وعلى قراءةِ: ﴿فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ فهو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، وتقريرُ المعنى: ﴿أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ﴾ أي: فَلَهُ غفرانُ اللَّهِ (جل وعلا)؛ لأن المصدرَ المنسبكَ من (أن) وصلتَها يُسْبَكُ من لفظٍ باسم المُسْتَقِلَيْنِ فيها، أي: الفعل، فمعنى ﴿فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ فغفرانُ اللَّهِ، أي: فَلَهُ غفرانُ اللَّهِ ورحمتُه (جل وعلا)، وهذا أظهرُ الْوَجْهَيْنِ، واختارَه سيبويه، خلافًا لمن قَدَّرَهُ مبتدأً لخبرٍ محذوفٍ؛ لأن حذفَ المبتدأِ أكثرُ من حذفِ الخبرِ. وَغَلِطَ مَنْ قال: إنه معطوفٌ على (أنه) الأُولَى؛ لأن العطفَ لا يصحُّ هنا؛ لأن بينهما أداةَ شرطٍ، ولو قلنا إن (مَنْ) مَوْصُولَةٌ، وجعلناه معطوفًا، لم يَبْقَ هنالك خبرٌ للمبتدأِ الذي هو (مَنْ)، فكونُه عطفًا على (أن) الأُولَى لا يصحُّ، وإن غَلِطَ فيه جماعةٌ (١).
ومعنى قولِه: ﴿غَفُورٌ﴾ أي: كثيرُ المغفرةِ لعبادِه ﴿رَّحِيمٌ﴾ يرحمُ عبادَه (جل وعلا)، والرحيمُ: مختصٌّ بالمؤمنين في الآخرةِ، كما بَيَّنَّاهُ في البسملةِ (٢)، وكما قال تعالى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: آية ٤٣].
﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأنعام: آية ٥٥] في هذا الحرفِ ثلاثُ قراءاتٍ سبعياتٍ (٣): قرأه مِنَ القراءِ نافعٌ وحدَه: ﴿ولِتَسْتَبينَ سبيلَ المجرمين﴾ بالتاءِ في ﴿وَلِتَسْتَبِينَ﴾
_________
(١) انظر: القرطبي (٦/ ٤٣٦)، البحر المحيط (٤/ ١٤١)، الدر المصون (٤/ ٦٥٠ - ٦٥٤).
(٢) انظر: الأضواء (١/ ٤٠).
(٣) انظر: المبسوط لابن مهران ص ١٩٥، حجة القراءات ص ٢٥٣، تفسير ابن جرير (١١/ ٣٩٥).
الشامي قال: هو أحقر من أن يُناظرني!! فازداد غضب الواثق عليه، ثم إن ابن أبي دؤاد قال للشيخ الشامي: ما تقول في القرآن؟
فقال الشيخ الشامي: ما أنصفتني!! يعني: ولي السؤال، إن المقيد الذين يريدون أن يقدموه للموت أولى بالسؤال!
فقال: سل!
فقال: ما تقول أنت يا ابن أبي دؤاد في القرآن؟
فقال: مخلوق.
قال: مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها، ويقتل الخلفاءُ العلماءَ بسبب دعوتك إليها، هل كان رسول الله - ﷺ - وخلفاؤه الرَّاشِدُون، وأبو بكر وعمر وعلي وعثمان عالمين بها أو لا؟
قال ابن أبي دؤاد: لم يكونوا عالمين بها.
فقال الشيخ الشامي: سبحان الله! جَهِلَهَا رسول الله، وعلمها أحمد بن أبي دؤاد!
فقال ابن أبي دؤاد: أَقِلْني، والمناظرة على بابها.
فقال له: لك الإقالة.
ثم قال: ما تقول في القرآن؟
قال: مخلوق.
قال: هل كان رسول الله وخلفاؤه الراشدون عالمين بدعوتك هذه التي تدعو الناس إليها أو جاهلين؟
قال: كانوا عالمين بها، ولكن لم يدعوا الناس إليها.
ونحن الآنَ أيها المسلمونَ تسيرُ بنا الأيامُ والليالي لحظاتُها ودقائقُها وثوانيها إلى القبورِ، وعن قليلٍ نُنْشَرُ من القبورِ إلى عرصاتِ القيامةِ، وَاللَّهُ سَائِلُنَا جميعًا كما قال: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦)﴾ [الأعراف: آية ٦] ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (٩٢)﴾ [الحجر: آية ٩٢] واعلموا أيها الإخوانُ أنه لا يُؤْمَنُ أن يسألَنا خالقُنا: ماذا كُنْتُمْ تقولونَ في صفاتِي التي مَدَحْتُ بها نَفْسِي، كاستوائِي على عَرْشِي؟ فإني مدحتُ نفسي في سبعِ آياتٍ من كتابِي بأني استويتُ على عَرْشِي، ماذا كنتُم تقولونَ فيما مدحتُ به نفسي؟ كنتُم تقولونَ: إن ظاهرَه خبيثٌ، وأنه قذرٌ نَجِسٌ تشبيهٌ وتنفونَه وتحرفونَ كلامي، تجيئون بقولٍ لَمْ أَقُلْهُ، كالذين قال اللَّهُ فيهم: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ [البقرة: آية ٥٩] أَمْ كنتُم تُنَزِّهُونَنِي، وتعلمونَ أني لا أُثْنِي على نفسِي إلا بصفةِ كمالٍ وجلالٍ لائقةٍ مقدسةٍ معظمةٍ منزهة، وتثبتونَ لِي ما أَثْبَتُّ لنفسي إثباتًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ، على نحوِ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾.
وأنا أؤكدُ لكم بمعرفةِ القرآنِ العظيمِ ونحنُ في دارِ الدنيا أَنَّ مَنْ مات منكم وَحُشِرَ وَنُشِرَ وَلَقِيَ اللَّهَ - جل وعلا - على هذه العقيدةِ السلفيةِ التي نلقنكم في دارِ الدنيا أنه يأتِي آمِنًا من كل توبيخٍ وتقريعٍ يأتِيه مِنْ قِبَلِ واحدٍ من هذه الأُسسِ الثلاثةِ.
أما الأساسُ الأولُ - الذي هو تنزيهُ اللَّهِ عن مشابهةِ خَلْقِهِ - فَوَاللَّهِ لاَ يأتِي واحدًا منكم بسببِه بَلِيَّةٌ ولا تقريعٌ ولاَ عذابٌ أبدًا، فلا يقولُ اللَّهُ لأحدكم مُوَبِّخًا له مُقَرِّعًا: لِمَ كُنْتَ في دارِ الدنيا تُنَزِّهُنِي عن مشابهةِ خَلْقِي؟
لاَ وَاللَّهِ. هذا أساسٌ هو طريقُ سلامةٍ محققةٍ لا يشكُّ فيها عاقلٌ،
والرواية التي ذكرها الترمذي تقريبًا مائة وواحد تزيد باثنين (١)، وهي معروفة (٢)،
وجاءت روايات في السنن وأخرج الحاكم بعضها وصححه تذكر بعض أسماء الله جل وعلا.
والمحققون من العلماء يقولون: إن أسماء الله لا تُحصر في ذلك، كما دل عليه الحديث المشهور حديث ابن مسعود الذي بيّن فيه النبي ﷺ أن كل من أصابه حزن -مثلاً- أو غم إذا دعا به أَذْهَبَ اللهُ حُزْنَهُ وأبْدَلَهُ له سرورًا، وهو حديث معروف مشهور: «اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ، وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِي حُكْمُكَ،
_________
(١) أي: على التسعة والتسعين.
(٢) أخرجه الترمذي في الدعوات، حديث رقم (٣٥٠٧)، (٥/ ٥٣٠)، وعقبه بقوله: «هذا حديث غريب، حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح، ولا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح وهو ثقة عند أهل الحديث. وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نعلم في كَثيرِ شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث. وقد روى آدم بن أبي إياس هذا الحديث بإسناد غير هذا عن أبي هريرة عن النبي ﷺ وذكر فيه الأسماء وليس له إسناد صحيح» اهـ. (٥/ ٥٣١، ٥٣٢)، وأخرجه ابن ماجه في الدعاء، باب أسماء الله عز وجل.. حديث رقم (٣٨٦١)، (٢/ ١٢٦٩ - ١٢٧٠)، والحاكم (١/ ١٦، ١٧)، والبيهقي في الأسماء والصفات ص١٥، وفي الاعتقاد ص١٣، وفي شعب الإيمان (١/ ٢٧٧)، وفي سننه (١٠/ ٢٧ - ١٨)، والبغوي في شرح السنة (٥/ ٣٢)، كلهم من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه). وهذه الرواية لا تصح والله أعلم. وقد أطال الحافظ (رحمه الله) في الكلام على هدا الحديث سندًا ومتنًا. انظر: الفتح (١١/ ٢١٤ - ٢١٩). وانظر: الفتاوى (٦/ ٣٧٩ - ٣٨٢)، (٢٢/ ٤٨١ - ٤٨٦)، درء التعارض (٣/ ٣٣٢)، وقد صرح جمع من أهل العلم بأن سرد الأسماء في الرواية أنه مدرج. انظر: سبل السلام (٤/ ٢٤)، موقف ابن تيمية من الأشاعرة (٣/ ١٠٤٠).
معنَى قولِه: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (٢١)﴾ [التوبة: آية ٢١].
الجناتُ: جمعُ تصحيحٍ للجنةِ، والجنةُ في لغةِ العربِ (١): البستانُ، فإن العربَ تُسَمِّي كُلَّ بستانٍ جنةً، وسيأتِي قولُه: ﴿كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ﴾ [القلم: آية ١٧] والبستانُ صاحبُ القصةِ المعروفةِ. وإطلاقُ الجنةِ على البستانِ إطلاقٌ معروفٌ مشهورٌ، ومنه قولُ زهيرِ بنِ أَبِي سُلْمَى (٢):
كَأَنَّ عَيْنَيَّ فِي غَرْبَيْ مُقَتَّلَةٍ | مِنَ النَّواضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقَا |
النعيمُ: خفضُ العيشِ ولينُه، وهو ضِدُّ البؤسِ كما هو معروفٌ.
وقولُه: ﴿مُّقِيمٌ﴾ أي دائمٌ أبدًا لا يزولُ، وهذا كمالُ النعمةِ؛ لأَنَّ كمالَ النعمةِ الإقامةُ فيها وعدمُ الانتقالِ عنها؛ لأَنَّ أعظمَ ما يُكَدِّرُ النعمَ والمسارَّ هو أن يُفَكِّرَ الإنسانُ في أنه يفارقُها. فترى الإنسانَ في لَذَّاتِهِ وَفِي نِعَمِهِ وترفِه، إذا فَكَّرَ في أنه غدًا يموتُ عنها، وَتُنْكَحُ نساؤُه، وَتُقْسَمُ أموالُه، ويذهبُ عنه كُلُّ شيءٍ فَزِعَ من ذلك،
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٩٩) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.