والجوابُ عن هذا هو ما حَقَّقَهُ بعضُ العلماءِ من أن الندمَ لا يعجزُ عنه الإنسانُ إلا إذا كان مُسْتَرْسِلاً مع النفسِ، مُحَابِيًا لها فيما [لا] ينبغي (١)؛ لأن أسبابَ الندمِ قائمةٌ بكثرةٍ، متوفرةٌ كُلَّ التَّوَفُّرِ، وَمَنْ أَخَذَ بالأسبابِ كان في استطاعتِه حصولُ المسببِ (٢)، ذلك لأن عامةَ العقلاءِ يُطْبِقُونَ على أن الإنسانَ إذا قُدِّمَ إليه شرابٌ في غايةِ الحلاوةِ واللذاذةِ، لا يوجدُ شرابٌ أَحْلَى منه، ولا أَلَذَّ، إلا أن هذا الشرابَ فيه سُمٌّ قَاتِلٌ فَتَّاكٌ، فعامةُ العقلاءِ لاَ يَسْتَحْلُونَ حلاوةَ هذا الشرابِ، ولا يَلْتَذُّونَ بِلَذَّتِهِ؛ لِمَا فيه من السمِّ القاتلِ الفتاكِ، وحلاوةُ المعاصي - أَعَاذَنَا اللَّهُ والمسلمين منها - تَنْطَوِي على السمِّ القاتلِ الفتاكِ، وهو سخطُ رَبِّ العالمين وغضبِه (جل وعلا)؛ لأن الإنسانَ لا يدري إذا سَخِطَ عليه رَبُّهُ أن يهلكَه في وقتِه، ثم يجعله في عذابٍ، فإذا عَرَفَ الإنسانُ أن حلاوةَ المعاصِي تنطوي على السمِّ القاتلِ الفتاكِ مِنْ سَخَطِ رَبِّ العالمين، وألزمَ نفسَه بالحقائق، وعرفَ أنه تَعَرَّضَ لسخطِ خالقِ السماواتِ والأرضِ بلذةٍ فانيةٍ، تَنْطَوِي على السمِّ الفتاكِ من سخطِ رَبِّ العالمين، فالعاقلُ إذا أَخَذَ هذه الأسبابَ على حقيقتِها، ولم يُجَامِلْ نفسَه، ولم يُحَابِهَا، لا بد أن يندمَ، فبسببِ كونِ أسبابِ الندمِ متيسرةً، متوفرةً قائمةً، وأن مَنْ أَخَذَ بالأسبابِ غالبًا يُحَصِّلُ المُسَبَّبَ، من هنا قِيلَ: إن الندمَ واجبٌ من هذه الحيثيةِ.
الثاني: أن الإنسانَ قد يتوبُ إلى اللَّهِ توبةً نصوحًا، ويحاولُ الإقلاعَ عن الذنبِ، ولكنه يكونُ تمادي فعله الأول متماديا (٣) لا يقدرُ
_________
(١) ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق.
(٢) انظر: البرهان للزركشي (٢/ ٢٠٣ - ٢٠٤)، قواعد التفسير (٢/ ٧٨٤).
(٣) أي: أن تأثيره باق مستمر.
فكأنه يقول: حرمتم بعض هذه الإناث، وحللتم بعضها، وحرمتم بعض الذكور، وحللتم بعضها، وفرقتم بين ما في بطون الأنعام فقلتم: إنه خالص للذكور، محرم على الأزواج، فرقتم بين هذه الأحكام، فلا يخلو تفريقكم بينها من أحد أمرين في التقسيم الصحيح: إما أن يكون مُعَلّلاً بعلة معقولة، وإما أن يكون تعبديًّا.
وهذا الحصر هو المُعَبَّر عنه بالتقسيم في اصْطِلَاح الأصوليين والجَدَلِيين، والمُعَبَّر عنه بالشرطي المنْفَصِل في اصطلاح المنطقيين، فكأنه يقول: لا يخلو الحال من أمرين: إما أن يكون مُعَللاً، وإما أن يكون تعبديّاً. ثم قال - مثلًا - بناءً على أنه مُعلل: إما أن تكون العلة في الذكور: الذكورة، وفي [الإناث] (١): الأنوثة، أو التخلق في الرحم، فلو كانت العلة الذكورة لحرم كل ذكر، ولم يحرم الحَامَ دون غيره من الذكور، ولو كانت العلة الأنوثة لحرمت كل أنثى، ولم يختص بالبحيرة والسائبة والوصيلة، ولو كانت العلة اشتمال الرحم، لحرم الجميع، وحرم اللبن أيضًا الذي فَرَّقْتُمْ فيه، فحرم الجميع.
ثم قال بناء على أنه تعبُّدِيٌّ أبطله بقوله: ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ﴾ أم كنتم حاضرين حتى قال لكم الله: هذا حلال وهذا حرام؟ فهذا باطل أيضًا، فبين أن جميع دعاويهم أنها باطلة كلها بهذا الدليل الذي هو السبر والتقسيم، وقد بَيَّنَّا أن هذا الدليل من أمهات الجدل العظام،
_________
(١) في الأصل: «الأنوثة».
﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (٤)﴾ [الإخلاص: آية ٤] ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: آية ٥٦] ﴿فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ﴾ [النحل: آية ٧٤] فإذا رَزَقَ اللَّهُ العبدَ فَهْمَ هذا الأساسِ الأكبرِ، والحجرِ الأساسيِّ للعقيدةِ الصحيحةِ، وكان قلبُه قلبًا طاهرًا من أقذارِ التشبيهِ، مُنَزِّهًا لخالقِ السماواتِ والأرضِ كما ينبغي، جازمًا بأن الخلقَ صَنْعَتُهُ، وأن الصنعةَ لاَ تُشْبِهُ صانعَها بحالٍ، فإذا كان قلبُ المؤمنِ طاهرًا واعتقدَ اعتقادًا جازمًا باتًّا بأن صفةَ اللَّهِ منزَّهة عن مشابهةِ صفاتِ خَلْقِهِ كتنزيهِه ذاتَه عن مشابهةِ ذواتِ خَلْقِهِ - إذا استحكم هذا الأساسُ العظيمُ في قلبِ المؤمنِ - فالأساسُ الثاني: هو أَنَّا كُلاًّ علينا أن نصدقَ اللَّهَ فيما أَثْنَى به على نفسه، ونصدقَ سيدنا محمدًا ﷺ فيما أَثْنَى به على رَبِّهِ؛ لأن اللَّهَ أصدقُ مَنْ يقولُ: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً﴾ [النساء: آية ١٢٢] ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ [النساء: آية ٨٧] ﴿أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ [البقرة: آية ١٤٠] فإذا مَدَحَ اللَّهُ نفسَه بوصفٍ كريمٍ في كتابِه، أو مَدَحَهُ رسولُه الصادقُ الأمينُ الذي قال في حَقِّهِ: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (٤)﴾ [النجم: الآيتان ٣، ٤] فعلينا أن لا نُكذِّبَ اللَّهَ، ولا نُكذِّبَ رسولَه، ولا نَنْفِيَ ما أَثْبَتَهُ اللَّهُ لنفسِه، ولا ننفيَ ما أثبتَه الصادقُ الأمينُ ﷺ لِرَبِّهِ، ولكن علينا أن نؤمنَ بذلك الوصفِ الذي مَدَحَ اللَّهُ به نفسَه، أو مَدَحَهُ به الصادقُ الأمينُ صلى الله عليه وسلم، ولكنَّ ذلك
الإيمانَ إيمانٌ مبنيٌّ على أساسِ التنزيهِ وعدمِ مشابهةِ الخلقِ؛ لأَنَّ الخلقَ لا يمكنُ أن يُشْبِهُوا خالقَهم.
وهذا التعليمُ العظيمُ الذي هو تنزيهُ اللَّهِ - جل وعلا - عن مشابهةِ الخلقِ. ثم إذا طَهُرَتِ القلوبُ من أقذارِ التشبيهِ يتبعُ ذلك الإيمانُ بالصفاتِ الثابتةِ بالقرآنِ العظيمِ والسنةِ الصحيحةِ إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ ذلك التنزيهِ.
فإذا كان الإنسان لا ينتفع بسمعه انتفاعًا صحيحًا يقولون: «هذا أصم» وهو يسمع. وهذا أسلوب معروف في كلامهم، ومنه قول قَعنب بن أم صاحب (١):
صُمٌّ إذا سَمعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ به... وإنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عنْدهُم أذِنوا
فقال: «صُمٌّ إذا سمعوا» فصرح بأنهمْ صمٌ، وأنهمْ يسمعون؛ لأنَّ ذلك السماع الذي لمْ تترتب عليه فائدة حكمه حكم الصمم، ومنه قول الآخر (٢):
أَصَمُّ عنِ الأَمْرِ الذي لا أُرِيدُهُ... وأسْمَعُ خَلقِ اللهِ حينَ أُريدُ
وقول الآخر (٣):
قُلْ ما بَدى لك من زورٍ ومن كَذِب... حِلْمِيْ أَصَمّ وأُذني غير صَمَّاء
وقول الآخر (٤):
فأَصْمَمْتُ عَمْرًا وأَعْمَيْتُهُ... عَنِ الجُودِ والفَخْرِ يومَ الفَخَارِ
وهذا أسلوب معروف مطروق في كلام العرب، نزل به القرآن؛ لأنه بلسان عربي مبين. وهذا معنى قوله: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾ الآذان: جمع أُذن. والأعين: جمع عين، وجمعهما على (أَفْعُلٌ) و (أفعال) ليس للقلة.
_________
(١) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (٣٦) من سورة الأنعام.
(٢) البيت في شواهد الكشاف ص٢٦، وأوله: «أصم عن الشيء... ».
(٣) مضى عند تفسير الآية (٣٦) من سورة الأنعام.
(٤) البيت في الخصائص (٣/ ٢٥٤)، شواهد الكشاف ص٤٠. وشطره الثاني هكذا: «عن الفخر والجود... ».
يقولُ لكَ اللَّهُ: لِمَ صَدَّقْتَنِي فيما مدحتُ به نفسِي، وأثنيتُ به على نفسِي، وأنزلتُه في كُتُبِي مُعَلِّمًا خَلْقِي أن يَمْدَحُونِي به؟! لا يقولُ لكَ: هذا أبدًا، ولا يقولُ لكَ: لِمَ تقفُ عند حَدِّكَ، وتقرُّ بما لا تَعْلَمُ؟ لأن اللَّهَ يقولُ: ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ بل هي كُلُّهَا طرقُ سلامةٍ محققةٍ.
وَاعْلَمُوا أيها الإخوانُ أن أولَ البلايا ومنشأَ الرزايا كُلِّهَا من أنجاسِ القلوبِ بسببِ التشبيهِ، كُلُّ البلايا منشؤُها الوحيدُ بسببِ أنجاسِ القلوبِ من أقذارِ التشبيهِ. هذا أصلُ البلاءِ والمحنِ والفتنِ الذي طَبَّقَتْ وَجَلَّلَتْ هذه المعمورةَ؛ لأَنَّ السلفيَّ - مثلاً - العاملَ بضوءِ القرآنِ، إذا سَمِعَ اللَّهَ يُثنِي على نفسِه بصفةٍ من الصفاتِ التي أَثْبَتَهَا لنفسِه، سواء كَانَتْ صفةَ ذاتٍ أو صفةَ فِعْلٍ، كقولِه: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الفرقان: آية ٥٩] امتلأَ قَلْبُهُ إجلالاً وتعظيمًا وإكبارًا، وَعَلِمَ أن هذا الاستواءَ الذي أَثْنَى اللَّهُ به على نفسِه في سبعِ آياتٍ من كتابِه أنه بالغٌ من غاياتِ الكمالِ والجلالِ والتنزيهِ والتقديسِ والمباعدةِ عن صفاتِ المخلوقينَ ما يقطعُ جميعَ علائقِ أوهامِ المشابهةِ بينَه وبينَ صفاتِ المخلوقينَ. أما إذا كان قلبُ الإنسانِ فيه بعضُ أقذارِ التشبيهِ فأولُ ما يسبقُ إلى ذهنِه أن هذا الاستواءَ ظاهرُه استواءُ المخلوقاتِ - سبحانَ اللَّهِ وتعالى عَمَّا يقولُ الظالمونَ عُلُوًّا كبيرًا - فيخطرُ في ذهنِه أنه انتصابٌ كانتصابِ هذا، فَيَتَقَذَّرُ القلبُ من أقذارِ التنجيسِ والتشبيهِ، فعندَ ذلك تأتِي البلايا، وبعدَ ذلك إذا قال: ظاهرُ هذا هو مشابهةُ صفاتِ المخلوقينَ جاءت البلايا من هنا، ثم إنه دَعَاهُ شؤمُ هذا التشبيهِ إلى أن ينفيَ هذه الصفةَ عن اللَّهِ، وَمَنْ يَنْفِي عن اللَّهِ وَصْفًا أَثْبَتَهُ لنفسِه فهو «أَجْرَأُ من خَاصِي


الصفحة التالية
Icon