بالعزمِ المصممِ، كما قال النبيُّ - ﷺ -: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» (١). وقد يكونُ بتركِ ما أَوْجَبَهُ اللَّهُ جل وعلا.
هذه الأعمالُ التي يعملها الإنسانُ سيئةٌ.
وقولُه: ﴿مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا﴾ السوءُ: كُلُّ عملٍ يسوءُ صاحبَه إذا رآه في صحيفتِه يومَ القيامةِ.
وقولُه: ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ الجارُّ والمجرورُ في منزلةِ الحالِ. أي: حال كونِه متصفًا بالجهالةِ. ولا يَعْصِي اللَّهَ أحدٌ إلا هو متصفٌ بجهالةٍ؛ لأن المعاصيَ غالبًا لا تُحْمَلُ عليها إلا أغراضٌ دنيويةٌ عاجلةٌ، وَمَنْ آثَرَ هذا الغرضَ الدنيويَّ العاجلَ على ما عِنْدَ اللَّهِ (جل وعلا) فهو جاهلٌ، وإن كان في الجملةِ يعلمُ أن فعلَه هذا حرامٌ، وأنه عَالِمٌ بما يأتي، فلا بُدَّ أن يكونَ جاهلاً من تلك الحيثيةِ، وَكُلُّ مَنْ وقعَ في أمرٍ لا ينبغي تقول له العربُ: «جاهلٌ» (٢)، و «وَقَعَ فيه بِجَهْلٍ»، وهو كلامٌ معروفٌ في كلامِ العربِ الذين نزلَ القرآنُ بلغتِهم، ومن هذا المعنى قولُ الشاعرِ (٣):
عَلَى أَنَّهَا قَالَتْ عَشِيَّةَ زُرْتُهَا جَهِلْتَ عَلَى عَمْدٍ وَلَمْ تَكُ جَاهِلاَ
تعني أنه فعلَ ما لا ينبغي أن يفعلَ، وهذا معنى قولِه: ﴿مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ﴾.
﴿ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ أَيْ مِنْ بعدِ ذلك العملِ الذي عمل به السوءَ بجهالةٍ ﴿تَابَ وَأَصْلَحَ﴾.
_________
(١) مضى تخريجه قريبا.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٦٧) من سورة البقرة.
(٣) البيت في مشاهد الإنصاف ص ٩٣.
﴿مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ﴾ أي: زوجان، ذكر الضأن وأُنثاه، وهما: الكبش والنعجة ﴿وَمِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ﴾ ذكره وأنثاه، وهو: التَّيْس والمعزة. ويقال لها: المعزى والعنز. والمعزى تطلق على جنس المعز أيضًا، ومنه قول امرئ القيس (١):

أَلاَ إلَّا تكُنْ إبلٌ فمِعْزَى كَأَنَّ قُرُونَ جِلَّتِهَا الْعِصِيُّ
فهذه أربعة أصناف من الغنم، وهي: الكبش، والنعجة، والتيس، والمعزة - التي هي العنز - هذه أربعة في الغنم من الأزواج الثمانية.
ثم قال بعد هذا: ﴿وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ﴾ وهما: الجمل والناقة.
﴿وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ﴾ ذكر البقر وأنثاه، البقرة والثور. فهذه هي الأصناف الثمانية، التي هي الأنعام، التي يُباح أكلها من الحيوانات، كما سيأتي في قوله: ﴿وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ [الزمر: الآية ٦] وهي هذه الثمانية. وهذا معنى قوله: ﴿مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ﴾ ﴿ءَآلذَّكَرَيْنِ﴾ الهمزة الأولى همزة استفهام، والثانية همزة الوصل. والقاعدة: أن همزة الوصل إذا كانت همزة (أل) وجاءت قبلها همزة الاستفهام، أن همزة الوصل تُبدل مدّاً بهمزة الاستفهام (٢)، ويجوز تسهيلها بين بين، وبعضهم
_________
(١) ديوان امرئ القيس ص١٧١.
وقوله: (جلتها) أي: كُبراها. والمعنى: إذا لم يكن في اليد إبل مقتناة فإن الاجتزاء بالمعزى فيه سداد من عوز.
(٢) انظر: الكتاب لسيبويه (٣/ ٥٥١)، الإقناع لابن الباذش (١/ ٣٥٩)، المُوضح لابن أبي مريم (١/ ١٩١)، النشر (١/ ٣٦٢) فما بعدها، الكليات ص ٢٠ - ٢١، ٩٥٦، معجم الإعراب والإملاء ص ٢٨، الهمزة في الإملاء العربي ص ٢٢ - ٢٤.
فهو يقولُ للشيءِ كُنْ فَيَكُونُ (١). هذا معنَى قولِه: ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ [الأعراف: آية ٥٤].
قال بعضُ العلماءِ: الستةُ أَصْلُهَا (سِدْسَة) أُبْدِلَتِ الدالُ تاءً وَأُدْغِمَتْ في التاءِ (٢). قالوا: وَتُصَغَّرُ الستةُ على (سُدَيْسَة) ردًّا لها لأصلها. وعلى كُلِّ حالٍ فالستةُ العددُ المعروفُ، وهو الثلاثةُ مرتين كما هو معروفٌ.
﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف: آية ٥٤] العرشُ يُطْلَقُ في اللغةِ إطلاقاتٍ متعددةً (٣) مِنْ أَشْهَرِهَا في القرآنِ: سريرُ الْمُلْكِ (٤). فالعرشُ سريرُ المُلْكِ، سريرُ المَلِك الذي يُعَدُّ له تسميه العربُ عَرْشًا، ومنه سريرُ ملكةِ سبأٍ في قولِه: ﴿أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ وقولُه: ﴿أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ﴾ [النمل: آية ٤٢].
وقولُه: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ ﴿ثُمَّ اسْتَوَى﴾ جل وعلا: ﴿عَلَى الْعَرْشِ﴾ وهذه صفةُ الاستواءِ ونحوها من آياتِ الصفاتِ ارْتَبَكَ فيه
_________
(١) انظر: القرطبي (٧/ ٢١٩)، البحر المحيط (٤/ ٣٠٧).
(٢) انظر: القرطبي (٧/ ٢١٨)، الدر المصون (٥/ ٣٣٩)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص ١٣٩. وقد وقع للشيخ (رحمه الله) هنا سبق لسان، وصواب العبارة - كما في المصادر المذكورة هنا - أن يقال «أُبدلت السين تاء، وأُدغمت في الدال».
(٣) انظر: القرطبي (٧/ ٢٢٠)، الدر المصون (٥/ ٣٤٠).
(٤) في الأصل قال الشيخ (رحمه الله) بعد هذه الكلمة: «وإنما أُطلق على السُّقُف». ثم قال بعدها: «فالعرش سرير... » إلخ، فصنيعه يُشعر أنه تراجع عن العبارة السابقة، ولذا لم أُثبتها. والله أعلم.
العرب، ومنه قول عمرو بن الفضفاض الجهني (١):
لاَ تَجْهَمينَا أُمَّ عَمْرٍو فَإِنَّمَا بِنَا دَاءُ ظَبْيٍ لمْ تخُنْهُ عوامِلُه
ومن هذا المعنى قول مسلم بن الوليد الأنصاري، وإن كان شعره يصلح مثالاً لا شاهدًا لتأخر وقته (٢):
شَكَوْتُ إِلَيْهَا حُبَّهَا فَتَبَسَّمَتْ... ولَمْ أَرَ شَمْسًا قَبلَهَا تَتَبَسَّمُ...
فَقُلْتُ لهَا جُودِي فأَبْدتْ تَجَهُّمًا لِتَقْتُلَنِي يَا حُسْنها إذ تَجَهَّمُ
وهذا معنى قوله: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا﴾ أي: خلقنا ﴿لِجَهَنَّمَ﴾ أي: لصيرورتهم إلى النار يوم القيامة ﴿كَثِيرًا﴾ خلقًا كثيرًا ﴿مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ﴾ لأن الجن يدخلون النار بلا خلاف إذا عصوا الله كما قالوا: ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٣١)﴾ [الأحقاف: آية ٣١] ولا خلاف بين العلماء أن النبي ﷺ مرسل للإنس والجن، وأن كفار الجن يدخلون النَّار، وإنما اختلفوا في المؤمنين من الجن هل يدخلون الجنة أو لا يدخلونها (٣)؟ فشَذَّ قوم وقالوا: إن المؤمنين من الجِنِّ لا يدخلون الجنة وإنما جزاؤهم الإجارة من النار، واستدلوا لهذا بدليل لا ينهض، وهو ظاهر قوله تعالى: ﴿أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ قالوا: دلت الآية على أن إجابتهم داعي الله والإيمان به إنما ينالون منها غفران الذنوب والإجارة من العذاب دون دخول الجنة. والظاهر أن المؤمنين من
_________
(١) البيت في اللسان (مادة: جهم) (١/ ٥٢٤)، الأضواء (٢/ ٤٧٣).
(٢) البيتان في ديوانه ص١٤٣، وهما في الأضواء (٢/ ٤٧٣).
(٣) راجع ما سبق عند تفسير الآية (٣٨) من سورة الأعراف.
سَالِمًا من البلايا التي وَقَعَ فيها الناسُ الذين أَكْثَرُوا الخوضَ في ذلك بِقِيلٍ وَقَالَ.
وإيضاحُ مذهبِ السلفِ في آياتِ الصفاتِ كما بَيَّنَهُ القرآنُ وَأَوْضَحَهُ هذا المحكمُ المنزلُ أنه يتأسسُ على ثلاثةِ أصولٍ مَنْ جاء بها كاملةً لَقِيَ اللَّهَ سَالِمًا، وَمَنْ أَخَلَّ بواحدٍ منها أوقعَ نفسَه في بليةٍ فلا يدري هل يتخرجُ منها أو لا (١)؟
أَوَّلُ هذه الأسسِ: هو الأساسُ الأعظمُ للتوحيدِ، والحجرُ الأساسيُّ لمعرفةِ اللَّهِ على طريقٍ صحيحٍ، هذا الأساسُ الأعظمُ هو: أن يعتقدَ الإنسانُ أن خالقَ السماواتِ والأرضِ مُنَزَّهٌ عن مشابهةِ جميعِ خَلْقِهِ في جميعِ صفاتِهم وأفعالِهم وذواتِهم، فالخلقُ صنعةٌ، والخالقُ (جلَّ وعلا) صانعٌ ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النمل: آية ٨٨] والصنعةُ لاَ تُشْبِهُ صانعَها، فَمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ فَهْمَ هذا الأساسِ عن الله، وَعَلِمَ أن الخلائقَ صنعةٌ، وأن خالقَهم هو صانعُهم وَمُدَبِّرُهُمْ ومنشئُهم عَلِمَ أنه لاَ مناسبةَ بينَ صفاتِه وصفاتِهم، وأنه مُنَزَّهٌ كُلَّ التنزيهِ، مقدسٌ كُلَّ التقديسِ عن مشابهةِ خَلْقِهِ، لا في ذواتِهم، ولا في صفاتِهم، ولا في أفعالِهم. هذا الأساسُ الأعظمُ، فَمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ هذا الأساسَ، وَفَهِمَهُ عن اللَّهِ، وَطَهَّرَ قلبَه من أدرانِ التشبيهِ، وأقذارِ التمثيلِ، كان يهونُ عليه بعد ذلك أن يُصَدِّقَ اللَّهَ فيما وَصَفَ به نفسَه، ويؤمنَ بصفاتِ اللَّهِ على الوجهِ اللائقِ بكمالِه وجلالِه (٢).
_________
(١) راجع ما تقدم عند تفسير الآية (٥٢) من سورة الأنعام.
(٢) وهذا هو الأساس، والأصل الثاني من الأصول الثلاثة المُشار إليها.


الصفحة التالية
Icon