على نزعِه، فهل يكون تائبًا؛ لأنه فَعَلَ مَقْدُورَهُ، أو لا يكون تائبًا؛ لأنه لم يُقْلِعْ (١)؟
ومن أمثلةِ هذا عند العلماءِ: رجلٌ كان مُبْتَدِعًا، وَبَثَّ بدعتَه في الناسِ، حتى طارَ بها أتباعُه في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها، وجنوبِها وشمالِها، وَبَقَوْا على ذلك البدعةِ، ومعلومٌ أن مَنْ سَنَّ سُنةً سيئةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بها، وأعمالُ أولئك من ذنوبِه؛ لأنه سَنَّهَا لهم، وَاللَّهُ يقولُ في رؤساءِ الضلالِ الذين يَسُنُّونَ البدعَ والضلالاتِ: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ [العنكبوت: آية ١٣] ويقولُ فيهم: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [النحل: آية ٢٥] هذا المبتدعُ الذي طارت بدعتُه في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها، ففسادُها منتشرٌ، إذا عرفنا أنه كان مبتدعًا وراجعَ التوبةِ، هل نقولُ: هو تائبٌ توبةً مستكملةَ الشروطِ؛ لأنه فَعَلَ قدرَ ما يقدرُ عليه؟ أو نقولُ: ليس بتائبٍ؛ لأنه لم يُقْلِعْ؛ لأن شَرَّ فِعْلِهِ باقٍ مُتَمَادٍ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها؟ ومن هذا المعنى: إذا غَصَبَ الرجلُ أرضًا نحو عشرين كيلاً مُرَبَّعًا، ثم نَدِمَ على الغصبِ وأرادَ أن يخرجَ منها، لو أَدْرَكَهُ الموتُ وهو ماشٍ خَارِجًا منها، هل نقولُ: ماتَ تَائِبًا؛ لأنه فَعَلَ قَدْرَ ما يستطيعُ؟ أو نقولُ: لم يَمُتْ تائبًا؛ لأنه أَخَذَ الأرضَ بغيرِ وجهٍ شَرْعِيٍّ، وماتَ وجرمُه باقٍ فيها: سَالِبٌ أَرْضًا لغيرِه؟ وكذلك الإنسانُ، إذا رَمَى إنسانًا بسهمٍ من بعيدٍ، فَلَمَّا فارقَ السهمُ الرميةَ تابَ وأقلعَ قبلَ أن يصيبَ السهمُ الْمَرْمِيَّ، فلو فَرَضْنَا أن هذا الإنسانَ عندما رَمَى السهمَ، والسهمُ في الهواءِ، وأقلعَ وتابَ إلى اللَّهِ توبةً نصوحًا، فأخذه أحدٌ وَقَطَعَ رأسَه قبلَ أن يصلَ السهمُ إلى المرمي، فنقول: هل ماتَ تائبًا؛ لأنه فَعَلَ
_________
(١) انظر: الموافقات (١/ ٢٣١)، نثر الورود (١/ ٢١٥)..
حيث حصر جميع الأوصاف، ثم أبطلها كلها، ولا يكون بهذا المعنى إلا عند الجدليين؛ لأنه عند الأصوليين لا يكون إلا في مسالك العلّة، ولا بد أن يبقى وصف صحيح هو العلّة. كأن تقول: العلّة في تحريم البر: إما أن تكون الطَّعْم، أو الكيل، أو الاقتيات والادخار، فلا بد أن تُبطل بعض الأوصاف، وتترك وصفاً صالحاً في زَعْمِكَ، تقول: إنه علّة.
وقد ذكرنا في كثير من المناسبات (١) وفي بعض ما كتبنا في الكتب (٢) أشياء كثيرة عن هذا الدليل، وذكرنا له آثاراً تاريخية في العقائد، وآثاراً تاريخية في الآداب، وذكرنا له أمثلة قرآنية.
فمن أمثلته القرآنية: هذه الآية، ومن أمثلته القرآنية قوله: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور: الآية ٣٥] فكأنه يقول: لا يخلو حالهم من واحدة من ثلاث حالات: إما أن يكونوا خَلَقُوا أنفسهم، أو خُلقوا من غير خالق، أو خَلَقَهم خالق، فهذه ثلاثة أقسام، اثنان منها باطلان بلا نزاع، وهو كونهم خلقوا أنفسهم، أو خُلقوا من غير خالق، فتغلب القسم الثالث أن لهم خالقًا هو رب السماوات والأرض، تجب عليهم طاعته وعبادته، ولا نطيل من أمثلته في القرآن، ونقتصر على أن نذكُر له أثراً تاريخيّاً في العقائد، وأثراً تاريخيّاً في الآداب.
_________
(١) راجع ما تقدم عن تفسير الآية (١١٥) من سورة الأنعام، وما سيأتي عند تفسير الآية (٣٠) من سورة التوبة.
(٢) انظر: نثر الورود (٢/ ٤٨٥)، مذكرة أصول الفقه ص ٢٥٧، آداب البحث والمناظرة (١/ ٤٧)، (٢/ ٧ - ٢٠) أضواء البيان (٤/ ٣٦٥ - ٣٨٤).
هذا لم نَقُلْهُ لكم من تلقاءِ أنفسِنا وإنما هو تعليمُ خالقِ السماواتِ والأرضِ في المحكمِ المنزلِ؛ لأَنَّ اللَّهَ أَوْضَحَ هذين الأَسَاسَيْنِ غايةَ الإيضاحِ، وَبَيَّنَهُمَا غايةَ البيانِ حيث قال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: آية ١١] وأتبع ذلك بقولِه: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: آية ١١] ففي قولِه: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ بعد قولِه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ في ذلك سِرٌّ أعظمُ، وتعليمٌ أكبرُ، ومغزًى عظيمٌ. وإيضاحُه أن السمعَ والبصرَ من حيث هما سَمْعٌ وبصرٌ - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى - يتصفُ بهما جميعُ الحيواناتِ، فكلُّ الحيواناتِ تسمعُ وَتُبْصِرُ، فَكَأَنَّ اللَّهَ يقولُ في الآيةِ الكريمةِ: يا عبدي اعْرِفْ قَدْرَكَ ولاَ تَتَنَطَّعْ، ولا تَنْفِ عَنِّي صفاتي، ولا تَذْهَبْ بصفاتِي إلى صفاتِ المخلوقين حتى تقولَ: هذا وصَفٌ غيرُ لائقٍ، هذا وصفٌ يجبُ صَرْفُهُ عن ظاهرِه إجماعًا. لا، لا يا عبدي، أَثْبِتْ لي سمعي وبصري، ولكن لاَحِظْ قولي قبلَ ذلك: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ فيكونُ إِثْبَاتُكَ للسمعِ والبصرِ إثباتَ تنزيهٍ عن مشابهةِ أسماعِ الخلائقِ وأبصارِهم، نَظَرًا لقولي قبلَه مقترنًا به: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ فأولُ الآيةِ الكريمةِ وهو قولُه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ تنزيهٌ تَامٌّ عن مماثلةِ صفاتِ المخلوقين من غيرِ أن يفضيَ ذلك التنزيهُ إلى تعطيلٍ.
وقوله: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ إيمانٌ بالصفاتِ على الحقيقةِ إيمانًا تَامًّا من غيرِ أن يفضيَ ذلك الإيمانُ إلى تشبيهٍ ولاَ إلى تعطيلٍ.
فَعَلَيْنَا أن نعتقدَ جميعًا ما دَلَّ عليه أولُ الآيةِ من تنزيهِ خالقِ السماواتِ والأرضِ عن مشابهةِ خَلْقِهِ، وأن نعتقدَ أيضًا ما دَلَّ عليه آخِرُهَا من إثباتِ الصفاتِ الثابتةِ في الوحيِ الصحيحِ على أساسِ ذلك
والمقرر (١) في علم العربية: أن جموع القلة لا تكون إلا في النكرات؛ لأنها بالمعرفات تكتسي العموم من أداة التعريف فتكون جمع تكثير. وهنا هي مُنَكَّرات وهي جموع قلة، إلا أن محل كونها جموع قلّة ما لم يقم دليل على أنها تُراد بها الكثرة كما هنا، وكما هو معروف في محله.
وقوله: ﴿آذَانٌ﴾ أصله (أَأْذَان) جمع (أُذن) مجموعة على (أَفْعال) أُبدلت الهمزة الثانية مدًّا للأُولى على القاعدة التصريفية المجمع عليها (٢). وهذا معنى قوله: ﴿وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾.
﴿أُوْلَئِكَ﴾ المذكورون الذين ذرأهم الله للنار، ولم ينفعهم بقلوبهم، ولا بأسماعهم، ولا بأعينهم ﴿كَالأَنْعَامِ﴾ الأنعام: تقدم في سورة الأنعام أنها أصناف الإبل والبقر والغنم؛ لأن الأنعام إذا صاح بها راعيها تسمع ما يقول ولكنها لا تنتفع به؛ فلو صاح بإبله أو غنمه وقال: اذهبي إلى عُدْوَةِ الوادي الفلانية فإن فيها خصبًا، واحذري من عُدْوَتِه الفلانية فإن فيها جدبًا وسباعًا. فإنها تسمع صوته ولكن لا تفهم هذا ولا تنتفع به، كما تقدم إيضاحه في قوله: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء﴾ [البقرة: آية ١٧١] ولذا قال هنا: ﴿أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ﴾ تسمع الأصوات ولا تفهم ما فيها فهمًا ينفع، كما أن هؤلاء يسمعون الأصوات ولا يفهمون عن الله فهمًا يجرهم إلى الإيمان. ثم أضرب، قال: ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ من الأنعام؛ لأن الأنعام ربما تَهْتَدِي لبعض مصالحها، تذهب إلى المحل الذي فيه المَرْعَى
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة البقرة.
(٢) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص٢٠.
الأَسَدِ» (١). ثم إذا نَفَى هذه الصفةَ عنه ذَهَبَ يتلمسُ إلى وصفٍ في زَعْمِهِ مُلاَئِمٍ، ثم يبدلُ الاستواءَ بالاستيلاءِ فيقولُ: اسْتَوَى معناه اسْتَوْلَى!! ويضربُ لهذا مثلاً بقولِ الراجزِ في بِشْرِ بْنِ مروانَ (٢):

قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ
فهذا غلطٌ شديدٌ كبيرٌ أيها الإخوانُ!! ونحن نرجو اللَّهَ أن الذين وَقَعُوا فيه من العلماءِ أن يعفوَ اللَّهُ عنهم ويغفرَ لهم لحسنِ نياتِهم، فَهُمْ كما قال الشافعيُّ رحمه الله (٣):
رَامَ نَفْعًا فَضَرَّ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَمِنَ الْبِرِّ مَا يَكُونُ عُقُوقَا
ونرجو اللَّهَ ألا يكونوا كالذين قال الله فيهم: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩)﴾ [البقرة: آية ٥٩]. وهذا الذي ذَهَبُوا إليه أعظمُ وأشرُّ وأضرُّ من الذي فَرُّوا منه؛ لأنا نقولُ: أيها الإنسانُ الذي ضَرَبْتَ مثلاً لاستيلاءِ اللَّهِ على عرشِه الذي فَسَّرْتَ به الاستواءَ من تلقاءِ نفسِك باستيلاءِ بشرِ بنِ مروانَ على العراقِ وضربتَ له المثلَ ببيتِ الرجزِ المذكورِ:
قَدِ اسْتَوى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ
أَمَا تَسْتَحِي من اللَّهِ؟ أما تخافُ اللَّهَ؟ وبأيِّ مبررٍ سَوَّغْتَ لنفسِك أن تشبهَ استيلاءَ اللَّهِ على عرشِه الذي زعمتَ باستيلاءِ بشرِ بنِ مروانَ على العراقِ؟ وهل يوجدُ في الدنيا تشبيهٌ أنتنُ وأخسُّ وأقبحُ من
_________
(١) انظر: الأمثال لأبي عبيد ص٣٧٥.
(٢) مضى عند تفسير الآية (١٥٨) من سورة الأنعام.
(٣) مضى عند تفسير الآية (١٤٨) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon