الوظائفِ؛ لأن قُصَيَّ بنَ كلابٍ - وهو مُجَمِّعٌ - لَمَّا جمَّع قريشًا وأخذ سدانةَ الكعبةِ من خزاعةَ، وجمَّع قريشًا وكان يُسِمَّى مُجَمِّعًا؛ لأنه جَمَعَ قبائلَ قريشٍ بمكةَ، وهو الذي يقولُ فيه ابنُ حذافةَ (٢):
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١١٢) من سورة الأنعام.
(٢) تقدم هذا البيت في سبيل الهدى والرشاد (١/ ٢٧٥).