الثَّانِي: أن يكونَ العبدُ الذي جاءَ بذلك العملِ - مطابقًا لِمَا جَاءَ به النبيُّ - ﷺ -، أن يكونَ - فيما بينَه وبينَ اللَّهِ - في نيتِه التى لا يَطَّلِعُ عليها إلا اللَّهُ. أن يكونَ مُخْلِصًا لِلَّهِ؛ لأن اللَّهَ يقول: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: آية ٥] ويقولُ: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ﴾ [الزمر: آية ١١] فَمَنْ عَبَدَ بغيرِ إخلاصٍ جاءَ بما لم يُؤْمَرْ به؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: آية ٥].
الثالثُ: من هذه الأمورِ الثلاثةِ: أن يكونَ ذلك العملُ - الذي وقعَ بإخلاصٍ مُطَابِقًا للشرعِ - أن يكونَ مَبْنِيًّا على أساسِ التوحيدِ والإيمانِ الصحيحِ والعقيدةِ الصحيحةِ؛ لأن العقيدةَ كالأساسِ، والعملَ كالسقفِ، فإذا وَجَدَ السقفُ أساسًا ثَبَتَ عليه، وإن لم يَجِدْ أساسًا انْهَارَ؛ لأن اللَّهَ يقولُ: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ [النساء: آية ١٢٤] فجعلَ الإيمانَ قَيْدًا في ذلك العملِ، وَبَيَّنَ مفهومَ قولِه: ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ أن العاملَ لو كان غيرَ مؤمنٍ فعملُه لا فائدةَ فيه، كما قال في أعمالِ غيرِ المؤمنين: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا﴾ [الفرقان: آية ٢٣] ﴿أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ﴾ [إبراهيم: آية ١٨] ﴿أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ﴾ [النور: آية ٣٩] وقولُه جل وعلا: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [هود: آية ١٦] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ، وهذا معنَى قولِه: ﴿أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [الأنعام: آية ٥٤] على قراءةِ: ﴿فَإِنَّهُ غفور رحيم﴾ (١) فالهمزةُ مكسورةٌ للاستئنافِ.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٣ - ٥٤) من سورة الأنعام.
عند الخطيب بعض من لا يُعرف (١)، فهي قصة مشهورة، تلقاها العلماء بالقبول في أقطار الدنيا، وهي مشهورة، والاستدلال بها صحيح بلا شك، وهو بهذا الدليل، وذلك أنه في أيام الواثق جيء بشيخ من أهل السنة من الشام (٢)، مقيد بالحديد، يُمتحن في القول بخلق القرآن، وَرَدَ الامتحان على أنه عُزم على قتله. روى هذه القصة محمد المهدي ولد الواثق، قال: كان أبي إذا أراد أن يقتل رجلاً أحضرني، فلما أراد قتل هذا الشيخ الشَّامِي أحْضَرَنِي، وقال: ائذنوا لأبي عبد الله. يعني: أحمد بن أبي دؤاد، فجاء، فقال الشيخ الشامي المُكَبَّل بالحديد، السني: السلام عليك يا أمير المؤمنين!!
فقال له الواثق بالله - وهو غضبان -: لا حَيَّاكَ الله، ولا سَلَّمَك!!
فقال له: بئس ما أدَّبَكَ مُؤَدِّبُك يا أمير المؤمنين! الله يقول: ﴿وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ [النساء: الآية ٨٦] والله ما حييتني بأحسن منها ولا رددتها!!
قال له ابن أبي دؤاد: الرجل متكلم!!
فقال الواثق: ناظره، وفي بعض روايات القصة: أن الشيخ
_________
(١) انظر: البداية والنهاية (١٠/ ٣٢١).
(٢) وهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد بن إسحاق الجزري الموصلي الأذرمي.
الخلقِ، مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ. فهذانِ أساسانِ أعظمانِ:
الأولُ منهما: تنزيهُ خالقِ السماواتِ والأرضِ عن مشابهةِ صفاتِ خَلْقِهِ في ذواتِهم أو أفعالِهم أو صفاتِهم.
الثاني: هو الإيمانُ بما ثَبَتَ عن اللَّهِ مما مَدَحَ اللَّهُ به نفسَه إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ ذلك التنزيهِ، والتباعدِ كُلَّ البعدِ عن مشابهةِ الخلقِ. وكذلك ما أَثْبَتَهُ عليه به رسولُه ﷺ فبتنزيهك أيها المؤمنُ رَبَّكَ من مشابهةِ الخلقِ تكونُ عَامِلاً بقولِه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: آية ١١] ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (٤)﴾ [الإخلاص: آية ٤] ﴿فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ﴾ [النحل: آية ٧٤] ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: آية ٦] وَبِتَصْدِيقِكَ رَبَّكَ وتصديقِك رسولَك فيما أَثْنَى الربُّ به على نفسِه أو أثنى عليه به رسولُه تكونُ مُؤْمِنًا بالصفاتِ إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ، فتسلمُ من ورطةِ التشبيهِ، وتسلمُ من ورطةِ التعطيلِ، وتأتي رَبَّكَ يومَ القيامةِ وقلبُك سليمٌ طاهرٌ من أقذارِ التشبيهِ، وأقذارِ التعطيلِ، وجحودِ آياتِ اللَّهِ التي مَدَحَ بها نَفْسَهُ. فهذانِ الأساسانِ بَيَّنَهُمَا اللَّهُ لنا في هذا الْمُحْكَمِ الْمُنَزَّلِ في قولِه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: آية ١١].
والأساسُ الثالثُ: أن تعلمَ أيها العبدُ أن عقلَك المسكينَ الضعيفَ وَاقِفٌ عندَ حَدِّهِ، وَرَبُّ السماواتِ والأرضِ أعظمُ وأكبرُ وأجلُّ شأنًا من أن تحيطَ به علمًا، أو أن تعلمَ كُنْهَ كيفيةِ اتصافِه بصفاتِه - جل وعلا -؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (١١٠)﴾ [طه: آية ١١٠] فَنَفَى إحاطةَ العلمِ البشريِّ به - جل وعلا - نفيًا قُرْآنِيًّا بَاتًّا.
﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى﴾ أسماء الله حسنى، أي: هي أحسن شيء؛ لأن الحسنى صيغة تفضيل، هي أفضل من كل شيء في الحُسْنِ والجمال لما تدل عليه من صِفَاتِ الكمال والجلال الموصوف بها خالقنا (جل وعلا) تَقَدَّسَ وتَعَاظَمَ وتَنَزَّهَ؛ لأن أسماءه تدل على صفات كماله وجلاله جل وعلا.
﴿فَادْعُوهُ بِهَا﴾ فادعوه بتلك الأسماء كأن تقول: يا رحمن ارحمنا، يا رحيم ارحمني. قال بعض العلماء: تقول: يا رحيم ارحمني، يا رازق ارزقني، يا حكيم احكم لي. ولا تقول: يا حكيم اغفر لي، أو: يا رزاق ارحمني. والتحقيق أن هذا كله جائز؛ لأن أسماء الله متلازمة، كل صفة في واحد منها تستلزم جميع الصفات الأخرى لعظمة صفاته (جل وعلا)، واستلزام كل واحدة منها غاية الكمال والجلال، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلاَّ واحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ» (١) هذا حديث صحيح معروف، وقد جاء عَدُّ أسمائه عن بعض الناس، ذكره الترمذي، وذكر غيره روايات فيها بعض الأسماء،
_________
(١) البخاري في الشروط، باب: ما يجوز من الاشتراط والثنيا في الإقرار والشروط التي يتعارفها الناس. حديث رقم (٢٧٣٦)، (٥/ ٣٥٤)، وأخرجه في مواضع أخرى كما في الأحاديث (٦٤١٠)، (٧٣٩٢)، ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها. حديث رقم (٢٦٧٧)، (٤/ ٢٠٦٢)، من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) دون سرد الأسماء.
كمخالفةِ ذاتِ اللَّهِ لذواتِ خَلْقِهِ، فصفاتُ الخلقِ حَقٌّ، وصفاتُ اللَّهِ حَقٌّ، إلا أن صفاتِ اللَّهِ لائقةٌ بذاتِ اللَّهِ، منافيةٌ لصفاتِ المخلوقينَ كمنافاةِ [ذاتِ الخالقِ لذواتِ] (١) الْخَلْقِ، والإضافاتُ تتغيرُ بها المخلوقاتُ فكيفَ بِمَا بَيْنَ الخالقِ والمخلوقِ؟ فمثلاً - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى - كلمةُ (رَأْس) أعنِي: كلمةَ (الراءِ والهمزةِ والسينِ) (رأس) هذه الكلمةُ إذا أَضَفْتَهَا إلى الإنسانِ وقلتَ: رأسُ الإنسانِ. وأضفتَها إلى الوادِي فقلتَ: رأسُ الوادِي. وأضفتَها إلى المالِ فقلتَ: رأسُ المالِ. وأضفتَها إلى الجبلِ فقلتَ: رأسُ الجبلِ، أَلَيْسَتْ هذه الإضافاتُ مختلفةً في حقائقِها، متباينةً كُلَّ التباينِ؟ مع أنها مخلوقاتٌ حقيرةٌ ضعيفةٌ تَبَايَنَتْ وَتَخَالَفَتْ لاختلافِ إضافاتِها، فما بَالُكَ بالاختلافِ الواقعِ بينَ الخالقِ والمخلوقِ؟ لا مشابهةَ هناك ولا مناسبةَ بَيْنَ خالقٍ ومخلوقٍ. فَعَلَيْنَا أن نمشيَ على هذا النمطِ، وإذا سَمِعْنَا اللَّهَ يُثْنِي على نفسِه بصفةٍ أن نعتقدَ أنها صفةٌ بالغةٌ من غاياتِ التنزيهِ والكمالِ والإجلالِ ما يقطعُ علائقَ أوهامِ المشابهةِ بينَها وبينَ صفاتِ المخلوقينَ، ونؤمنَ بها على خصوصِ هذا الأساسِ من التنزيهِ، ولاَ نؤمنَ بها إيمانًا وَسِخًا قَذِرًا ذَاهِبًا إلى المشابهةِ بصفاتِ الْخَلْقِ، لاَ..
لاَ، ثم نقطعُ الطمعَ عن إدراكِ الكيفياتِ والإحاطةِ العلميةِ؛ لأن اللَّهَ نَفَاهَا نفيًا بَاتًّا في قولِه: ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: آية ١١٠] فإننا إذًا نكونُ مُنَزِّهِينَ رَبَّنَا، مُصَدِّقِينَ لِرَبِّنَا، وَاقِفِينَ عندَ حَدِّنَا، وتنزيهُ اللَّهِ طريقٌ مأمونةٌ، وتصديقُ اللَّهِ ورسولِه طريقٌ مأمونةٌ، والوقوفُ عندَ الحدِّ طريقٌ مأمونةٌ. وسنبسط على هذا الكلامِ - إن شاء الله - في بعضِ المناسباتِ الآتيةِ. وهذا
_________
(١) في الأصل: «صفة الخالق لصفات». وهو سبق لسان.


الصفحة التالية
Icon