الثالثُ: العزمُ المُصَمِّمُ (١)؛ لأن عزمَ الإنسانِ المُصَمِّم دَلَّتِ السُّنَّةُ الصحيحةُ على أنه من الأفعالِ السيئةِ التي تُدْخِلُ صاحبَها النارَ، والدليلُ على ذلك: ما ثَبَتَ في الصحيحين من حديثِ أبي بكرةَ (رضي الله عنه): «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» قالوا: يا نَبِيَّ اللَّهِ قد عرفنا القاتلَ، فما بالُ المقتولِ؟ قال: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» (٢). فقولُهم: ما بالُ المقتولِ؟ سؤالٌ من الصحابةِ واستفهامٌ عن إبرازِ السببِ الذي دَخَلَ به المقتولُ النارَ، فَبَيَّنَ النبيُّ - ﷺ - جوابًا مُطَابِقًا للسؤالِ أن حرصَه وعزمَه
المُصَمِّمَ على قتلِ أخيه هو السببُ الذي أَدْخَلَهُ النارَ. أما الهمُّ الذي لم يكن عزمًا مُصَمِّمًا، فليس من الأفعالِ، كما قال جل وعلا: ﴿إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ﴾ [آل عمران: آية ١٢٢] وإتباعُه لذلك بقولِه: ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا﴾ دَلَّ على أنه هَمٌّ لم يَسْتَقِرَّ، ولم يكن عَزْمًا مُصَمِّمًا حتى يُعَدَّ من الأفعالِ، ومن ذلك الهمِّ - الذي ليس من العزمِ المُصَمِّمِ الذي هو من الأفعالِ - ما في الحديثِ: «وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ» (٣)
وإنما كُتِبَتْ له حسنةٌ؛ لأنه تَرَكَهَا لوجهِ اللَّهِ (جل
_________
(١) انظر: مجموع الفتاوى (١٠/ ٧٢٠)، فتح الباري (١١/ ٣٢٤ - ٣٢٩)، (١٢/ ١٩٧)، نثر الورود (١/ ٧٨)، مذكرة أصول الفقه ص ٣٩.
(٢) البخاري، كتاب الديات، باب: قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا... ﴾ حديث رقم (٦٨٧٥)، (١٢/ ١٩٢)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، حديث رقم (٢٨٨٨)، (٤/ ٢٢١٣).
(٣) هذه الجملة رواها عن النبي - ﷺ - ثلاثة من الصحابة:
الأول: أنس بن مالك (رضي الله عنه) في حديث الإسراء الطويل الذي أخرجه الشيخان وغيرهما. إلا أن هذه الجملة لم ترد في لفظ البخاري وإنما هي في صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله - ﷺ - إلى السماوات، وفرض الصلوات، حديث رقم (١٦٢)، (١/ ١٤٥).
الثاني: حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) عند البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ﴾ حديث رقم (٧٥٠١)، (١٣/ ٤٦٥)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب: إذا هم العبد بحسنة كُتبت، وإذا هم بسيئة لم تُكتب، حديث رقم (١٢٨ - ١٣٠)، (١/ ١١٧ - ١١٨).
الثالث: حديث ابن عباس (رضي الله عنه) عند البخاري، كتاب الرقاق، باب: من هم بحسنة أو بسيئة حديث رقم (٦٤٩١)، (١١/ ٣٢٣)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب: إذا هم العبد بحسنة كُتبت، وإذا هم بسيئة لم تُكتب. حديث رقم (١٣١)، (١/ ١١٨).
والمبين: اسم فاعل (أبان) و (أبان) تأتي في العربية على لُغَتَيْنِ:
أحدهما (١): (أبان) اللازمة، تقول العرب: أبان الشيءُ يُبين، فهو مُبين: إذا كان بيناً ظاهراً لازماً غير متعد للمفعول، وهذه لغة فصحى معروفة في كلام العرب، وفي القرآن العظيم، ومن إطلاقها في كلام العرب قول جرير (٢):

إذا آباؤُنَا وأبوكَ عُدُّوا أبَانَ المُقْرِفَات من العِرَابِ
أبان: أي: ظهر المُقْرِفَات من العِرَاب. وقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي (٣):
لو دبَّ ذرّ فوقَ ضاحي جلدِهَا لأَبَانَ مِنْ آثَارِهِنَّ حُدورُ
يعني: لظهر من آثار دبيب النمل ورم لشدة رقة بشرة الجِلْد. فـ (أبان) هنا لازمة لا مفعول لها.
ومن إتيان (المُبين) لازماً من اسم فاعل (أبان) اللازمة: قول كعب بن زهير في (بانت سعاد) (٤):
قَنْوَاء في حُرَّتَيْهَا لِلْبَصِيرِ بِهَا عِتْقٌ مُبينٌ وَفِي الخَدَّينِ تَسْهيلُ
عِتْقٌ مُبِيْن؛ أي: كرم ظاهر.
وعلى أن (مبيناً) هنا من (أبان) اللازمة، والمعنى: إن الشيطان لكم عدو مبين؛ أي: بَيِّنٌ العَدَاوَةِ ظاهرها واضحها، من أبان يُبِينُ، فهو مبين، لازماً، وقد يحتمل أن يكون من (أبان) المتعدية،
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٥) من هذه السورة.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٦) من هذه السورة.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٥٥) من هذه السورة.
(٤) السابق.
حيث قال اللَّهُ عنه إنه قال: ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: آية ٢٣] وقال: ﴿لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ [الشعراء: آية ٢٩] وقال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ [النازعات: آية ٢٤] فإن فرعونَ مُكَابِرٌ عالمٌ أنه عبدٌ مربوبٌ، وأن اللَّهَ رَبُّهُ وَرَبُّ كُلِّ شيءٍ، كما أَوْضَحَهُ اللَّهُ في إقسامِ موسى على ذلك، قال: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ﴾ [الإسراء: آية ١٠٢] وَاللَّهِ لقد علمتَ يا فرعونُ ما أنزلَ هؤلاء الآياتِ إلا رَبُّ السماواتِ والأرضِ. أي: وَمَنْ فيهن.
وكقولِه: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا﴾ [النمل: آية ١٤] يعني: فرعونَ وقومَه ﴿وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل: آية ١٤] فهو جاحدٌ مُكَابِرٌ ليستخفَّ قلوبَ قومِه: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ [الزخرف: آية ٥٤].
والذين ينفونَ ربوبيةَ اللَّهِ هم بهائمُ كالبغالِ والحميرِ لاَ عقولَ لهم: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الفرقان: آية ٤٤] أما عَامَّةُ العقلاءِ الذين ارْتَفَعَ إدراكُهم عن إدراكِ الحيواناتِ فَهُمْ يعلمونَ أن اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شيءٍ وخالقُ كُلِّ شيءٍ.
﴿إِنَّ رَبَّكُمُ﴾ [الأعراف: آية ٥٤] أي: إن سيدَكم وخالقَكم ومدبرَ شؤونِكم ﴿الله﴾ - جل وعلا - ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ [الأعراف: آية ٥٤] أي: وما بينَهما ﴿فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ [الأعراف: آية ٥٤] هذه الأيامُ الستةُ بَيَّنَ اللَّهُ تفصيلَ خَلْقِهِ الخلائقَ فيها في سورةِ فصلت - السجدة (١) - حيث قال: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٩)﴾ قال: {خَلَقَ الْأَرْضَ
_________
(١) انظر: الأضواء (٢/ ٣٠٤).
فلا ينبغي للمسلم أن يضيع أوقات عمره في لعب الأوراق، وفي قيل وقال، فإن هذا فعل السفهاء، ولا يدري في أيِّ وقت يموت. وأنا أؤكد لكم كل التوكيد أنه إن مات ندم غاية الندم بعد فوات الفرصة على ضياع هذه الأعلاق النفيسة، والجواهر الثمينة -التي هي أيام عمره- في قال وقيل، ولعب أوراق، وربما كان ضيعه في أشياء لا ترضي من خلقه (جل وعلا)، فهذا لا ينبغي، فعلينا معاشر المؤمنين أن نَعْرِفَ قَدْرَ رَأْسِ مَالِنَا، وأن نُقدِّر أعمارنا، ونعرف قصرها، ولا ندري في أيِّ وقت تَنْخَرِمُ كما سيأتي قوله في هذه [السورة] (١): ﴿وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ﴾ [الأعراف: آية ١٨٥] فلا نضيعه فيما لا يعني كألعاب الأوراق، والمجون والعبث، وغير ذلك مما لا يفيد، فهذا فعل السفهاء، وسيعلم صاحبه إذا انتهى إلى ربه أنه فعل السفهاء الذي لا يُجدي، فعليه أن يكفَّ عنه، ويكون رجلاً جديًّا، ويصدق المعاملة فيما بينه وبين ربه (جل وعلا)، ولا يترك أوقاته تضيع هدرًا؛ لأن هذا تضييع لجواهر عظيمة، وأعلاق نفيسة، لا يعرف قدرها إلاّ من علمه الله ذلك.
المثل الثاني المضروب لهذا: هو ما ذكره بعض العلماء وقد جاء به حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن سنده لا يقل عن درجة القبول (٢) أن الله (جل وعلا) جعل لكل إنسان مسكنًا في الجنة ومسكنًا في النار، فإذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أطلع أهل الجنة على مساكنهم في النار لو أنهم كفروا بالله وعَصَوْهُ لِتَزْدَاد غبطَتُهُم وسرورهم بما هم فيه، وعند ذلك يقول الواحد منهم: {الْحَمْدُ للَّهِ
_________
(١) في الأصل: (الآية) وهو سبق لسان.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٩) من هذه السورة.
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} الآية [التوبة: آية ١٩] صَرَّحَ هنا بأن الإيمانَ بِاللَّهِ والهجرةَ والجهادَ في سبيلِ اللَّهِ أعظمُ درجةً وأفضلُ مما يفتخرُ به أهلُ مكةَ. والظاهرُ أن صيغةَ التفضيلِ هنا لمطلقِ الوصفِ؛ لأن كفارَ أهلِ مكةَ لا درجةَ لهم في سقايةِ الحاجِّ ولا عمارةِ المسجدِ؛ لأن اللَّهَ يقولُ: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ [التوبة: آية ١٧] ومعنَى الآيةِ الكريمةِ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله وبكلِّ ما يجبُ به الإيمانُ ﴿وَهَاجَرُوا﴾ أوطانَهم وديارَهم وأموالَهم ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ولإعلاءِ كلمةِ اللَّهِ هؤلاء ﴿أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ﴾ (درجةً): تمييزٌ محولٌ عن الفاعلِ، أي: أَرْفَعُ رتبةً ومكانةً ﴿وَأُولَئِكَ﴾ المذكورونَ ﴿هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ الظافرونَ بالحظِّ الأكبرِ؛ لأن العربَ تقولُ: «فاز فلان». إذا ظفر بما كان يتمنَّى، وظفر بأكبرِ مطلوبٍ، يقولونَ: «فاز»: نال الفوزَ، ومنه: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ [آل عمران: آية ١٨٥]. والإتيانُ بضميرِ الفصلِ بينَ المسندِ والمسندِ إليه في قولِه: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ يدلُّ على اختصاصِهم بالفوزِ دونَ الذين قالوا: نحنُ نسقي الحاجَّ وَنُعَمِّرُ المسجدَ الحرامَ. وهذا معنَى قولِه: ﴿أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾.
﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ﴾ [التوبة: آية ٢١] قرأ هذا الحرفَ عامةُ السبعةِ غير حمزةَ ﴿يُبَشِّرُهُمْ﴾ مضارعُ يُبشَّره يُبشره. وقرأه حمزةُ من السبعةِ (١): ﴿يَبْشُرُهُمْ ربهم برحمة منه﴾ الآية، فعلى قراءةِ حمزةَ: ﴿يَبْشُرُهُم﴾ مضارعُ (بَشَرَه) ثلاثيًّا مجردًا (يَبْشرُهُ) بالضمِّ. وعلى قراءةِ الجمهورِ: ﴿يُبَشِّرُهُمْ﴾ مضارعُ (بشَّره) بالتضعيفِ (يُبَشِّرُه، تبشيرًا).
_________
(١) انظر: الإتحاف (٢/ ٨٩).


الصفحة التالية
Icon