وهذه تحيةُ الإسلامِ، هي أكملُ تحيةٍ وأفضلُها؛ لأن معنَى (السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ): سَلَّمَكُمُ اللَّهُ (جل وعلا) من الآفاتِ ومما يُؤْذِيكُمْ. وهي أحسنُ من تحيةِ الجاهليةِ الذين كانوا يقولونَ: (حَيَّاكَ اللَّهُ) فـ (السلامُ عليكم) أفضلُ من (حَيَّاكَ اللَّهُ)، وإنما كانت أفضلَ منها لأن معنَى (السلام عليكم): سَلَّمَكُمُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ ما يُؤْذِي ومن جميعِ الآفاتِ. ومعنَى (حَيَّاكَ اللَّهُ) لا تزيدُ (حَيَّاكَ اللَّهُ) على معنى أطالَ اللَّهُ حياتَك؛ وهذا الدعاءُ لا يستلزمُ الفائدةَ؛ لأنه كَمْ مِنْ إنسانٍ تكونُ حياتُه ويلاً عليه، وضررًا عليه، ويكونُ يتمنى الموتَ. وما كُلُّ حياةٍ مرغوبة ولا مرغوب فيها، بَلْ رُبَّ حياةٍ الموتُ خيرٌ منها، وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، وقد سَمِعْتُمْ بعضَ الناسِ من المتأخرين، وإن كان مثلُه يُذْكَرُ للمثالِ لا للاستدلالِ يقولُ (١):
أَلاَ مَوْتٌ يُبَاعُ فَأَشْتَرِيهِ فَهَذَا الْعَيْشُ مَا لاَ خَيْرَ فِيهِ
أَلاَ رَحِمَ الْمُهَيْمِنُ نَفْسَ حُرٍّ تَصَدَّقَ بِالْوَفَاةِ عَلَى أَخِيهِ
فهذا الذي يطلبُ مَنْ يَتَصَدَّقُ عليه بالموتِ لا يرغبُ فِي [الحياةِ] (٢) فلو قلتَ له: «حَيَّاكَ اللَّهُ» لقال لكَ - البعيدُ -: «لاَ حَيَّانِي اللَّهُ»!! لأنه يرغبُ في الموتِ، بخلافِ (السلامُ عليكم) فليسَ هذا معناه، ومن هذا المعنى قولُ الأَعْشَى أو غيرِه في الأبياتِ التي اخْتُلِفَ
_________
(١) الأبيات للوزير المهلبي وهو في زهر الآداب (١/ ١٣٩ - ١٤٠)، صبح الأعشى (١/ ٤١)، قصص العرب (٣/ ٢٦٤)، معجم الأدباء (٣/ ٩٧٧)، وفيه بين البيتين بيت آخر وهو قوله:
إذا أبصرتُ قبرا من بعيد | وددتُ لو أنني فيما يليه |
فقوله: «أيما شَاطِن»: يعني: أيما شيطان، والشَّاطِن: اسم فاعل من (شَطَنَ) بلا نزاع، فدل هذا البيت على أن أصله من (شَطَن) فالعرب تقول: شَطَنَ قَعْرُ البير: إذا بعدت مسافة عمقها.
وعلى هذا القول فاشتقاق الشيطان من (شَطَنَ) بمعنى (بعُد) أي: لشدة بُعده عن رحمة الله -والعياذ بالله- وعلى هذا القول: فوزن الشيطان بالميزان الصرفي: (فَيْعَال) والياء زائدة، والنون أصلية، بناء على أنه من (شَطَنَ) بمعنى (بعُد) ذكر هذا سيبويه في موضع من كتابه، ثم ذكر القول الآخر في موضع آخر من كتابه، أن أصل الشيطان من (شَاطَ يشيطُ) إذا هلك، تقول العرب: شَاطَ الفارسُ يَشِيطُ: إذا هلك (١). وهو معنىً معروف في كلام العرب، ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس (٢):
قد نَخْضِبُ العيرَ من مكْنُونِ فَائِلِه | وَقَدْ يَشِيطُ على أرْمَاحِنَا البَطَلُ |
وعلى أنه من (شَاطَ يَشِيطُ) فوزنه بالميزان الصرفي (فَعْلان) لأن الألف والنون زائدتان؛ لأن أصل حروفه الأصلية على هذا: (شَيَط) فاؤها شين، وعينها ياء، وطاؤها لام، والألف والنون زائدتان، فعلى القول الأول فوزنه: (فَيْعَال) وعلى الثاني فوزنه (فَعْلاَن) وكل متمرد عات شيطان، سواء كان من الإنس أو الجن أو غيرهما، ومن شعر جرير (٣):
_________
(١) السابق.
(٢) السابق.
(٣) السابق.
فَلاَ شُفْعَةَ» (١). فَعُلِمَ أنه لم تكن هناك شفعةٌ إلا مع الاشتراكِ في الأرضِ أو في الطريقِ كما هو معروفٌ. ومثالُ التأويلِ البعيدِ يمثلُ له بعضُ أهلِ الأصولِ... - بعضُهم يجيءُ بما يُخَالِفُهُ به الآخَرُ - والمعروفُ عندَ علماءِ الأصولِ: أن الأصوليَّ يكونُ مَالِكِيًّا مثلاً فيمثلُ بشيءٍ ضِدَّ مذهبِه، وقصدُه فَهْمُ القاعدةِ. ويكون شَافِعِيًّا مثلا ويمثلُ بمثالٍ مخالفٍ لمذهبِه لِتُفْهَمَ القاعدةُ. وقصدنا بكلامهم هنا المثالُ لا مناقشة أدلةِ الأقوالِ.
والشافعيةُ والمالكيةُ والحنبليةُ يمثلونَ للتأويلِ البعيدِ بِحَمْلِ الإمامِ أَبِي حنيفةَ (رحمة الله على الجميعِ) المرأةَ في حديثِ عائشةَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ» (٢) قالوا: حَمْلُ أَبِي حنيفةَ للمرأةِ على المُكاتَبَةِ تأويلٌ بعيدٌ؛ لأنه بعيدٌ من ظاهرِ النصِّ، ولم يَقُمْ دليلٌ جازمٌ عليه؛ لأن (أي) صيغةُ عمومٍ، والعمومُ أُكِّدَ بلفظةِ (ما) فَلاَ يَحْسُنُ حَمْلُهُ على صورةٍ نادرةٍ قد لا تَخْطُرُ في الذهنِ وهو الْمُكَاتَبَةُ. قالوا: وكقولِ الإمامِ أَبِي حنيفةَ (رحمة الله على الجميعِ): ﴿فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا﴾ [المجادلة: آية ٤]
_________
(١) أخرجه البخاري في البيوع، باب بيع الشريك من شريكه، حديث رقم: (٢٢١٣)، (٤/ ٤٠٧). وأطرافه: (٢٢١٤، ٢٢٥٧، ٢٤٩٥، ٢٤٩٦، ٦٩٧٦) من طريق أبي سلمة عن جابر، وأخرجه مسلم في المساقاة باب الشفعة، حديث رقم: (١٦٠٨)، (٣/ ١٢٢٩) من طريق أبي الزبير عن جابر بلفظ مغاير.
(٢) أحمد (٦/ ٦٦)، (١٦٦)، وأبو داود في النكاح، باب في الولي. حديث رقم (٢٠٦٩)، (٦/ ٩٨، ١٠٠)، والترمذي في النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي. حديث رقم (١١٠٢)، (٣/ ٣٩٨ - ٣٩٩)، وابن ماجه في النكاح، باب لا نكاح إلا بولي. حديث رقم (١٨٧٩)، (١/ ٦٠٥)، وهو في صحيح أبي داود (١٨٣٥)، وصحيح الترمذي (٨٨٠)، وصحيح ابن ماجه (١٥٢٤)، الإرواء (١٨٤٠)، المشكاة (١٣٣١).
وفي لغة العرب إطلاق الضلال على الذهاب عن علم الشيء، فكل ما لم يهتدِ إلى علم شيء تقول العرب: ضل. أي: لم يهتد إلى علم هذا الشيء بعينه. وهو بهذا المعنى يكثر في القرآن وفي كلام العرب، فمنه في القرآن قول أولاد يعقوب: ﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ [يوسف: آية ٨] أي: ذهاب عن علم الحقيقة حيث يُفَضِّل يوسف على هذا (١) من الرجال. وقوله: ﴿قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ (٩٥)﴾ [يوسف: آية ٩٥] أي: ذهابك عن حقيقة العلم بالشيء؛ لأنك تظن يوسف حيًّا، ولا يريدون الضلال في الدين؛ لأنهم لو أرادوا الضلال في الدين لكانوا كفرة لتضليلهم نبيًّا من الأنبياء. ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: ﴿لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى﴾ [طه: آية ٥٢] أي: لا يذهب عنه علم شيء ولا ينسى شيئًا. ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى﴾ [البقرة: آية ٢٨٢] ﴿أَن تَضِلَّ﴾ يعني: تذهب عن علم حقيقة المشهود به فتذكرها الأخرى. قال بعض العلماء: وأنه بهذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى (٧)﴾ [الضحى: آية ٧] على القول بذلك، ووجهه أن المعنى: ووجدك يا نبي الله ضالاً؛ أي: ذاهبًا عن هذه العلوم التي لا تُعلم إلا بالوحي فهداك إليها وعلمك إياها بالوحي كما قال تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (٣)﴾ [يوسف: آية ٣] فالغافلون ضالون ذاهبون عن علم حقيقة هذه العلوم، ومنه قوله تعالى: ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء﴾ الآية
_________
(١) أي: الجمع.
أَبُوكُمْ قُصَيٌّ كَانَ يُدْعَى مُجَمِّعًا | بِهِ جَمَعَ اللَّهُ الْقَبَائِلَ مِنْ فِهْرِ |
اللواءُ: هو حَمْلُ اللواءِ في الميدانِ عندَ التحامِ الحربِ.
ودارُ الندوةِ: هي الدارُ التي كانوا لاَ يعقدونَ ولا يحلونَ إلا بها، اشتراها بعدَ ذلك حكيمُ بنُ حزامٍ وباعها وتصدقَ بثمنِها (١). ولما قالوا له: يا أبا خالدٍ: بِعْتَ مأثرةَ قريشٍ!! قال لهم: الشرفُ بالدِّينِ لا بالديرِ.
والسقايةُ: كان قصيٌّ يجمعُ أموالاً على قريشٍ يجعلُ منها الرفادةَ والسقايةَ.
الرفادةُ: مالٌ يكونُ عندَهم يكونُ رفدًا لمن تَعَطَّلَ، إذا مات بعيرُ حَاجٍّ اشتروا له بعيرًا، وإذا افتقر أحدٌ أو انقطعت به النفقةُ زَوَّدُوهُ منه حتى يصلَ إلى أهلِه. كل هذا يفعلُه قصي ويأخذ هذا المالَ على قريش.
والسقايةُ: كانوا يأخذونَ النبيذَ والشرابَ الطيبَ ويجعلونَه في الموسمِ في الأماكنِ التي تَغْشَاهَا النَّاسُ، فيأتي الناسُ فيشربونَ
_________
(١) أخرجه الطبراني من طريقين (٣/ ١٨٦ - ١٨٧) وقال في المجمع (٩/ ٣٨٤): «رواه الطبراني بإسنادين أحدهما حسن» اهـ.