تقولُ: «تَسْتَبِينُ هِنْد وتقوم فلانةُ». و «تستبين السبيلُ» على أنها مؤنثةٌ.
أما على قراءةِ نافعٍ: فالتاءُ في (تستبين) تاءُ خطابٍ ليست تاءَ تأنيثٍ، والفاعلُ غيرُ (السبيل) مضمرٌ، أي: ولتستبين أنتَ يا نَبِيَّ اللَّهِ سبيلَ المجرمين.
و (اسْتَبَانَ) تأتي لازمةً ومتعديةً (١)، (اسْتَبَانَ) و (أَبَانَ) و (تَبَيَّنَ) هذه الأفعالُ الثلاثةُ من المزيدِ من (بَانَ) تأتي في لغةِ العربِ لازمةً ومتعديةً، أما (اسْتَبَانَ) فقد جاءت لازمةً على قراءةِ الجمهورِ، مَنْ قَرَؤُوا: ﴿وليستبينَ سبيلُ المجرمين﴾ ومَنْ قرؤوا ﴿وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ على قراءتِهم كلهم فـ (تستبين) هنا لازمةٌ، و (سبيل المجرمين) فاعلٌ، ولا مفعولَ للفعلِ، أما على قراءةِ نافعٍ: ففعلُ الاستبانةِ هنا مُتَعَدٍّ إلى المفعولِ؛ لأن المعنَى: ولتستبينَ أَنْتَ سبيلَ الْمُجْرِمِينَ، أي: تَتَبَيَّنَهَا وتعرفَها. فهاتانِ القراءتانِ فيهما مثالٌ للزومِ (استبان) وَلِتَعَدِّيهَا.
ونحو (اسْتَبَانَ): (أَبَانَ) و (بَيَّن) فالعربُ أيضا تستعملُ (أبان) لازمةً، تقول: «أبانَ هذا الأمرُ وَاتَّضَحَ». بمعنى: ظَهَرَ. وتستعملها متعديةً للمفعولِ، تقولُ: «أبانَ زيدٌ كَلاَمَهُ، وأبانَ اللَّهُ الأمرَ الفلانيَّ». كما هو معروفٌ، ومن إتيانِ (أبان) لازمةً: يَكْثُرُ في القرآنِ اسمُ فاعلِها ﴿كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [المائدة: آية ٥٩] و (الكتابُ المبينُ) هو مِنْ (أَبَانَ) اللازمةِ. ومن إتيانِ فاعلِ (أبان) اللازمةِ: قولُ كعبِ بنِ زهيرٍ في بَانَتْ سُعَادُ (٢):
_________
(١) انظر: الدر المصون (٤/ ٦٥٥)، الأضواء (٦/ ٢٢٤).
(٢) شرح قصيدة كعب بن زهير، لابن هشام ص٢١٠.
المعروف -زياد ابن أبيه، الذي يقولون له: زياد بن أبي سفيان؛ لأنه استلحقه معاوية بعد موت أبي سفيان، وهو معروف- قال لعبيد الله بن زياد واشٍ من الوشاة: إن ابن همام السلولي يعيبك ويقول فيك كذا وكذا، فأحضر ابنُ زياد الواشي، وجعله في غرفة قريبةٍ، وأحضر السلولي، وقال: لِمَ تعيبني وتقول فيَّ كذا وكذا؟ قال: أصلح الله الأمير، ما قلت شيئاً من ذلك! ففتح وأخرج الواشي، وقال: هذا أخبرني أنك قلت كذا وكذا! فسكت ابن همام هُنيهة ثم قال يخاطب الواشي:
وَأَنْتَ امْرُؤٌ إِمَّا ائْتَمَنْتُكَ خَالِيًا... فَخُنْتَ، وَإِمَّا قُلْتَ قَوْلًا بِلَا عِلْمِ...
فَأَنْتَ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي كَانَ بَيْنَنَا | بِمَنْزِلَةٍ بَيْنَ الخِيَانَةِ وَالْإِثْمِ (١) |
ففهمها ابن زياد، وقال للواشي: اخرج عنّي. ولم يتعرَّض لابن همام السلولي بسوء.
وهذا هو الذي ذكره الله هنا، بأن حصر الأوصاف بالذكورة والأنوثة، والتخلق في الرحم، وبيَّن بطلان كلها؛ إذ لو كانت الذكورة لحرم كل ذكر، ولو كانت الأنوثة لحرَّم كل أنثى، ولو كانت التَّخَلُّق
_________
(١) انظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (١٤/ ١٢٧).
يَعْلَمْ، فطريقُه طريقُ سلامةٍ محققةٍ، فإذا سَمِعَ السلفيُّ قولَه تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف: الآية ٥٤] كما في آيةِ الأعرافِ هذه فيقولُ: هذا الاستواءُ على العرشِ الذي مَدَحَ خالقُ السماواتِ والأرضِ نفسَه في سبعِ آياتٍ من كتابِه هو صفةُ كمالٍ وجلالٍ بالغةٌ من غاياتِ الكمالِ والجلالِ ما يقضي على جميعِ الوساوسِ ويقطعُ علائقَ أوهامِ التشبيهِ بينَه وبينَ صفاتِ المخلوقين، فَيَمْتَلِئُ قلبُه لهذه الصفةِ من الإجلالِ والإعظامِ والإكبارِ والتقديسِ والتنزيهِ، فتكونُ أرضُ قلبِه طاهرةً بهذا التنزيهِ الكريمِ فيؤمنُ بالاستواءِ على أساسِ هذا التنزيهِ والإكبارِ والإجلالِ والإعظامِ والتقديسِ عن مشابهةِ صفاتِ الْخَلْقِ بوجهٍ من الوجوهِ؛ لأَنَّ الخلقَ مَنْ هُمُ الْخَلْقُ؟ أليسوا صنعةً من صَنَائِعِهِ وَأَثَرًا من آثارِ قدرتِه وإرادتِه؟ فكيفَ يخطرُ في ذهنِ العاقلِ أن يُشَبِّهُوهُ؟
فالسلفيُّ إذا سَمِعَ مثلَ هذه الآيةِ الكريمةِ: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ مَدَحَ نفسَه بهذا الاستواءِ الأعظمِ امتلأَ قلبُه من الإجلالِ والإعظامِ والإكبارِ والتقديسِ والتنزيهِ لهذه الصفةِ العظيمةِ فَأَثْبَتَهَا لِلَّهِ (جل وعلا) إِثْبَاتًا مَبْنِيًّا على أساسِ ذلك التنزيهِ على نحوِ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: الآية ١١] وليسَ الاستواءُ بأكثرَ في المخلوقين من السمعِ والبصرِ، بل استواءُ المخلوقين كسائرِ ذواتِهم وصفاتِهم، واستواءُ اللَّهِ وَسَمْعُهُ وبصرُه لائقانِ بذاتِه كسائرِ صفاتِه (جل وعلا) فالمخلوقُ حَقٌّ، وصفاتُه حَقٌّ، والخالقُ حَقٌّ، وصفاتُه حَقٌّ، إلا أن صفاتِ المخلوقِ مُنَاسِبَةٌ لذاتِ المخلوقِ، مُنْحَطَّةٌ كانحطاطِ ذاتِ المخلوقِ، وصفاتُ الخالقِ لائقةٌ بذاتِ الخالقِ، مُتَعَاظِمَةٌ كعظمةِ ذاتِ الخالقِ (جل وعلا) وَبَيْنَ صفةِ هذا وهذا مثلُ ما بينَ ذاتِ هذا
الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحَفِيظ، المُقِيت، الحَسِيب، الجليل، الكريم، الرَّقيب، المُجيب، الواسِعُ، الحكيم، الودود، المجيد، الباعِث، الشَّهِيد، الحق، الوكيل، القَوِيُّ، المتين، الوَلِيُّ، الحميد، المُحْصِي، المُبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحَيّ، القيوم، الواجد، الماجِد، الواحِد، الأحَد (١)،
الفرد (٢)، الصَّمد، القادر، المقْتَدِرُ، المُقَدِّم، المُؤَخِّرُ، الأوَّلُ، الآخِرُ، الظاهِرُ، الباطن، الوالي، المتعالي، البَرُّ، التَّوَّابُ، المنْتَقِمُ، العَفُوُّ، الرَّؤُوفُ، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المُقسِط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضَّار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور». هكذا ذكره،
_________
(١) هذان الاسمان غير موجودين في رواية الترمذي التي أشار لها الشيخ رحمه الله. و (الأحد) ضمن الأسماء المذكورة في أحد روايتي الحاكم (١/ ١٧)، وهو عند ابن ماجه في السنن، كتاب الدعاء، باب أسماء الله عز وجل. حديث رقم: (٣٨٦١)، (٢/ ١٢٧٠)، والبيهقي في الأسماء والصفات ص١٩، وعقبه بقوله: «تفرد بهذه الرواية عبد العزيز بن الحصين بن الترجمان وهو ضعيف الحديث عند أهل النقل، ضعفه يحيى بن معين ومحمد بن إسماعيل البخاري» اهـ. وأخرجه أيضًا في كتاب الاعتقاد ص١٤. وأبو نعيم في جزئه في الأسماء الحسنى ص٢٠ (١٨)، وابن خزيمة في صحيحه كما في الفتح (١١/ ٢١٦).
وأما الفرد فقد ساق فيه البيهقي حديثين في كتابه الأسماء والصفات ص١٧، الأول منهما: عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما) مرفوعًا. والثاني: عن محمد بن طلحة عن رجل مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وعقبهما بقوله: «ليس هذا بالقوي وكذلك ما قبله» اهـ. كما ورد هذا الاسم من طريق الوليد بن مسلم عند أبي نعيم في تعداد الأسماء في جزئه في الأسماء الحسنى، وانظر الفتح (١١/ ٢١٦).
(٢) نفس تخريج المرجع (١).
والمشاربِ والأوانِي وَالْحُلِيِّ والولدانِ والغلمانِ إلى غيرِ ذلك من نعيمِ الجنةِ المفصلِ في آياتِ هذا القرآنِ العظيمِ، وهذا معنَى قولِه: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢)﴾ [التوبة: آية ٢٢].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣)﴾ [التوبة: آية ٢٣].
سببُ نزولِ هذه الآيةِ الكريمةِ أنه كان رجالٌ من المسلمينَ يؤمنونَ بِاللَّهِ ويريدونَ الهجرةَ، فإذا أرادَ الواحدُ منهم أن يهاجرَ إلى رسولِ اللَّهِ ليشاركَ المسلمينَ فيما هُمْ فيه مِنَ الجهادِ في سبيلِ اللَّهِ والدعوةِ إلى اللَّهِ جاءته امرأتُه وأولادُه وأبوه وأخوه يناشدونَه بالله أَلاَّ يذهبَ عنهم، ويقولونَ له: إلى مَنْ تَكِلُنَا؟ وَيُثَبِّطُونَهُ، فبعضُهم يَمْكُثُ مِنْ أَجْلِ هذا. فنهاهم اللَّهُ عن هذا، وسيأتِي في سورةِ التغابنِ آيةُ التغابنِ النازلةُ في عوفِ بنِ مالكٍ الأشجعيِّ، وهي قولُه: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾ [التغابن: آية ١٤] لأنها نَزَلَتْ في عوفِ بنِ مالكٍ، كان كُلَّمَا أرادَ الهجرةَ جاءت امرأتُه وأولادُه وَنَاشَدُوهُ بالله، وقالوا: إلى مَنْ تَكِلُنَا؟ فَيَتَثَبَّطُ، فَلَمَّا هاجرَ بعدَ ذلك وجدَ المسلمينَ سَبَقُوهُ بِكُلِّ خيرٍ، فَنَدِمَ وأرادَ أن يضربَ امرأتَه وأولادَه بسببِ تثبيطهم إياه. فَأَمَرَ اللَّهُ المسلمينَ أن يتحفظوا من الأولادِ والأزواجِ لئلا يُثَبِّطُوهُمْ عن الجهادِ في سبيلِ اللَّهِ، وأنهم إن وَقَعَ منهم شيءٌ أن لا يُؤَاخِذُوهُمْ، بل يَعْفُوا عنهم