قولُه: ﴿وَأَصْلَحَ﴾ دليلٌ على أن التوبةَ ليست قولاً باللسانِ مع الرجوعِ للمعاصِي، هذا ليس كما ينبغي، بل يتوبُ توبةً نصوحًا، ثم بعدَ ذلك يُصْلِحُ ولا يرجعُ لِمَا كان يعملُ من السوءِ، وَحَذَفَ مفعولَ (أصلح) لقصدِ التعميمِ، وأصلحَ جميعَ أقوالِه وأفعالِه وَنِيَّاتِهِ وقصدِه، فلم يَفْعَلْ إلا طَيِّبًا.
والتوبةُ عندَ العلماءِ تتركزُ على ثلاثةِ أُسُسٍ (١)، إذا اجتمعت كُلُّهَا
فالتوبةُ نصوحٌ، وإذا اخْتَلَّ واحدٌ منها فليست بتوبةٍ نصوحٍ:
أولُها: أن يُقْلِعَ عن الفعلِ إن كان مُتْلَبِسًا به.
والثاني: أن يندمَ على الفعلِ الذي صَدَرَ منه ندمًا شديدًا وَيَأْسَفَ.
والثالثُ: أن ينويَ أن لا يعودَ إلى الذنبِ حتى يعودَ اللَّبَنُ في الضرعِ.
ومعلومٌ أن التوبةَ واجبةٌ بإجماعِ المسلمين من كُلِّ ذنبٍ يَجْتَرِمُهُ الإنسانُ، وتأخيرُها ذنبٌ يحتاجُ إلى توبةٍ، واللَّهُ أَمَرَ بها أمرًا صَارِمًا، قال: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: آية ٣١] وقولُه: ﴿تُوبُوا﴾ صيغةُ أَمْرٍ واجبةٌ، فالتوبةُ واجبةٌ من كُلِّ ذنبٍ بإجماعِ المسلمين. وقد بَيَّنَ (جل وعلا) أنها مظنةٌ لغفرانِ الذنوبِ حيث قال جل وعلا: ﴿تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا﴾ وَأَتْبَعَ ذلك بقولِه: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [التحريم: آية ٨] فـ (عَسَى) من الله عظيمةٌ تدلُّ على أن مَنْ تَابَ توبةً نصوحًا كَفَّرَ اللَّهُ عنه سيئاتِه.
_________
(١) انظر: القرطبي (٥/ ٩١).
يُجيز إبدالها هاء. وزعم بعض علماء القراءات أن الذين مدّوها هنا قالوا: ﴿ءَآلذَّكَرَيْنِ﴾ أنهم جاءت عنهم قراءات بتسهيلها بين بين ﴿ءَآلذَّكَرَيْنِ﴾ وعلى تسهيلها لم يكن بينهما أَلِف الإدخال؛ لأن الأَلِف في التسهيل بين بين إنما يأتي بالهُمَز المحققة. ومن تسهيل العرب لهمزة الوصل بعد همزة الاستفهام قول الشاعر (١):
أَيَا ظَبيةَ الوَعْساء بين جُلاجلٍ | وبين النقا آأنتِ أَمْ أُمُّ سالمِ |
أَيَا ظَبيةَ الوَعْساء بين جُلاجلٍ | وبين النقا آأنتِ أَمْ أُمُّ سالمِ |
أَأَلْحَقُّ إنْ دارُ الرَّبابِ تباعَدَتْ | أو انْبَتَّ حبْلٌ أنَّ قَلْبَكَ طائِر |
_________
(١) البيت لذي الرمة. وهو في الكتاب (٣/ ٥٥١)، الأمالي (٢/ ٥٨)، الدر المصون (١/ ١١٠).
(٢) البيت لعمر بن أبي ربيعة. وهو في الكتاب لسيبويه (٣/ ١٣٦)، النشر (١/ ٣٧٧).
عقولُ كثيرٍ من الناسِ، وَضَلَّ فيه من الخلقِ المنتسبين للعلمِ، بل والذين عندَهم علمٌ وعقولٌ ما لاَ يُحْصِيهِ كثرةً إِلاَّ اللَّهُ (جل وعلا). ونحنُ نوضحُ لكم المقامَ في عقيدةِ السلفِ الصحيحةِ التي كان عليها رسولُ اللَّهِ ﷺ وأصحابُه والسلفُ الصالحُ، وهي العقيدةُ الكريمةُ الصافيةُ من شوائبِ التشبيهِ والتعطيلِ، لا تشوبُها شائبةُ تشبيهٍ ولا تشوبُها شائبةُ تعطيلٍ، ونحنُ نوضحُ هذا في ضوءِ القرآنِ العظيمِ.
وإيضاحُ ذلك أن تَعْلَمُوا - أيها الإخوانُ - أن اللَّهَ (تَبَارَكَ وتعالى) أَوْضَحَ في كتابِه هذا القرآنِ العظيمِ الذي هو أصلُ الْهُدَى، ومنبعُ اليقينِ، ونورُ المعرفةِ والعلمِ، بَيَّنَ فيه أن الْمُعْتَقَدَ المُنجي في آياتِ الصفاتِ الذي يأتي صاحبُه يومَ القيامةِ سَالِمًا من بلايا التشبيهِ وبلايا التعطيلِ هو مُركَّزٌ على ثلاثةِ أُسس (١)، نُوصِيكُمْ وأنفسَنا بتقوى اللَّهِ، وأن تعتقدوا هذه الأسسَ الثلاثةَ الكبارَ، فتنجيكم أمامَ اللَّهِ من بلايا هذا المأزقِ الذي ضَلَّ فيه من الخلقِ ما لاَ يُحصى.
هي ثلاثةُ أُسُسٍ عظام مَنْ جَاءَ بها ولقي اللَّهَ عليها لَقِيَهُ سَالِمًا على بصيرةٍ مِنْ رَبِّهِ، عاملاً بنورِ القرآنِ العظيمِ، وَمَنْ أَخَلَّ بواحدٍ منها فَقَدْ أَدْخَلَ نفسَه في مهواةٍ.
وهذه الأسسُ الثلاثةُ نُوَضِّحُهَا لكم في ضوءِ القرآنِ العظيمِ:
الأولُ منها، وهو أساسُ العقيدةِ، والحجرُ الأساسيُّ لمعرفةِ اللَّهِ معرفةً صحيحةً، وللعقيدةِ التي هي على أساسٍ سماويٍّ صحيحٍ. هذا الأساسُ المذكورُ هو تنزيهُ خالقِ السماواتِ والأرضِ - جل وعلا - عن أن يشبهه شيءٌ من خَلْقِهِ؛ لا فِي ذواتِهم ولا في صفاتِهم،
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٢) من سورة الأنعام.
الجن يدخلون الجنَّة كالمؤمنين من الإنس، وقد دلت على هذا آيات من كتاب الله قال تعالى: ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ﴾ [الرحمن: آية ٥٦] فَفُهم منه أن في الجنة جانًّا يطمثون النساء. ومن أصرح الأدلة -أن الجن يدخلون الجَنَّة- قوله تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (٤٦)﴾ [الرحمن: آية ٤٦] فهذا شامل للإنس والجن يقينًا بدليل قوله بعده مخاطبًا للجن والإنس: ﴿فَبِأَيِّ آلاَء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٣)﴾ [الرحمن: آية ١٣] وهذا نصٌّ قرآني لم يقم ما يعارضه فلا ينبغي العدول عنه. وهذا معنى ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ﴾ [الأعراف: آية ١٧٩].
ثم إنه تعالى ذكر صفات الكفار الأشقياء الذين سبق في علم الله أنه خلقهم للنّار، وأنهم يعملون بعمل أهل النار، ذكر صفاتهم الكاشفة قال: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ﴾ بين أنه خلق لهم قلوبًا، وخلق لهم أعينًا، وخلق لهم آذانًا، إلا أنهم لا يفقهون بقلوبهم الحق، ولا يبصرون بأعينهم الحق، ولا يسمعون بآذانهم الحق والعياذ بالله كما قال تعالى عنهم: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْء إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ الآية [الأحقاف: آية ٢٦] ولذا قال: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا﴾ [الأعراف: آية ١٧٩] القلوب: جمع قلب، وهو عضو من الإنسان معروف يزعمون أنه على هيئة حَبّ الصنوبر.
وقوله: ﴿لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ الفقه في لغة العرب معناه: الفهم والإدراك، أي: لا يفهمون بهذه القلوب عن الله؛ لأن الله لمْ ينفعهم بها (والعياذ بالله)، كما قال: ﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ﴾ [الأحقاف: آية ٢٦] ونفيه الفقه عن
وهذا الذي أقولُه لكم ليس من تلقاءِ نَفْسِي بل هو من تعليمِ خالقِ السماواتِ والأرضِ في المحكمِ الْمُنَزَّلِ الذي هو أعظمُ كتابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ على أشرفِ رسولٍ؛ لأن اللَّهَ يقولُ فيه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: آية ١١] فَوَضْعُ الأساسِ الأولِ الذي هو أساسُ التنزيهِ ومخالفةُ الخلقِ في ذواتِهم وصفاتِهم وأفعالِهم بقولِه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: آية ١١] ثم وَضَعَ بعدَه الأساسَ الثانيَ وهو الإيمانُ بصفاتِ اللَّهِ على أساسِ ذلك التنزيهِ، لاَ إيمانًا دَنِسًا وَسِخًا ذَاهِبًا إلى صفاتِ الخلقِ، لا.. لا.. لا، بل هو إيمانٌ مُنَزَّهٌ مَبْنِيٌّ على أساسِ التنزيهِ. وقولُه: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ بَعْدَ قولِه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ فيه سِرٌّ أَعْظَمُ، ومغزًى أكبرُ، وتعليمٌ عظيمٌ من رَبِّ العالمين، كأنه يقولُ لَكَ: تَعَقَّلْ يا عبدي وَتَفَهَّمْ، ولا تَنْفِ عَنِّي سمعي وبصري بدعوى أن المخلوقاتِ تسمعُ وَتُبْصِرُ، وأن إثباتَ ذلك فيه تشبيهٌ، لا.. لا.. ، رَاعِ في إثباتِ السمعِ والبصرِ أولَ الآية، وَابْنِهِ على نَفْيِ المماثلةِ والمخالفةِ، وَارْبِطْ أولَ الآيةِ بِآخِرِهَا، فأولُها تنزيهٌ، وآخرُها إيمانٌ بالصفاتِ على أساسِ ذلك التنزيهِ، فلا تَقْطَعْ أولَ الآيةِ من آخرِها، ولاَ آخرَها من أولِها، بل ارْبِطْ بينَهما، ولا تَقُلْ: المخلوقاتُ تسمعُ وتبصرُ، وإثباتُ السمعِ والبصرِ لله تَشْبِيهٌ. لا، أَثْبِتِ السمعَ والبصرَ، ولكن إثباتًا مبنيًّا على ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ لا إثباتًا وسخًا نَجِسًا قذرًا ذاهبًا إلى صفاتِ الخلقِ، لاَ.. لاَ، فأولُ الآيةِ تنزيهٌ بلا تعطيلٍ، وآخرُها إيمانٌ بالصفاتِ وإثباتٌ لها بِلاَ تمثيلٍ.