وعلا)، فكان تركُه إياها امتثالاً لأمرِ اللَّهِ، وكانت بذلك حسنةً، كما قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (٤١)﴾ [النازعات: الآيتان ٤٠ - ٤١].
الرابعُ: هو التركُ، والتركُ من الأفعالِ الحقيقيةِ، فهو فعلٌ على التحقيقِ (١)، وإن خَالَفَ فيه مَنْ خَالَفَ، فَمَنْ تركَ الصلاةَ حتى ضاعَ وقتُها فقد عَمِلَ بهذا التركِ عملاً سَيِّئًا يدخلُ به النارَ، وكان ابنُ السبكيِّ في بعضِ تآليفِه في الأصولِ يقولُ: طالعتُ كتابَ اللَّهِ لأجدَ فيه آيةً تدلُّ على أن التركَ فعلٌ فما وجدتُ فيه شَيْئًا يدلُّ على أن التركَ فعلٌ إلا شيئًا يُفْهَمُ من آيةٍ في سورةِ الفرقانِ هي قولُه: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان: آية ٣٠] قال: الاتخاذُ أصلُه من الأخذِ، والأخذُ: التناولُ. فقال: تَنَاوَلُوهُ
_________
(١) انظر: مجموع الفتاوى (١٤/ ٢٨٢ - ٢٨٥)، القواعد والفوائد الأصولية ص ٦٢، المسودة ص٨٠، المستصفى (١/ ٩٠)، شرح مختصر الروضة (٢/ ٢٤٢ - ٢٤٧)، شرح الكوكب المنير (١/ ٤٩١)، نثر الورود (١/ ٧٨)، مذكرة أصول الفقه ص ٣٨ - ٤٠، أضواء البيان (٦/ ٣١٧).
والمفعول محْذُوف، أي: مُبِين عداوته ومظهرها، حيث صرح بذلك في قوله: ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ﴾ [الأعراف: الآية ١٦] ﴿لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ﴾ [الإسراء: الآية ٦٢] ﴿لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الحجر: الآية ٣٩] فهنا أبان عداوته. وعلى أنه من (أبان) المتعدية: فالمفعول محذوف، وحَذْفُ المفعول إذا دل المقام عليه جائز كما هو معروف في كلام العرب.
في قوله: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ [الأنعام: الآية ١٤٣] أوجه معروفة من الإعراب (١): أظهرها وأصحها: أنها بدل من قوله: ﴿حَمُولَةً وَفَرْشاً﴾ [الأنعام: الآية ١٤٢] أي: أنزل لكم من الأنعام حمولة وفرشاً، ثم بيّن الحُمُولة والفرش ما هي؟ فبينها بالإبدال منها فقال: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾.
والمراد بالأزواج هنا: الأصناف، وكل شيء يحتاج إلى أن يجتمع مع واحد من جنسه تُسميه العرب: زوجًا (٢)؛ كالخُفّ فإنه يحتاج إلى خُفٍّ آخر فهو زَوْجُه، وكأحد مصراعي الباب فإنه يحتاج إلى مِصْرَاعٍ آخَرَ فَهو زَوْجُه، وكالذَّكَر فإنه يحتاج إلى الأنثى فهي زَوْجُه؛ لأنهما مُزْدَوْجَان.
﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ﴾ الضَّأْن معروف، وهو نوع الغنم الذي فيه الصوف، ومُقَابِله: المعز، وقرأه عامة القراء: ﴿مِّنَ الضَّأْنِ﴾ بتحقيق الهمزة، وأبدلها السوسي عن أبي عمرو:
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ١٨٣)، القرطبي (٧/ ١١٣)، البحر المحيط (٤/ ٢٣٩)، الدر المصون (٥/ ١٩١).
(٢) انظر: القرطبي (٧/ ١١٣).
فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت: الآيتان ٩، ١٠] أي: بإضافةِ يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ لليومين الأولين فصارت أربعًا، ثم قال: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (١١) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾ [فصلت: الآيتان ١١، ١٢] تضافُ إلى الأربعةِ السابقةِ فتكونُ ستةً.
والعلماءُ يقولونَ: إن هذه الأيامَ المرادُ بها أوقاتُها؛ لأنه في ذلك الوقتِ لم يكن هنالك يومٌ؛ لأن اليومَ من طلوعِ الشمسِ إلى غروبِها، وإن لم يكن هنالك شمسٌ لاَ يُعْرَفُ اليومُ. إلا أن اللَّهَ قبلَ أن يخلقَ الشمسَ والقمرَ يعلمُ زمنَ الأيامِ قبلَ وجودِ الشمسِ.
وهذه الأيامُ قد جاءَ في رواياتٍ كثيرةٍ أن أَوَّلَهَا الأحدُ وَآخِرَهَا الجمعةُ (١). والقرآنُ بَيَّنَ أنه خلقَ الأرضَ في يومين ثم خلقَ فيها الجبالَ والأقواتَ والأرزاقَ في يومين، ثم خلقَ السماواتِ في يومين، فهي ستةُ أيامٍ. ويومُ السبتِ ليس منها.
وما جاء في صحيحِ مسلمٍ من حديتِ أَبِي هريرةَ أن اللَّهَ خلقَ التربةَ يومَ السبتِ (٢)،
_________
(١) جاء في هذا المعنى عدة روايات عن جماعة منهم مجاهد كما في تفسير الطبري (١٢/ ٤٨٢)، وعبد الله بن سلام كما في تاريخ الطبري (١/ ٢٤)، وابن مسعود، وابن عباس، وأيضًا عن أبي سنان عن أبي بكر مرفوعًا كما في (١/ ٢٦)، من تاريخ ابن جرير رحمه الله.
وقد تكلم على هذه الرواية الحافظ ابن كثير في تاريخه (١/ ١٥)، ورجحها على الرواية الأخرى في التفسير (٢/ ٢٢٠)، وقد سبقه إلى ذلك ابن جرير (رحمه الله) في تاريخه (١/ ٢٥).
(٢) مسلم في صفات المنافقين. باب: ابتداء الخلق، وخلق آدم عليه السلام. حديث رقم (٢٧٨٩)، (٤/ ٢١٤٩)، وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره (٢/ ٢٢٠) معلقًا على هذه الرواية: «وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قد قال: ﴿فِي سِتَّةِ أَيَّام﴾ ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار، ليس مرفوعًا» ا. هـ. وراجع كلام ابن كثير على هذه الرواية في البداية والنهاية (١/ ١٧).
الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: آية ٤٣] ثم إنَّه يُري أهل النار منازلهم في الجنة لو أنهم آمنوا بالله وأطاعوه لتزداد ندامتهم وحسرتهم والعياذ بالله. وعند ذلك يقول الواحد منهم: ﴿لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [الزمر: آية ٥٧] ثم إن الله يجعل مساكن أهل النار في الجنة لأهل الجنة، ومساكن أهل الجنة في النار لأهل النار، ومن استبدل مسكنه في الجنة بمسكن غيره في النار فصفقته خاسرة، فهو خاسر لا محالة، وذلك طرف من هذا الخسران الذي دلت عليه آيات القرآن العظيم؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٧٨].
﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ﴾ [الأعراف: آية ١٧٩] اللام موطئة لقسم محذوف، و (قد) حرف تحقيق تضمنت معنى التوكيد.
و ﴿ذَرَأْنَا﴾ معناه: خلقنا. العرب تقول: ذرأ الله الخلق؛ أي: خلقه. فصيغة الجمع في قوله: ﴿ذَرَأْنَا﴾ صيغة تعظيم؛ لأن الله خلق خلقًا للنار فقال: هؤلاء في النار ولا أُبالي.
وقوله: ﴿لِجَهَنَّمَ﴾ بعض العلماء يقول: هي طبقة من طبقات جهنم، ولكنها تطلق على جميع طبقات النار، كما قال تعالى في جهنم: ﴿لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ (٤٤)﴾ [الحجر: آية ٤٤] فجهنم تطلق على جميع طبقات النار، وإن كان بعض العلماء يزعم أنها طبقة من طبقاتها السبع.
واختلف العلماء في لفظة (جهنم) هل أصلها عربية أو مُعَرَّبة (١)؟ بناء على قول من يقول: إنَّ فِي القرآن كلمات
_________
(١) انظر: اللسان (مادة: جهنم) (١/ ٥٢٥)، الدر المصون (٢/ ٣٥٥).
وقد قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مرارًا (١) أن البشارةَ في لغةِ العربِ هي الإخبارُ بما يَسُرُّ، فكلُّ مَنْ أخبرَك بما يسركَ فقد بشَّرَكَ، وبَشَرَكَ على اللغةِ الأخرى، وأنه يُطْلَقُ أيضًا على البشارةِ بما يسوءُ، فالعربُ أيضًا تُسَمِّي الإخبارَ بما يسوءُ (بشارةً) إذا اقترنَ بما يدلُّ على ذلك، وهو كثيرٌ في القرآنِ، كقولِه: ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [التوبة: آية ٣٤] وقد ذَكَرْنَا أنه أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ. تقول العربُ: «بَشَّره بكذا». إذا أخبرَه بما يسوؤه، ومنه قولُ الشاعرِ (٢):
يُبَشِّرُنِي الْغُرَابُ بِبَيْنِ أَهْلِي | فَقُلْتُ لَهُ ثَكِلْتُكَ مِنْ بَشِيرْ |
أَبَشَّرْتَنِي يَا سَعْدُ أَنَّ أَحِبَّتِي جَفَوْنِي | وَقَالُوا الْوُدُّ مَوْعِدُهُ الْحَشْرُ |
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة الأنعام.
(٢) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (٤٨) من سورة الأنعام.
(٣) السابق.
(٤) السابق.