قَنْوَاءُ فِي حُرَّتَيْهَا لِلْبَصِيرِ بِهَا | عِتْقٌ مُبِينٌ وَفِي الْخَدَّيْنِ تَسْهِيلُ |
لَوْ دَبَّ ذَرٌّ فَوْقَ ضَاحِي | جِلْدِهَا لأَبَانَ مِنْ آثَارِهِنَّ حُدُورُ |
إِذَا آبَاؤُنَا وَأَبُوكَ عُدُّوا | أَبَانَ الْمُقْرِفَاتِ (٣) مِنَ الْعِرَابِ (٤) |
وَلِلْحُبِّ آيَاتٌ تَبَيَّنُ بِالْفَتَى | شُحُوبٌ وَتَعْرَى مِنْ يَدَيْهِ الأَصَابِعُ (٧) |
_________
(١) البيت في اللسان (مادة: بين) (١/ ٣٠٢).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٦) من هذه السورة.
(٣) جمع (مُقْرِف) وهو من الفرس وغيره: ما يُداني الهُجْنَة، أي أُمه عربية لا أبوه. انظر: القاموس (مادة: القِرْف) (١٠٩١).
(٤) العراب: هي التي عتقت وسلمت من الهُجنة. انظر: القاموس (مادة: العُرب) (١٤٥).
(٥) انظر: الأمثال لأبي عبيد ص٥٩، معجم الأمثال العربية (٣/ ٢٦٠).
(٦) البيت في اللسان (مادة: بين) (١/ ٣٠٢).
(٧) في اللسان: الأشاحم.
في الرحم لحرّم الجميع، فتبين كذبهم وبطلانهم، ثم أتبع هذا بقوله: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ﴾؛ لأنهم لما أعيتهم الحجة، ذكر المؤرخون أن رئيسهم الذي ناظر النبي - ﷺ - في هذا مالك بن عوف الجُشَمي الهوازني، وأن النبي - ﷺ - قال له: «إذا كنتم تحرمون الذكور فَلِمَ فرقتم بين ذَكَرٍ وذَكَرٍ؟ وإذا كنتم تحرِّمون الإناث فما العِلَّة التي فَرَّقْتُمْ بِهَا بَيْنَ أنْثَى وأُنْثَى، أو الله أمَرَكُمْ بهذا؟» ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا﴾ [الأنعام: الآية ١٤٤] فَبُهِتَ وسكت (١).
وكانوا إذا عجزوا وغُلِبُوا بالدليل قالوا: وجدنا عليها آباءَنَا والله أمرنا بها، فقطع الله دابر ذلك أيضًا فقال: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً﴾ وقال: إنه أمره بالباطل ﴿قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء﴾ [الأعراف: الآية ٢٨] لأجل أن يضل الناس بغير علم، أي: بتشريع جاهلي بغير علم ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ وهذه الآية يدخل فيها كُلّ مَنْ قَال بأمورٍ لا توافق الشرع، ودعا خلقاً يتبعونه إليها فإنه يدخل في عمومها.
وقوله: ﴿لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ فيه سؤال معروف؛ لأن
_________
(١) هذه الرواية أوردها البغوي في التفسير (٢/ ١٣٧)، وأبو حيان في البحر (٤/ ٢٣٩) دون عزوٍ لمن خرّجها.
ولمالك بن عوف مع النبي - ﷺ - حين قدم عليه حديث له تعلق بهذه الآية لكنه بسياق آخر غير هذا. وقد أخرجه أحمد (٣/ ٤٧٣)، (٤/ ١٣٦، ١٣٧)، والطيالسي ص ١٨٤، وابن جرير (١١/ ١٢١، ١٢٢)، والبيهقي في السنن (١٠/ ١٠)، وابن أبي حاتم (٤/ ١٢٢٠)، وعزاه السيوطي في الدر (٢/ ٣٣٧) لعبد بن حميد، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات.
وهذا كما هو معروفٌ.
فإذا سَمِعَ السلفيُّ: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ تَلَقَّى هذا الاستواءَ بالإعظامِ والإجلالِ والتقديسِ والتنزيهِ فكان قلبُه طَاهِرًا من أقذارِ التشبيهِ، ثم آمَنَ به على أساسِ ذلك التنزيهِ مع العجزِ عن إدراكِ الكيفيةِ، فهو في أولِ أَمْرِهِ مُنَزَّهٌ، وفي ثانِي أمرِه مؤمنٌ بالصفةِ، مُصَدِّقٌ رَبَّهُ على أساسِ التنزيهِ، عالمٌ بأنه عاجزٌ عن إدراكِ الكيفيةِ، فمذهبُه طريقُ سلامةٍ محققةٍ لا شَكَّ فيها، ليس فيها شائبةُ تَشْبِيهٍ، ولا شائبةُ تعطيلٍ، ولا تكلف بعلمِ ما لم يَعْلَمْ.
أما الخلفيُّ إذا سَمِعَ قولَه: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ فإنه يَدْخُلُ في ثلاثِ بلايا عِظَامٍ، كُلُّ بَلِيَّةٍ أكبرُ من أُخْتِهَا، وليس من المظنونِ أن يتخلصَ منها يومَ القيامةِ إن لم يَعْذُرْهُ اللَّهُ بجهلِه:
أَوَّلُهَا: أنه إذا سَمِعَ قولَه: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [طه: الآية ٤] قال: هذا الاستواءُ أولُ ما يَتَبَادَرُ منه للأذهانِ - ظاهرُه المتبادرُ منه للأذهانِ - أنه مُشَابِهٌ لاستواءِ المخلوقين، فكأنه يقولُ لِلَّهِ: هذا الوصفُ العظيمُ الكريمُ الذي مَدَحْتَ به نفسَك ظاهرُه قذرٌ نَجِسٌ؛ لأنه لا كلامَ أقذر ظاهرًا ولاَ أنجسَ ظاهرًا ولا أخبثَ ظاهرًا ولا أَنْتَنَ ظاهرًا من كلامٍ ظاهرُه تشبيهُ اللَّهِ بخلقِه، فهذا الظاهرُ هو أَنْتَنُ ظاهرٍ يُوجَدُ في الكلامِ وأقبحُه وأقذرُه وأنجسُه، فكأنه يقولُ لِلَّهِ: ظاهرُ ما مدحتَ به نفسَك المتبادر منه قذرٌ نجسٌ خبيثٌ لا يَلِيقُ، وهو مشابهةُ الخلقِ، فأولُ ما يسبقُ في قلبِه تشبيهُ صفةِ الخالقِ بخلقِه، فيكونُ هذا أولَ بذرٍ للشرِّ في قلبِ هذا المسكينِ من حيثُ لا يشعرُ، ثم إذا اسْتَحْكَمَ في قلبِه أن ظاهرَ هذا الاستواءِ المتبادر منه هو مشابهةُ الخلقِ اضطر إلى أن ينفيَه من أصلِه، وقال: هذا الذي مدحتَ به نفسَك لا يليقُ ظاهرُه!! ثم نفاه من أصلِه، نفى صفةَ الاستواءِ من أصلِها!! وهذه
وذكر بعضهم في السنن وغيره زيادات على هذا ونقصًا (١). وبعض المحققين يقولون: إن هدا مدرج في الحديث الصحيح جمعه العلماء من القرآن (٢). وكان ابن العربي يقول: إنه جمع حوالي ألف اسم من القرآن العظيم والأحاديث الصحيحة (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ﴾ [الأعراف: آية ١٨٠] (ذرواْ) معناه اتركوا: وصيغة الأمر هنا للتهديد على التحقيق، وقد تقرر في فن الأصول في مباحث الأمر، وفي فن المعاني: أنَّ من الصيغ التي تأتي لها (افْعَل) أنها تأتي للتهديد (٤). والتحقيق أن الصورة هنا للتهديد، وهو قوله: ﴿وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ﴾ بدليل قوله: ﴿مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ (٥).
_________
(١) تقدم ضمن تخريج الحديث المتقدم قريبًا.
(٢) انظر: مجموع الفتاوى (٢٢/ ٤٨٢)، فتح الباري (١١/ ٢١٤ - ٢١٩).
(٣) قال في أحكام القرآن (٢/ ٨٠٨). «وعددناها على ما ورد في الكتاب والسنة وذكره الأئمة فانتهت إلى ستة وأربعين ومائة» اهـ. ثم سردها وعقب ذلك بقوله ص٨١٥: «هذا منتهى ما حضر من ذكر الأسماء للتضرع والابتهال، وقد بقي نحوٌ من ثلاثين اسمًا ضمنّاها كتاب الأمد، هذه أصولها» اهـ. قال الحافظ في الفتح (١١/ ٢٢٠): «وحكى القاضي أبو بكر بن العربي عن بعضهم أن لله ألف اسم. قال ابن العربي: وهذا قليل فيها» اهـ ونقله أيضًا الأبي في شرحه لمسلم (٧/ ١١٦). وقال ابن القيم في زاد المعاد (١/ ٨٨): «وأما إن جُعل له - أي: النبى ﷺ - من كل وصف من أوصافه اسم تجاوزت أسماؤه المائتين... وفي هذا قال من قال من الناس: إن لله ألف اسم وللنبي ﷺ ألف اسم. قاله أبو الخطاب بن دحية، ومقصوده الأوصاف» اهـ.
(٤) مضى عد تفسير الآية (١١٢) من سورة الأنعام.
(٥) انظر: الأضواء (٢/ ٣٣٩).
وَيَصْفَحُوا (١)، كما قال في آيةِ التغابنِ: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾ [التغابن: آية ١٤] ثم قال: ﴿وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي: اصْفَحُوا عنهم واغفروا لهم ولا تُؤَاخِذُوهُمْ. وهذا معنَى قولِه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ﴾ [التوبة: آية ٢٣] قالوا: لم يَذْكُرِ الأولادَ هنا وَذَكَرَهَا في غيرِ هذا الموضعِ، لاَ تتخذوهم أولياءَ تُوَالُونَهُمْ إذا كانوا يريدونَ أن يقطعوكم عن الهجرةِ.
﴿إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ﴾ قرأ الهمزةَ الثانيةَ من قولِه: ﴿أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ﴾ نافعٌ وابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو مسهلةً بَيْنَ بَيْنَ، والباقونَ بتحقيقِها كما هو مَعْلُومٌ (٢).
ومعنَى ﴿اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ﴾ معناه: اختارُوه وآثَرُوهُ على الإيمانِ، إن آثَرُوا الكفرَ واختارُوه على الإيمانِ لاَ تَتَّخِذُوهُمْ أولياءَ، بل قَاطِعُوهُمْ وَهَاجِرُوا ولا تَرْكَنُوا إليهم. ويتعددُ في القرآنِ إطلاقُ (اسْتَحَبَّ) بمعنَى: (اخْتَارَ) و (آثَرَ) ومنه قولُه: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصلت: آية ١٧] أي: فاختارُوه وَآثَرُوهُ عليه. ومنه قولُه: ﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ﴾ [إبراهيم: آية ٣] أي: يُؤْثِرُونَهَا ويقدمونَها عليها. وهذا معنَى قولِه: ﴿إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ﴾ [التوبة: آية ٢٣] فيكونُ معهم فيما هُمْ فيه ويتركُ الهجرةَ ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
_________
(١) الترمذي في التفسير، باب: ومن سورة التغابن، حديث رقم: (٣٣١٧) (٤/ ٤١٩)، والحاكم (٢/ ٤٩٠)، وابن جرير (٢٨/ ١٢٥)، وانظر: صحيح الترمذي (٣/ ١٢١).
(٢) انظر: الإتحاف (٢/ ٨٩).