مهجورًا. فَدَلَّ على أن الهجرَ فِعْلٌ.
ونحن نقولُ: إِنَّا باتباعِ كتابِ اللَّهِ وَجَدْنَا آياتٍ صريحةً من كتابِ اللَّهِ تدلُّ بصراحةٍ لا شكَّ فيها على أن التركَ من الأفعالِ، منها: آيتانِ في سورةِ [المائدة] (١)، ذَكَرْنَاهُمَا فيما مَضَى، إِحْدَاهُمَا قولُه تعالى: ﴿لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة: آية ٦٣] فَسَّمَى عدمَ نهيهِم وتركهِم للأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ سَمَّاهُ: (صُنْعًا)، والصُّنعُ أَخَصُّ من مطلقِ الفعلِ، ومنه قولُه تعالى في المائدةِ أيضًا: ﴿كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ ثم قال: ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة: آية ٧٩] يعني به تركَهم للتناهِي عن المنكرِ، سَمَّاهُ (فعلاً) وأنشأَ له الذمَّ بقوله: ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾. هذه الأقسامُ الأربعةُ هي الأفعالُ، واللغةُ العربيةُ تَدُلُّ على أن التركَ من الأفعالِ، وقد قال بعضُ الصحابةِ لَمَّا أراد النبيُّ - ﷺ - عند أولِ مجيئِه لهذه المدينةِ مُهَاجِرًا عند بنائِه هذا المسجدَ الكريمَ، كانوا يحملون المؤونةَ لِيَبْنُوهُ، وواحدٌ جالسٌ، فرأى النبيَّ - ﷺ - يعملُ معهم، فقال رَاجِزًا (٢):
لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُّ يَعْمَلُ لَذَاكَ مِنَّا الْعَمَلُ الْمُضَلَّلُ
فَسَمَّى تركَهم للعملِ سَمَّاهُ (عَمَلاً مُضَلَّلاً) وبهذا يُعْلَمُ أن قولَه في هذه الآيةِ الكريمةِ: ﴿مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا﴾ أن عَمَلَ السوءِ قد يكونُ بفعلِ أحدِ الجوارحِ، وقد يكونُ بفعلِ اللسانِ، وقد يكونُ
_________
(١) في الأصل: (الأنعام) وهو سبق لسان.
(٢) البيت في السيرة النبوية لابن هشام (١/ ٥٢٢)، نثر الورود (١/ ٧٩).
﴿مِّنَ الضَّاَنِ اثْنَيْنِ﴾ (١).
وقوله: ﴿وَمِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ﴾ قرأه نافع والكوفيون الثلاثة -وهم: عاصم، وحمزة، والكسائي، قرؤوا:- ﴿وَمِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ﴾ بسكون عين المعْزِ، وقرأه الباقون - وهم: ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو - ﴿وَمِنَ المَعَزِ اثْنَيْنِ﴾ بفتح عين المعز (٢). وهما لغتان في (المَعَز، والمَعْز)، وكذلك (الضأَن، والضأْن) (٣) ولكن (الضأَن) لم يُقرأ بها، إنما قرأوا بـ (الضأْن) بالسكون، وأبدلها السوسي عن أبي عمرو، وأظهر اللغتين: (المَعْز) بالسكون؛ لأن (الفَعْل) قد يُجمع على (فَعِيل) والمعز يجمع على مَعِيز، كالعبد، والعبيد، والمعز، والمعيز، ومِنْ جَمْعِه على (المَعِيز) قول امرئ القيس (٤):
أَبَعْدَ الحَارِثِ المَلِكِ ابْنِ عَمْرٍو | لَهُ مُلْكُ الْعِرَاقِ إِلَى عُمَانِ |
وَيَمْنَعُها بنُو شَمَجَى بْنِ جَرْمٍ | مَعِيْزَهمُ حَنَانَكَ ذَا الحَنَانِ |
(١) انظر: الإقناع (١/ ٤٠٨، ٤٢٥)، النشر (١/ ٣٩٠).
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ص ٢٠٤.
(٣) انظر: القرطبي (٧/ ١١٤)، الدر المصون (٥/ ١٩٤).
(٤) ديوان امرئ القيس ص ١٦٩. وبين البيتين المذكورين بيت لم يذكره الشيخ (رحمه الله)، وهو قوله:
مُجَاوَرَةً بَنِي شَمَجَى بْنِ جَرْمٍ | هَوَانًا مَا أُتيحَ مِنَ الَهوَانِ |
وقوله: (بنو شمجى) حي من طيئ، قال ذلك حينما نزل بهم فلم يحمد نزلهم.
وقوله: (حنانك) أي: تحننك وترحمك. يتهكم بهم.
وقوله: (ويمنعها) يرويه بعضهم: (يمنحها).
وجعلَ في كُلٍّ من أيامِ الأسبوعِ بعضَ الخلقِ، وإن كان في صحيحِ مسلمٍ فهو غَلَطٌ، غَلِطَ بعضُ الرواةِ في رَفْعِهِ، والظاهرُ أنه أَخَذَهُ أبو هريرةَ عن كعبِ الأحبارِ أو نحوِه من الإسرائيلياتِ (١)؛ لأنه خلافُ القرآنِ - الصحيحُ - أن السبتَ لم يكن من الأيامِ التي خُلِقَ فيها شيءٌ، وأن السماواتِ والأرضَ وما بينَهما خُلِقَتْ في ستةِ أيامٍ من الأسبوعِ، أولها يومُ الأحدِ، وآخرُها يومُ الجمعةِ، خَلَقَ اللَّهُ فيه آدمَ بعدَ صلاةِ العصرِ.
وهذه الأيامُ قال بعضُ العلماءِ (٢): إنها كأيامِ الدنيا. وقال بعضُهم: اليومُ منها هو المذكورُ في قولِه: ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ [الحج: آية ٤٧].
وَاللَّهُ خَلَقَ السماواتِ والأرضَ وما بينَهما في ستةِ أيامٍ، مع أنه قادرٌ على أن يخلقَ الجميعَ في لحظةٍ واحدةٍ كلمحِ البصرِ لحكمتِه (جل وعلا)، قال بعضُ العلماءِ: أَرَادَ أن يُعَلِّمَ خَلْقَهُ التمهلَ في الأمورِ، والتدرجَ فيها لِيَقْدِرُوا عليها، وهو قادرٌ على خلقِ ما شَاءَ في لحظةٍ واحدةٍ: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠)﴾ [القمر: آية ٥٠]
_________
(١) انظر: ابن كثير (٢/ ٢٢٠).
(٢) انظر: القرطبي (٧/ ٢١٩)، البحر المحيط (٤/ ٣٠٧)، ابن كثير (٢/ ٢٢٠).
مُعَرَّبة (١). والتحقيق الذي هو الأشبة أن القرآن كله عربي إلا الأعلام. وما دمنا نقول: أخذ العرب هذه الكلمة من الجيل العجمي الفلاني فلِمَ لا نقول: إن ذلك الجيل الأعجمي أخذها عن العرب؟ الكل محتمل ولا دليل على أنه أخذها خصوص هؤلاء عن هؤلاء، فعلينا أن نتمسك بالعموم في قوله: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (١٩٥)﴾ [الشعراء: آية ١٩٥] ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [يوسف: آية ٢] ولا خلاف في الأعلام أن فيه أعلامًا عجمية. هذا لا نزاع فيه؛ لأن العَلَم يُحكى بلفظه في أي لغة كان كما هو معروف.
وقال بعض العلماء الذين يقولون إن في القرآن مُعَرَّبًا: إن (جهنم) أصلها فارسية. والذين قالوا هذا القول يزعمون أن في الفارسية القديمة إطلاقًا (كَهَنَّام) على النار، وأنها عَرَّبتها العرب وأبدلت الكاف جيمًا، والله أعلم بصحة هذا.
وقال جماعة من علماء العربية (٢): أصل الكلمة عربية، ووزنها بالميزان الصرفي (فَعَنَّل) فالنون المشددة زائدة، وأصل الحروف الأصلية: الجيم في مكان الفاء، والهاء في مكان العين، والميم في مكان اللام، من: جَهَمَه يَجْهَمُه وتَجَهَّمَهُ إذا عبس في وجهه وقَطَّبَ وجهه وعقده فيه. قالوا: سُميت (جهنم) لأنها تلقى من يدخلها بوجه عابس مقطب متجهم، وأنهم تعبس وجوههم، وتَجَهَّم فيها من شدة ما يلاقون من عذابها والعياذ بالله. وهذا المعنى معروف في كلام
_________
(١) في هذه المسألة انظر: الرسالة (٤١ - ٥٣)، ابن جرير (١/ ١٣)، ابن عطية (١/ ٣٦)، القرطبي (١/ ٦٨)، ابن كثير (١/ ٨) البحر المحيط للزركشي (١/ ٤٤٩)، (٢/ ١٧٠) شرح الكوكب (١/ ١٩٢).
(٢) انظر: الدر المصون (٢/ ٣٥٥).
﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ﴾ [التوبة: آية ٢١] الرحمةُ: مصدرُ رَحِمَهُ، والرحمةُ من صفاتِ اللَّهِ (جلَّ وعلا)، ونحن معاشرَ المسلمين نَصِفُ اللَّهَ بما وَصَفَ به نفسَه، وبما وصفَه به رسولُه صلى الله عليه وسلم، وَنُثْبِتُ له ما أَثْبَتَ لنفسِه، مُنَزِّهِينَ خالقَ السماواتِ والأرضِ عن مشابهةِ الخلقِ، فلا نميلُ إلى التعطيلِ، ولا إلى التمثيلِ، بل نُقِرُّ بصفاتِ اللَّهِ ونؤمنُ بها على سبيلِ المخالفةِ لصفاتِ الخلقِ، كما عَلَّمَنَا اللَّهُ في قولِه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: آية ١١] ومرارًا نوضحُ مذهبَ السلفِ في آياتِ الصفاتِ عندَ كُلِّ المناسباتِ.
ومعنَى قولِه: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ﴾ [التوبة: آية ٢١] قرأ هذا الحرفَ عامةُ السبعةِ غير شعبةَ - أبي بكر - عن عاصمٍ: ﴿وَرِضْوَانٍ﴾ بكسرِ الراءِ. وقرأه شعبةُ عن عاصمٍ: ﴿ورُضوان﴾ بضمِّ الراءِ (١) وهما لغتانِ فصيحتانِ، وقراءتانِ صحيحتانِ؛ لأن العربَ تقولُ في مصدر (رضي) تقول: رَضِيَ يرضى رضاءً ورضوانًا. وتزيدُ فيه الألفَ والنونَ، والألفُ والنونُ تزادانِ في بعضِ المصادرِ كثيرًا كالكفرانِ والرجحانِ والغفرانِ والرضوانِ. والكسرُ والضمُّ لغتانِ فيه، ورضوانُ اللَّهِ: رِضَاهُ (جل وعلا)، والرضا أيضًا صفةٌ من صفاتِ الله (جلَّ وعلا) أَثْبَتَ لنفسه الاتصافَ بها إذا امتُثلت أوامرُه واجتُنبت نواهيه، كما قال تعالى: ﴿رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [البينة: آية ٨] ونحن دائمًا نُوصِي أنفسَنا وإخوانَنا وعامةَ المسلمين أن يعتقدوا في مذهبِ السلفِ المعتقدَ الواضحَ الذي هو في ضوءِ القرآنِ العظيمِ، الذي لاَ إشكالَ فيه ولا قِيلَ ولا قَالَ، وصاحبُه يَلْقَى اللَّهَ
_________
(١) انظر: الإتحاف (٢/ ٨٩).