قدرَ ما يَقْدِرُ عليه؟ أو نقول: لم يَتُبْ؛ لأنه لم يُقْلِعْ؛ لأن شَرَّ فِعْلِهِ بَاقٍ مُتَمَادٍ؟ ولهذا نظائرُ كثيرةٌ.
للعلماءِ في هذا الأخيرِ وَجْهَانِ، كما هو مقررٌ في الأصولِ، وأظهرُ القولين وَأَجْرَاهُمَا على قواعدِ الشرعِ: أنه تائبٌ، وأن توبتَه كاملةٌ؛ لأنه فَعَلَ قَدْرَ طاقتِه، وما عَجَزَ عنه فهو مَعْفُوٌّ؛ لأن النبيَّ - ﷺ - يقول: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَائْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (١). والله يقولُ: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: آية ١٦] هذا هو الظاهرُ. وهذا معنَى قولِه: ﴿ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ﴾ إصلاحُه لعملِه يأتي بثلاثةِ أشياء (٢)، إذا تَحَصَّلَتْ هذه الأشياءُ كان عَمَلُهُ صالحًا، وإذا اختلتْ أو واحدٌ منها كان العملُ غيرَ صالحٍ.
أولُها: أن يكونَ عملُه مطابقًا لِمَا جاءَ به محمدٌ - ﷺ -؛ لأن اللَّهَ مَلِكٌ لا يقبلُ أن يُتَقَرَّبَ إليه إلا تَقَرُّبًا مُطَابِقًا لِمَا شَرَعَ، وَاللَّهُ يقولُ: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: آية ٢١] ويقولُ اللَّهُ جل وعلا: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ [الحشر: آية ٧] ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: آية ٨٠] ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي﴾ الآية [آل عمران: آية ٣١] هذا هو الأولُ من الثلاثةِ.
_________
(١) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله - ﷺ - حديث رقم (٧٢٨٨)، (١٣/ ٢٥١)، ومسلم، كتاب الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر، حديث رقم (١٣٣٧)، (٢/ ٩٧٥)، وفي كتاب الفضائل، باب توقيره - ﷺ - وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، ورقمه في كتاب الفضائل (١٣٠)، (٤/ ١٨٣٠ - ١٨٣١).
(٢) انظر: أضواء البيان (٣/ ٣٥٢ - ٣٥٣).
أما أثره التاريخي في العقائد، فما جاء عن بعض المؤرخين من أن هذا الدليل هو أول مصدر لكبح المحنة العظمى التي قُتل فيها العلماء وعُذّب فيها أفاضلهم وقُتلوا، وهي محنة القول بِخَلْقِ القُرْآن؛ لأن محنة القول بخلق القرآن نشأت في الدولة العباسية أيام المأمون، واستحكمت أيام المأمون وأيام المعتصم وأيام الواثق، فهؤلاء الخلفاء الثلاثة العباسيون مضت مدتهم ومحنة القول بالقرآن قائمة على ساق وقدم، يُمتحن العلماء، فمنهم من قُتل، ومنهم من عُذّب، ومنهم من وافق مداهنة خوفاً على نفسه من الموت، وكان القائم بهذه الدعوة: الخبيث أحمد بن أبي دؤاد الإيادي المشهور، الذي يقدسه العباسيون، وهو العالم الوحيد في نَظَرِهِمْ، وهي التي ضُرب فيها سيد المسلمين في زمانه: الإمام أحمد بن محمد بن حنبل - غمده الله برحمته الواسعة، وجزاه خيراً - لأنه هو الذي بقي وحده صامداً، وضُرب في أيام المعتصم ضربًا مُبَرِّحاً، حتى يُرفع من محل الضرب لا يدري ليلاً من نهار، وكلما أفاق وقالوا له: قل القرآن مخلوق!! يقول: لا، القرآن كلام الله غير مخلوق، حتى جاء المتوكل على الله بعد الواثق، فأزال الله هذه المحنة على يديه -جزاه الله عن هذه الحسنة خيراً- وأظهر السنة (١).
ومقصودنا ما ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه، وذكره غير واحد (٢)، وإن كانت القصة ذكر ابن كثير في تاريخه أن في إسنادها
_________
(١) انظر: البداية والنهاية (١٠/ ٣١٦).
(٢) انظر: تاريخ بغداد (٤/ ١٥١ - ١٥٢)، الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية (الكتاب الثالث) (٢/ ٢٦٩ - ٢٧٧)، الشريعة للآجري ص٩١، مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص٤٣١ - ٤٣٧، محنة الإمام أحمد لعبد الغني المقدسي ص ١٦٧ - ١٧٥، سير أعلام النبلاء (١٠/ ٣٠٧ - ٣١١)، (١١/ ٣١٢، ٣١٣ - ٣١٦) وأشار إلى ضعفها، وفي تاريخ الإسلام في حوادث (٢٣١ - ٢٤٠هـ) في ترجمة الواثق.
التنزيهِ، لاَ على أساسِ مشابهةِ الخلقِ - سبحانه وتعالى عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا - وَلِذَا قال: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ بعدَ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ والصفاتُ كُلُّهَا من بابٍ واحدٍ؛ لأنك لا تجدُ صفةً يَكْثُرُ اتصافُ المخلوقاتِ بها أعظمَ من السمعِ والبصرِ فليست هناك صفةُ مجيءٍ، ولا صفةُ نزولٍ، ولا صفةُ وَجْهٍ، ولا صفةُ يَدٍ، ولا غيرُ ذلك من الصفاتِ أشدَّ اتصافًا للمخلوقاتِ بها من السمعِ والبصرِ، فَضَرَبَ لكَ السمعَ والبصرَ مثلاً على أن تُثْبِتَهُمَا لِلَّهِ وتلاحظَ في ذلك الإثباتِ قولَه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ هو حلٌّ وإيضاحٌ برهانيٌّ في جميعِ الصفاتِ الثابتةِ في كتابِ اللَّهِ وسنةِ رسولِه صلى اللَّهُ عليه وسلم أن تُنَزِّهَ اللَّهَ أولاً حتى تُطَهِّرَ قلبَك من أقذارِ التشبيهِ وأدرانِه وأنجاسِه، ثم إذا طَهَّرْتَ أرضَ قلبكَ من أقذارِ التشبيهِ، وأنجاسِ التشبيهِ، وأدرانِ التشبيهِ يجبُ عليكَ أن تؤمنَ بما وصفَ اللَّهُ به نفسَه، أو وَصَفَهُ به رسولُه ﷺ إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ ذلك التنزيهِ كما بَنَى: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ على قولِه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ فليس لكَ أن تقولَ: الحيوانُ يسمعُ ويبصرُ، الإنسانُ يسمعُ ويبصرُ، والبعيرُ يسمعُ ويبصرُ، والحمارُ يسمعُ ويبصرُ، وكلُّ حيوانٍ يسمعُ ويبصرُ، فإذا أَثْبَتُّ السمعَ والبصرَ لِلَّهِ كُنْتُ مُشَبِّهًا له بالحيواناتِ!! لاَ وَكَلاَّ يا عَبْدِي، بل أَثْبِتْ لي سَمْعِي وبصري إثباتًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ، وَانْظُرْ أني قلتُ قبلَ: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ قلتُ قبلَها: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ليكونَ الإيمانُ بإثباتِ سمعي وبصري مَبْنِيًّا على تنزيهي وعدمِ مماثلتي لِخَلْقِي، فبأولُ الآيةِ يحصلُ للمؤمنِ التنزيهُ التامُّ ويذهبُ عنه جميعُ أنواعِ التشبيهاتِ، وبآخِرِ الآيةِ يؤمنُ
العبدُ بما ثَبَتَ عن ربه أو عن رسولِه ﷺ إيمانًا كريمًا طاهرًا مُقَدَّسًا عن مشابهةِ صفاتِ
فتَرْعَى فيه، وتَرُوحُ عَنْ محلّ الجَدْب، وإذا رَأَتْ صَاحِبَهَا الذي يسقيها ويطعمها فرحت به وتبعته، وهؤلاء يعادون ربهم ولا يفعلون شيئًا ينفعهم -والعياذ بالله- فهم أضل من الأنعام.
﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ الذين اسْتَوْلَتْ عَلَى قلوبهم الغَفْلَة لا يفهمون عن الله شيئًا -والعياذ بالله-. وهذا معنى قوله: ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٧٩].
﴿وَلله الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الأعراف: آية ١٨٠] لله (جل وعلا) الأسماء الحسنى، والحسنى: تأنيث الأحسن، وهو صيغة تفضيل الأحسن الذي هو أحْسَن مِنْ غَيْرِهِ، والحسنى التي هي أحْسَن مِنْ غَيْرِهَا، وأفْرد نعت الأسماء في قوله: ﴿الأَسْمَاء الْحُسْنَى﴾ لما تقرر في علم العربية من أن ثلاثة من الجُمُوعِ -أعْنِي جمع المكسر بنوعيه، وجمع التأنيث- كل منها يجري مجرى الواحدة المؤنثة المجازية التأنيث (١)، ومثله كثير، كقوله: ﴿وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ [طه: آية ١٨] ﴿لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً﴾ [الأنعام: آية ١٩].
قال بعض العلماء: سبب نزول هذه الآية: أن رجلاً من المسلمين قال: يا الله، يا رحمن. فقال واحد من كفار مكة: كيف يقول محمد: إن الإله واحد، ثم إنه يدعو إلهين: أحدهما: الله، والثاني: الرحمن؟! فأنزل الله: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى﴾ وأنزل قوله: ﴿قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى﴾ [الإسراء: آية ١١٠] (٢).
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٣٤) من سورة الأنعام.
(٢) الأثر بهذا السباق -من دون الآية الثانية - أورده القرطبي عن مقاتل من غير ذكر من خرّجه. وقد وردت بعض الآثار في سبب نزول الآية الثانية ذكرها السيوطي في الدر (٤/ ٢٠٦)، وكلها مرفوعة إلى النبي ﷺ وليس هذا الأثر منها.
هذا؟! شَبَّهْتَ العرشَ بالعراقِ، وربَّ السماواتِ والأرضِ ببشرِ بنِ مروانَ، وهذا يفتحُ بابًا إلى بحورٍ من أنواعِ التشبيهِ لاَ ساحلَ لها أبدًا؛ لأنه فيه تشبيهُ استيلاءِ اللَّهِ على عرشِه المزعومِ بكلِّ مخلوقٍ قَهَرَ مخلوقًا فَغَلَبَهُ فَاسْتَوْلَى عليه!! فَمِنْ هنا يُضْطَرُّ هذا القائلُ أن يقولَ: الاستيلاءُ الذي فَسَّرْتَ به الاستواءَ استيلاءٌ مُنَزَّهٌ عن استيلاءِ المخلوقينَ. ونحن نقولُ: كيف تُنَزِّهُهُ وأنتَ تضربُ له المثلَ باستيلاءِ بشرِ بنِ مروانَ؟ ثم نقولُ: إذا لَزِمَنَا أن نُنَزِّهَ أحدَ الكلمتين: إما الاستواء الذي نَصَّ اللَّهُ عليه في كتابِه وَأَنْزَلَهُ في سبعِ آياتٍ من القرآنِ كتابًا يُتْلَى أو الاستيلاء الذي جئتَ به، أيهما أَحَقُّ بالتنزيهِ؟ والجوابُ: ولا شكَّ أن كلامَ ربِّ العالمينَ الذي أَنْزَلَهُ وَحْيًا يُتْلَى من فوقِ سبعِ سماواتٍ أحقُّ بالتنزيهِ من غيرِه. فمقصودُنا أن نُبَيِّنَ لإخوانِنا أن المدارَ على حفظِ القلبِ والمحافظةِ عليه من أقذارِ التشبيهِ، وأن يعلمَ الإنسانُ أن كُلَّ وصفٍ وَصَفَ اللَّهُ به نفسَه فهو بالغٌ من غايةِ الجلالِ والكمالِ والإعظامِ والإكبارِ والتقديسِ ما يقطعُ جميعَ علائقِ أوهامِ المشابهةِ بينَه وبينَ صفاتِ المخلوقينَ؛ فَيُحْمَلُ على أطهرِ المعانِي وأعظمِها وأقدسِها وأليقِها بِاللَّهِ (جلَّ وعلا) وأبعدِها عن مشابهةِ صفاتِ المخلوقينَ.
ولو قال قائلٌ: نحن لا نعقلُ استواءً تُدْرِكُهُ عقولُنا إلا مثلَ استواءِ المخلوقينَ. فنقولُ له: وهل عقلتَ كيفيةَ الذاتِ المقدسةِ المتصفةِ بهذا الاستواءِ؟ فلا بد أن يقولَ: لاَ. فنقولُ: معرفةُ كيفيةِ الصفاتِ متوقفةٌ على معرفةِ كيفيةِ الذاتِ، وَاللَّهُ يقولُ: ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: آية ١١٠] والأشياءُ تختلفُ بإضافاتِها، فالصفةُ المضافةُ وَالْمُسْنَدَةُ إلى اللَّهِ تخالفُ المضافةَ والمسندةَ إلى غيرِه


الصفحة التالية
Icon