ونَصْبِ (سبيلَ المجرمين)، وعلى هذه القراءةِ فـ ﴿وَلِتَسْتَبِينَ﴾ تَاؤُهُ تاءُ خطابٍ والفاعلُ محذوفٌ لُزُومًا، تقديرُه: أنتَ. وعليه فالمعنى: ولتستبينَ أنتَ يا نَبِيَّ اللَّهِ سبيلَ المجرمين.
وقرأه حمزةُ والكسائيُّ وشعبةُ عن عاصمٍ: ﴿وليستبينَ سبيلُ المجرمين﴾ بالياءِ وَضَمِّ (السبيلُ)، على أن (السبيلَ) مذكرٌ ﴿وليستبينَ سبيلُ المجرمين﴾ و (السبيلُ) يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ (١)، وتذكيرُه لغةُ التميميين وغيرِهم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ. وعلى لغةِ التذكيرِ قراءةُ حمزةَ والكسائيِّ وشعبةَ عن عاصمٍ في قولِه هنا: ﴿وليستبينَ سبيلُ المجرمين﴾ أي: يظهرُ ويتضحُ طريقُ المجرمين. ومن تذكيرِ (السبيلِ) قولُه في الأعرافِ: ﴿وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً﴾ [الأعراف: آية ١٤٦] بتذكيرِ (السبيلِ).
وقرأ باقِي السبعةِ وَهُمْ: ابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو وابنُ عامرٍ وحفصٌ عن عاصمٍ، قرأ هؤلاء: ﴿وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ بالتاءِ في (تستبين) ورفعِ (السبيلُ)، على أن ﴿سَبِيلُ المُجْرِمِينَ﴾ فاعلُ (تستبين) وَأَنَّ (السبيل) مؤنثةٌ، وتأنيثُ (السبيل) كهذه القراءةِ كقولِه في سورةِ يوسفَ: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي﴾ [يوسف: آية ١٠٨] ولم يَقُلْ: هذا سبيلي.
فَتَحَصَّلَ أن قراءةَ التاءِ: ﴿وَلِتَسْتَبِينَ﴾ رَفَعَ بعدَها - غيرَ نافعٍ - (السبيل) فقالوا: ﴿وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ أي: لتظهرَ وتتضحَ طريقُ الْمُجْرِمِينَ. والتاءُ في قراءةِ هؤلاء: هي تاءُ المؤنثةِ، كما
_________
(١) انظر: ابن جرير (١١/ ٣٩٦)، القرطبي (٦/ ٤٣٧)، الدر المصون (٤/ ٦٥٥)، بصائر ذوي التمييز (٣/ ١٨٥).
فقال له الشيخ الشامي: يا ابن أبي دؤاد، ألم يسعك في أمة رسول الله ما وسع رسول الله؟ ولم يسعك في أمة رسول الله ما وسع خلفاءه الراشدين؟! ففهم الواثق الحقيقة، وقام من مجلسه، واضطجع في محل خلوته واستلقى، وجعل رِجْلَه على رجْلِه ثم قال: جهلها رسول الله وعلمتها أنت يا ابن أبي دؤاد؟! ثم قال: علمها رسول الله وخلفاؤه الراشدون ولم يدعُوا الناس إليها، ألم يسع ابن أبي دؤاد في أمة محمد ما وسع رسول الله وخلفاءه الراشدين؟! وعلم أن ابن أبي دؤاد مُبْطِلٌ.
قالوا: فَمِنْ ذَلِكَ اليوم لم يَمْتَحِن أحداً بَعْدَهَا، ولم يُقَدَّم عالم ليُمْتَحَن في القول بخلق القرآن.
وذكر الخطيب: أن الواثِقَ مَاتَ بعد أن تاب منها (١) بسبب قصة هذا الشيخ.
وهذا الشيخ إنما استدل بهذا السبر والتقسيم، كأنه يقول: مقالتك هذه لا تخلو بالتقسيم الصحيح من أحد أمرين: إما أن يكون النبي وخلفاؤه عالمين أو جاهلين؟ فلا قِسْم إلاَّ هذان القسمان، ثم نرجع إلى القسمين فنسبرهما ونختبرهما، ونظنك يا ابن أبي دؤاد ضالّاً على كل [١٩/أ] تقدير، إذا كان عالماً ولم يَدْع الناس إليها فقد يسعك ما وسعه،/وإن كان غير عالم بها وأنت عالم بها فهذا لا يمكن أن يُقال! فأنت ضال مبطل على كل تقدير.
ومن آثار هذا الدليل الأدبية: ما ذكره المؤرخون: أن عبد الله بن همام السلولي وشى به واشٍ إلى عبيد الله بن زياد
_________
(١) انظر: تاريخ بغداد (١٤/ ١٨).
وكذلك الأساسُ الثاني: وهو الإيمانُ بصفاتِ اللَّهِ، وتصديقُ اللَّهِ في كتابِه، وتصديقُ رسولِه في سُنَّتِهِ الصحيحةِ بما مَدَحَ اللَّهُ به نفسَه أو مَدَحَهُ به رسولُه إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ، فلاَ يقولُ اللَّهُ لِوَاحِدٍ منكم يومَ القيامةِ مُوَبِّخًا له مُقَرِّعًا له: لِمَ كنتَ تصدقني فيما أَثْنَيْتُ به على نفسي، وتؤمنُ بالصفاتِ التي مدحتُ بها نفسي إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ؟ لا والله، لا تأتِي أحدًا منكم بَلِيَّةٌ من هذا الأساسِ، ولا يقولُ اللَّهُ لكم: لِمَ كنتُم في دارِ الدنيا تقولونَ: إن العقولَ البشريةَ لا تحيطُ بِاللَّهِ؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ: ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: الآية ١١٠] فهذه عقيدةُ السلفِ الصحيحةُ، الصافيةُ من كُلِّ شائبةِ تشبيهٍ، وَمِنْ كُلِّ شائبةِ تعطيلٍ، فهي طريقُ سلامةٍ محققةٍ، كُلُّهَا عملٌ بنورِ القرآنِ العظيمِ لاَ تَخْتَلِجُهَا شكوكٌ، ولا تَتَطَرَّقُهَا أوهامٌ؛ لأن أولَ أساسِها تنزيهُ خالقِ (١) [السماواتِ والأرضِ عن مشابهةِ المخلوقين، فهي مبنيةٌ] على ثلاثةِ أُسُسٍ كُلُّهَا واضحٌ من نورِ القرآنِ العظيمِ، أولها: تنزيهُ خالقِ السماواتِ والأرضِ عن مشابهةِ خَلْقِهِ.
وثانيها: الإيمانُ بما مَدَحَ اللَّهُ به نفسَه إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ ذلك التنزيهِ، وكذلك ما مَدَحَهُ به رسولُه صلى الله عليه وسلم.
والثالثُ: العجزُ عن الإحاطةِ بِالكَيْفِ وَالْكُنْهِ؛ لأن اللَّهَ يقولُ: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (١١٠)﴾ [طه: الآية ١١٠] فالسلفيُّ بتنزيهِه طاهرُ القلبِ مِنْ أقذارِ التشبيهِ، وإيمانُه بالصفاتِ على أساسِ التنزيهِ طاهرُ القلبِ من أقذارِ التعطيلِ، وباعترافِه بعجزِه عن إدراكِ الكُنْهِ والإحاطةِ واقفٌ عِنْدَ حَدِّهِ، غيرُ مُتَكَلِّفٍ علمَ ما لم
_________
(١) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
عَدْلٌ فِي قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ العَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ بَصَرِي، وِشَفَاءَ صَدْرِي، وَجِلاَءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّي» (١). ومحل الشاهد منه: قوله ﷺ فيه: «أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ» فدل أن له أسماء اسْتَأْثَرَ بِهَا فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَهُ. وهذا هو الأصح؛ لأن صفاته (جل وعلا) الحسنى لا تحصى، وأسماءَهُ لا يُحْصِيهَا غَيْرُهُ (جل وعلا). وقد جاء في رواية الترمذي (٢)
أنه لما ذكر الحديث الذي أصله في الصحيحين: «إِنَّ لله تسعة وتسْعِين اسْمًا، مائة إلا واحِدًا، مَنْ أحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ، وهو جلَّ وعلا وِتْرٌ يُحِبُّ الوِتْرَ - أنه سردها كما يلي - هو الله الذي لاَ إِلَهَ إلا هُوَ الرَّحْمَن، الرَّحِيم، الملك، القُدُّوس، السَّلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المُصَوِّر، الغفار (٣)، الوَهَّابُ، الرزَّاقُ، الفتَّاحُ، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المُعِزُّ، المُذِل، السميع، البصير، الحَكَم، العدل، اللطيف، الخبير،
_________
(١) أحمد (١/ ٣٩١، ٤٥٢)، والحاكم (١/ ٥٠٩ - ٥١٠)، وقال: «صحيح على شرط مسلم إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه؛ فإنه مختلف في سماعه من أبيه»
اهـ. والبيهقي في الأسماء والصفات ص١٨، وابن حبان (الإحسان) (٢/ ١٦٠)، وأبو يعلى (٩/ ١٩٨ - ١٩٩)، وابن السني في عمل اليوم والليلة ص١٣٣، وقال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (٥/ ٢٦٦): «إسناده صحيح» اهـ. ويشهد له أيضًا حديث أبي موسى (رضي الله عنه) عند الطبراني وابن السني.
(٢) تقدم تخريجه قريبًا..
(٣) يأتي بعده في رواية الترمذي. (القهار) وقد سقط هنا.
وَأَظْلَمَتِ الدنيا في عَيْنَيْهِ، ولم يَتَلَذَّذْ بما هو فيه، وقد صَدَقَ أبو الطيبِ حيث يقول (١):

أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِي فِي شُرُورٍ تَيقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالاَ
وهذا معروفٌ عندهم، فكمالُ اللذةِ والنعمةِ إنما هو بالإقامةِ أبدًا، وَاللَّهُ (جلَّ وعلا) نَصَّ في آياتٍ من كتابِه على أن نعيمَ الجنةِ لاَ ينقطعُ ولا يزولُ، كما قال تعالى في سورةِ هودٍ: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨)﴾ [هود: آية ١٠٨] فقولُه: ﴿غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ أي: غيرُ مقطوعٍ أبدًا، وكذلك قولُه: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ [النحل: آية ٩٦] أي: باقٍ لا نفادَ له أبدًا، والآياتُ الدالةُ على هذا متعددةٌ في كتابِ اللَّهِ، وهذا معنَى قولِه: ﴿وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ﴾.
﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [التوبة: الآية ٢٢] على الدوامِ لا يَزُولُونَ، كما قال جلَّ وعلا: ﴿لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً﴾ [الكهف: آية ١٠٨] لا يتحولونَ عنها إلى غيرِها.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ (جل وعلا) ﴿عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ الأجرُ في لغةِ العربِ: جزاءُ العملِ. ومعنَى ﴿أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ أي: جزاء عملهم وهو الجنة، وَوَصَفَهُ باِلْعِظَمِ لِمَا في الجنةِ من عظيمِ الشأنِ؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ فيها: ﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٧)﴾ [السجدة: آية ١٧] ولأَجْلِ هذا وَصَفَ هذا الجزاءَ بالعِظَمِ. وقد جاء مُفَصَّلاً في القرآنِ جميعُ مَلاَذِّهِ، كالمناكحِ في النساءِ التي هُنَّ في غايةِ الجمالِ، والملابسِ التي هي في غايةِ الجمالِ،
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٢) من سورة الأعراف.


الصفحة التالية
Icon