وَاعْلَمُوا أن العلماءَ مُطْبِقُونَ على أن التوبةَ تتركزُ على هذه الأشياءِ الثلاثةِ: الإقلاعِ عن الذنبِ إن كان مُتْلَبِسًا به، والندمِ على فعلِ الذنبِ، ونيةِ أن لا يعودَ إلى ذلك الذنبِ.
ومعروفٌ أن في أركانِ التوبةِ - هذه - إشكالاتٌ وسؤالاتٌ معروفةٌ عند العلماءِ (١)، منها: أن الندمَ ركنٌ من أركانِ التوبةِ بالإجماعِ، والتوبةُ واجبةٌ بالإجماعِ، وَرُكْنُ الواجبِ واجبٌ، فالندمُ على الذنبِ واجبٌ إِجْمَاعًا، وهذا مِمَّا لا خلافَ فيه، وَمَحَلُّ الإشكالِ في هذا الركنِ من أركانِ التوبةِ هو أن يقولَ المُسْتَشْكِلُ: أما الندمُ فإنه ليس من أفعالِ الإنسانِ الاختياريةِ، وإنما هو انفعالٌ وَتَأَثٌّرٌ نفسانيٌّ، والانفعالاتُ والتأثراتُ النفسانيةُ ليست تحتَ قدرةِ البشرِ، وليست من أفعالِ البشرِ، وليست مِنْ عَمَلِ البشرِ باختيارِهم حتى يُطلقَ عليها أنها واجبةٌ، ونحن نشاهدُ هذا، ترى الرجلَ البائعَ المغبونَ إذا باعَ وغُبِنَ في بيعِه غَبْنًا شديدًا تراه في شدةِ الندمِ، وهو يتجلدُ ويحاولُ أن يدفعَ الندمَ عن نفسِه فلا يستطيعُ، فهذا يُبَيِّنُ أن الندمَ ليس من الأفعالِ الاختياريةِ، وإنما هو انفعالٌ، وتأثرٌ نفسانيٌّ، وترى الرجلَ - والعياذُ بالله - إذا كان يعشقُ امرأةً جميلةً بارعةً في الجمالِ، إذا نال منها قُبْلَةً، إذا أراد أن يتندمَ يتخيلُ له خيالُ ذلك الجمالِ فينبسطُ إليه قلبُه، ولا يستطيعُ الندمَ؛ فَلِذَا كُنَّا نعاينُ الرجلَ قد يريدُ أن يندمَ ولا يندمُ، وقد يريدُ أن لا يندمَ فيندمُ، فالندمُ انفعالٌ نفسانيٌّ، وتأثرٌ ليس من الأفعالِ الاختياريةِ، فكيف نقولُ: إنه واجبٌ، وإنه ركنٌ للواجبِ؟ هذا السؤالُ الأولُ.
_________
(١) انظر: الأضواء (٦/ ٢٠٦).
اللازم أن يحرم كل ذكر لاطراد العلّة، وإن كانت الأنوثة لزم أن تحرم كل أنثى لاطراد العلّة، وإن كان كونه في البطون - مشتملة عليه الرحم - لزم أن يحرم كل مولود من ذكر وأنثى، وكل لبن؛ لأن الكُلّ اشتملت عليه الرحم!! فكأنه يقول: تفريقكم هذا باطل؛ لأنه لو كانت العلة الذكورة لحرم ذكر الضأن والمعز معًا وأنثاهما كُلاًّ، ولو كانت التخلق في الرحم لحرم ما اشتملت عليه الرحم مطلقًا، فَلِمَ حَرَّمْتُم بعض هذا، وحللتم بعض هذا؟ وما الفارق بين ما حللتم وحرمتم؟
ثم قال: ﴿وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ﴾ الجمل والناقة، ﴿وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ﴾ البقرة والثور، ثم أعاد القضية ﴿قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ﴾ عجّزهم في الأول، فقال: ﴿نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ﴾ أخْبِرُونِي عن هذا الذي حَرَّمْتُمْ، وهذا الذي حللتم، ما وجه تحريمكم لهذا وتحليلكم لهذا مع استواء الجميع؟! وقال في الثاني: ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا فَمَنْ﴾؟
وآية الأنعام هذه مثال معروف لِعُلَمَاءِ الجَدَلِ للدليل الذي يسميه الجدليون: (الترديد والتقسيم) (١)، ويسميه المنطقيون: (الشَّرْطي المُنْفَصل) (٢) ويسميه الأصوليون: (السبر والتقسيم) (٣)،
_________
(١) انظر: الكافية في الجدل ص ٣٩٤، علم الجذل في علم الجدل للطوفي ص٦٠، الإيضاح لابن الجوزي ص٨٠، الجدل لابن عقيل ص ١٩، البحر المحيط للزركشي (٥/ ٢٢٥)، القبس لابن العربي (٣/ ١٠٧٠) وفي المصدرين الأخيرين تجد النص على هذه الآية.
(٢) انظر: إيضاح المبهم للدمنهوري ص٩٠، تسهيل المنطق ص٤٣.
(٣) انظر: شرح الكوكب المنير (٤/ ١٤٢)، المذكرة في أُصول الفقه ص٢٥٧.
ولا أفعالِهم. وكيف يخطرُ في ذهنِ العاقلِ أن الخالقَ - جل وعلا - يُشْبِهُهُ شيءٌ من خَلْقِهِ في الذاتِ أو الصفاتِ أو الأفعالِ؟ لأن جميعَ الخلائقِ صَنْعَةٌ من صُنْعِه - جل وعلا - ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النمل: آية ٨٨] والصنعةُ لاَ يمكنُ أن تُشْبِهَ صانعَها بحالٍ؛ لأنه هو الذي أَبْرَزَهَا من [العدمِ إلى الوجودِ] (١)، واخترعَها بعدَ أن لم تكن شيئًا. فكيف يخطرُ في ذهنِ عاقلٍ أن تكونَ تُشْبِهُهُ؟ هذا مما لا يخطرُ في الأذهانِ السليمةِ، وَأَحْرَى الأذهان الممتلئة بنورِ الوحيِ؛ فأساسُ التوحيدِ الأكبرُ، وأساسُه الأعظمُ، هو تنزيهُ خالقِ السماواتِ والأرضِ - جل وعلا - عن مشابهةِ خَلْقِهِ؛ لأَنَّ الخلقَ صنعةٌ من صنائعِه، والصنعةُ لاَ تُشْبِهُ صانعَها. فعلينا أولاً أن نطهرَ قلوبَنا من أقذارِ التشبيهِ، وأنجاسِ التشبيهِ، وأدرانِ التشبيهِ، ونجزمَ جَزْمًا بَاتًّا قاطعًا أن الوصفَ إذا أُسْنِدَ إلى الله، وَوُصِفَ به اللَّهُ في كتابٍ أو سُنَّةٍ صحيحةٍ فإن ذلك الوصفَ بالغٌ من غاياتِ الكمالِ والجلالِ ما يقضي على جميعِ الوساوسِ، ويقطعُ علائقَ أوهامِ المشابهةِ بينَه وبينَ صفاتِ المخلوقين، وتجزمُ قلوبُنا بأن الخلقَ صَنْعَةٌ والخالقَ صانعٌ، ولا مناسبةَ بين الصنعةِ وصانعِها، لا في الذاتِ، ولاَ في الصفاتِ، ولاَ في الأفعالِ.
وهذا الأساسُ الأكبرُ للعقيدةِ التي هي عقيدةُ السلفِ في آياتِ الصفاتِ وأحاديثِها الذي هو التنزيهُ الكاملُ، وتقديسُ صفاتِ خالقِ السماواتِ والأرضِ وتعظيمُها وإكبارُها وإجلالُها عن أن تُشْبِهَ شيئًا من صفاتِ المخلوقين أو ذواتِهم أو أفعالِهم، سبحانه وتعالى عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا. هذا الأَسَاسُ الأعظمُ في ضوءِ قولِه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: آية ١١]
_________
(١) في الأصل: «من الوجود إلى العدم» وهو سبق لسان.
القلوب يدل كما ذكرنا مرارًا (١) على أن مركز العقل هو القلب لا الدماغ كما يقوله الإفرنج، ومما يؤسفنا أن عامة المسلمين لا يكاد في الوقت الحاضر- لجهلهم - لا يكاد يختلف من عامتهم اثنان في أن العقل في الدماغ. ويقولون: هذا ليس له مخ. يعنون: ليس له دماغ، قاطعين بأن العقل في الدماغ، والله يصرح بأن العقل في القلب. ولا شك أن الذي خلق نور العقل وجعله في العبد ونوَّره به هو أعلم بالموضع الذي وضعه فيه مِنْ كَفَرَةِ الإفْرِنْج -قبَّحهم الله- ومن فلسفتهم الكاذبة. فالذي يقول: ليس الفقه في القلوب كالذي يقول: ليس الإبصار بالعيون، وليس السماع بالآذان؛ لأن الله قال: ﴿قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا﴾ ﴿أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا﴾ ﴿آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾ فدل على أن الإبصار بالعين، والسماع بالأذن، والفقه بالقلب.
وهذا أمر معروف لا تكاد تحصي الآيات الدالة عليه في القرآن؛ ولذا قال تعالى: ﴿قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا﴾ الله (جل وعلا) نفى عنهم الفقه بتاتًا. أي: الفهم، ونفى عنهم الإبصار، ونفى عنهم السماع، والمراد بهذا كما دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله: أن الفقه المنفي هو الفقه عن الله النافع الذي يوصل لطاعة الله والإيمان به، والإبصار المنفي: هو إبصار الآيات النافع الذي يرشد صاحبه إلى الإيمان، والسماع المنفي: هو السماع النافع الذي يسمع صاحبه به ما ينفعه. وهذا أسلوب من أساليب اللغة العربية؛ لأن القرآن العظيم نزل بلسان عربي مبين، ومن أساليب اللغة العربية: أنهم يطلقون الصمم على السماع الذي لا جدوى فيه،
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٧٥) من سورة البقرة.
الأصلُ [الثالثُ] (١) من هذه الأصولِ الثلاثةِ: هي أن يعلمَ الإنسانُ قَدْرَهُ، ويقفَ عند حَدِّهِ؛ لأن خالقَ السماواتِ والأرضِ أعظمُ وأجلُّ وأكبرُ من أن تحيطَ به العقولُ المخلوقةُ المسكينةُ، واللَّهُ يقولُ: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (١١٠)﴾ [طه: آية ١١٠] فَنَفَى الإحاطةَ للعلمِ البشريِّ عن خالقِ السماواتِ والأرضِ نَفْيًا بَاتًّا.
فَمَنْ لَقِيَ اللَّهَ وهو متمسكٌ بهذه الأسسِ الثلاثةِ في ضوءِ كتابِ اللَّهِ لَقِيَهُ في سلامةٍ وفي غيرِ ندامةٍ. ونحن الآنَ في طريقِنا في إسراعٍ وحثٍّ إلى الوقوفِ بين يَدَيِ اللَّهِ (جلَّ وعلا)؛ لأن هذه اللحظاتِ والدقائقَ والثوانيَ يظنُّ الجاهلُ أنها هادئةٌ، وأنها واقفةٌ، وهي تقطعُ بنا آلافَ الأميالِ إلى المحشرِ، فَعَنْ قريبٍ ونحن قائمونَ بين يَدَيِ اللَّهِ في صعيدٍ واحدٍ، ينفذنا البصرُ ويسمعنا الداعي، ويسألنا اللَّهُ، وَاللَّهُ يقولُ: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦)﴾ [الأعراف: آية ٦] ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (٩٢) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣)﴾ [الحجر: الآيتان ٩٢، ٩٣] فَيُوشِكُ أن يقولَ لنا: ماذا كان موقفُكم من صفاتِي التي كنتُ أُثْنِي بها على نَفْسِي في كتابِي، ويثنِي بها عَلَيَّ رَسُولِي صلى الله عليه وسلم؟
[ولا يقولُ لكَ اللَّهُ: لِمَ نَزَّهْتَنِي عن مشابهةِ خَلْقِي؟ لاَ وَاللَّهِ، لا يقولُ لكَ ذلك] (٢) [٣/ب] / أبدًا بل تنزيهُ رَبِّ السماواتِ عن مشابهةِ خَلْقِهِ في ذواتِهم وصفاتِهم وأفعالِهم طريقُ سلامةٍ محققةٍ لاَ شَكَّ فيه، ولا
_________
(١) في الأصل: «الثاني»، وهو سبق لسان.
(٢) في هذا الموضع وقع مسح في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها المعنى.


الصفحة التالية
Icon