وقولُه: ﴿مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ﴾ قال بعضُ العلماءِ: ﴿مِّنْ عَمَلِ﴾ هنا شرطيةٌ، وجوابُها مقترنٌ بالفاءِ. وقال بعضُهم: هي موصولةٌ، والمبتدأُ إذا كان موصولاً اقترنَ خبرُه بالفاءِ، كما قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا.
وقولُه: ﴿مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا﴾ السوءُ: هو كُلُّ ما يسوءُ صاحبَه إذا رآه في صحيفتِه.
والأعمالُ قد دَلَّ الكتابُ وَالسُّنَّةُ على أنها أربعةُ أنواعٍ (١)، كُلُّهَا إذا عَمِلَهَا الإنسانُ على غيرِ الوجهِ المشروعِ كان عاملاً سوءًا، واللَّهُ (جل وعلا) يقولُ: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ [آل عمران: آية ٣٠] أي: لكراهتِها إياه.
العملُ على أربعةِ أنواعٍ، هي التي إذا عَمِلَهَا الإنسانُ على غيرِ الوجهِ المشروعِ كان عملُه عملَ سوءٍ:
منها: فعلُه - المعروفُ - الزنى والسرقةُ.
الثاني: فعلُ اللسانِ، فهو عملٌ، والدليلُ على أن قولَ اللسانِ من الأفعالِ: أن اللَّهَ صَرَّحَ أن قولَ اللسانِ من الأفعالِ في سورةِ [الأنعام] (٢)، في قولِه جل وعلا: ﴿زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾ [الأنعام: آية ١١٢] فأطلقَ على زخرفِ القولِ اسمَ (الفعلِ)، فدلَّ على أن قولَ اللسانِ فِعْلٌ. هذان قِسْمَانِ: الفعلُ - المعروفُ - بأحدِ الجوارحِ، وفعلُ اللسانِ.
_________
(١) انظر: نثر الورود (١/ ٧٨)، مذكرة أصول الفقه ص ٣٨ - ٤٠.
(٢) في الأصل: (الأعراف) وهو سبق لسان.
في مَهْلَكَة ويشفي غيظه منه ويأخذ بثأره وينتقم انقاد معه، قال هذا ظنًّا، ومع هذا يصدق هذا الظن!! فهذا شيء يُحْزِن المؤمن، وينبغي التنبّه له: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾ وفي القراءة الأخرى: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً﴾ (١)
هم الذين قال فيهم: ﴿إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ﴾ [الحجر: الآية ٤٠]. وكان حُذّاق العلماء يقولون: علينا معاشر الآدميين أن نعتقد أن الشيطان عدونا، وأنه سبانا من دار الكرامة التي كان فيها الأبوان: الجنة، التي قيل لآدم فيها: ﴿إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى (١١٩)﴾ [طه: الآيتان ١١٨، ١١٩] فأخرجنا الشيطان من دار الكرامة، فنحن سبي الشيطان، أخرجنا من تلك الدار إلى هذه الدار، التي هي دار الشقاء والمصائب والأحزان والبلابل، لا يكاد إنسان يسلم يوماً ولا ليلة من أذيّة من أذاياها، وكان العلاّمة ابن القيم (رحمه الله) يقول في هذا الموضوع (٢):

ولكنَّنَا سَبيُ العدوِّ فهل تُرَى نُرَدُّ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلَّمُ
فعلينا أن نجاهد العدو ونعاديه، حتى يمكننا الرجوع إلى الوطن الأول؛ لأنه لما وقعت الزلة من الأبوين - آدم وحواء - حكم الله أنه لا يُدخل أحداً من ذريتهما جنته إلا بعد الامتحان في الأوامر والنواهي، وهذا معنى قوله: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ فلا تتبعوا خطواته.
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص ٣٦٣..
(٢) طريق الهجرتين ص٥١، شرح القصيدة الميمية ص٣٤، وأول الشطر الثاني: «نعود».
وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧)} [الأعراف: الآيات ٥٤ - ٥٧].
يقول اللَّهُ جل وعلا: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٥٤)﴾ [الأعراف: آية ٥٤].
لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ - جل وعلا - وَنَهَى في هذه السورةِ الكريمةِ، وَبَيَّنَ فيها أحوالَ أهلِ الجنةِ وأحوالَ أهلِ النارِ، وَأَوْضَحَ عواقبَ طاعتِه وعواقبَ معصيتِه، وَبَيَّنَ أنه أَرْسَلَ إلى الدنيا كتابًا فَصَّلَهُ على عِلْمٍ منه بَيَّنَ أن الذي قال هذه الأشياءَ وَأَخْبَرَ بها أنه هو رَبُّ كُلِّ شيءٍ، وخالقُ كُلِّ شيءٍ، المعبودُ وحدَه، المستحقُّ لأَنْ يُعْبَدَ وحدَه، ولأن يطاعَ فلا يُعْصَى، وأن يُذْكَرَ فَلاَ يُنْسَى فقال: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ﴾ إن ربكم الله، كُلُّ الناسِ يعلمونَ أن اللَّهَ رَبُّهُمْ، ولم يُكَابِرْ في هذا إلا مُكَابِرٌ، أو أحدٌ كالبهائمِ، لا عقلَ له؛ لأنه جُبِلَتْ فِطَرُ العقلاءِ على معرفةِ أن اللَّهَ هو الربُّ الخالقُ لكلِّ شيءٍ. والكفارُ الذين يعبدونَ الأصنامَ مُقِرُّونَ بهذا عَالِمُونَ به، والآياتُ القرآنيةُ الدالةُ على ذلك كثيرةٌ: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف: آية ٨٧] ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ﴾ [يونس: آية ٣١] وإنكارُ فرعونَ لمعرفتِه ربوبيةَ اللَّهِ
مُلكًا لا ينفذ، ربح منها الحور العين والجنات والولدان، ومجاورة رب غير غضبان، والنظر إلى وجه الله الكريم. وقد سمى الله تحريك رأس هذا المال معه (جل وعلا) على الوجه الذي ذكرنا سمّاه (بيعًا) وسَمَّاهُ (شِرَاءً)، وسَمَّاهُ (تجارة)، وسماه (قَرْضًا)؛ لأنّ صاحبه حرّك رأس ماله -وهو أيام عمره - تحريكًا حسنًا لائقًا؛ ولذا قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ الآية [الصف: الآيتان ١٠، ١١].
فصرح بأن ذلك تجارة مع الله، وقال جل وعلا: ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ﴾ [فاطر: آية ٢٩] وقال جل وعلا: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ﴾ إلى قوله: ﴿فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: آية ١١١].
وقال جل وعلا: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [البقرة: آية ٢٤٥] فإذا كان صاحب رأس هذا المال المسكين رجلاً أحمق لا يعرف حقائق الأشياء، ولمْ يَتَنَوَّر باطنه بنور الوحي، لمْ يعرف قيمة رأس هذا المال، ولا قَدْرَ هَذِهِ الجواهر التي أعطاه الله فضيعها في قال وقيل، ولم يكتسب منها شيئًا حتى ينتهي الأجل المحدد له فيُجر إلى القبر وهو صفر الكفين، والآخرة أيها الإخوان دار لا تصلح للمفاليس، لا تصلح للفقراء؛ لأن ليس فيها إرفاق، ولا عارية، ولا صدقة، ولا خلة، ليس فيها للإنسان إلا ما قَدَّمَهُ مِنْ عَمَلِهِ، فَلا يَنْبَغِي للإنسان أن يقدم عليها مُفْلِسًا، فيجب على المسلمين كلاًّ أن يحترموا رأس هذا المال (١).
إذا كان رأسُ المالِ عمركَ فاحتَرِزْ عَلَيْهِ مِنَ الإِنْفَاقِ في غَيْرِ وَاجِبِ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٩) من هذه السورة.
عملَ هؤلاء باطلٌ للكفرِ؛ لأن اللَّهَ قال: ﴿وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [هود: آية ١٦] وقال (جلَّ وعلا): ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا (٢٣)﴾ [الفرقان: آية ٢٣] وقال: ﴿وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [التوبة: آية ١٩] أي: ومنهم الكفرةُ الذين يفتخرونَ بسقايةِ الحاجِّ وعمارةِ المسجدِ الحرامِ، فَهُمْ قومٌ ظالمونَ لاَ يهديهم اللَّهُ (جلَّ وعلا).
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (٢١) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٢٤)﴾ [التوبة: الآيات ٢٠ - ٢٤].
يقول الله (جلَّ وعلا): ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (٢١) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢)﴾ [التوبة: الآيات ٢٠ - ٢٢].
لَمَّا قال أهلُ مكةَ مفتخرين بأنهم يسقونَ الحاجَّ، ويعمرونَ المسجدَ الحرامَ، ويفكونَ العانيَ - أي: الأسيرَ - وافتخروا بمثلِ هذه الخصالِ، وأنكر اللَّهُ عليهم تسويتَهم بين ذلك وبين الجهادِ والإيمانِ في قولِه الذي ذَكَرْنَا: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ


الصفحة التالية
Icon