الجوابُ عن الأولِ: أن الواوَ في قولِه: ﴿وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ تتعلقُ بمحذوفٍ، واختلفوا في تقديرِه، قال بعضُهم: هو مُقَدَّرٌ بعدَها، وتقريرُ المعنى: ولأَجْلِ أن تستبينَ سبيلُ المجرمين فَصَّلْنَا لكَ هذا التفصيلَ. أي: ولأَجْلِ استبانتِها فَصَّلْنَا. وقال بعضُ العلماءِ: هو معطوفٌ على عِلَّةٍ محذوفةٍ، فدل المقامُ عليه: وكذلك نفصلُ الآياتِ لنبينَ لكم، ولتستبينَ سبيلُ المجرمين.
أما الجوابُ عن السؤالِ الثاني: وهو لِمَ خَصَّ سبيلَ المجرمين؟ فللعلماءِ عَنْهُ جَوَابَانِ:
أحدُهما: أن سبيلَ المجرمين إذا عُرِفَتْ عُرِفَتْ منها سبيلُ المسلمين؛ لأن الأشياءَ تُعْرَفُ بأضدادِها، وإذا عَرَفَ الإنسانُ الشرَّ عرفَ أن مُقَابِلَهُ هو الخيرُ، وكان حذيفةُ بنُ اليمانِ (رضي الله عنه) - كما ثَبَتَ عنه في الصحيحين - يسألُ عن الشرِّ لِيَعْرِفَهُ، ومعرفةُ الشرِّ على هذا طَيِّبَةٌ يعلمُها الناسُ لِيَتَجَنَّبُوهَا ويعلموا أن ما سواها هو الخيرُ، كما ثَبَتَ في الصحيحين عن حذيفةَ (رضي الله عنه): كان الناسُ يسألون رسولَ اللَّهِ - ﷺ - عن الخيرِ،
وكنتُ أسألُه عن الشرِّ مخافةَ أن يُدْرِكَنِي (١).
قال بعضُ العلماءِ: في الآيةِ هنا حذفُ الواوِ وما عَطَفَتْ، أي:
_________
(١) أخرجه البخاري مختصرا، كتاب مواقيت الصلاة، باب: الصلاة كفارة، حديث رقم (٥٢٥)، (٢/ ٨)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر: الأحاديث (١٤٣٥، ١٨٩٥، ٣٥٨٦، ٧٠٩٦)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب: وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، حديث رقم (١٨٤٧)، (٣/ ١٤٧٥).
وقوله: ﴿أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً﴾ عطف على قوله: ﴿مَيْتَةً﴾. أما على قراءة الجمهور (١) فهو منصوب معطوف على منصوب ﴿إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً﴾، فهو معطوف على ﴿مَيْتَةً﴾ (٢) المنصوب على أنه خبر كان.
وأما على قراءة ابن عامر ﴿لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن تَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً﴾ فَعَطْفُ المنصوب على المرفوع قد يُشكل على طالب العلم، والجواب (٣): أن قوله: ﴿أَوْ دَماً﴾ بالنصب في قراءة ابن عامر معطوف على المصدر المنسبك من (أن) وصلتها في قوله: ﴿إِلَّا أَن يَكُونَ﴾ إلا كونه ميتة أو دمًا، هكذا قاله بعض المُعْرِبين.
والدم المسفوح: المسفوح اسم مفعول (سَفَحَه يَسْفَحه) إذا صبّه (٤)، وتقول العرب: سفح الماءُ فهو سافح، وسَفَحَه بولُه يَسْفَحه فهو سافح، والمفعول: مسفوح. وقد يستعمل متعدياً ولازماً؛ فمن استعماله متعدياً قوله هنا: ﴿أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً﴾ لأن المسفوح اسم مفعول (سَفَحَه يَسْفَحه) فالفاعل سافِح، والمفعول مسفوح: إذا أراقه وصبّه، ومن إتيان (السافح) اسم فاعل (سَفَحَ) اللازمة قول ذي الرمة
_________
(١) وهي: ﴿إِلَّا أَن يَكُونَ﴾ بالياء ﴿ميْتةً﴾ بالنصب. انظر: المبسوط لابن مهران ص ٢٠٤.
(٢) انظر: ابن جرير (١٢/ ١٩٧)، البحر المحيط (٤/ ٢٤١)، الدر المصون (٥/ ١٩٧).
(٣) انظر: البحر المحيط (٤/ ٢٤١)، الدر المصون (٥/ ١٩٧).
(٤) انظر: القاموس (مادة: السفح) ٢٨٧، عمدة الحفاظ (مادة: سفح) ص ٢٤٢، الدر المصون (٥/ ١٩٨).
استيلاءِ المخلوقين.
فنقول له: نناشدكَ اللَّهَ أَنْصِفْ في الجوابِ ولا تُعْمِيكَ الأهواءُ والتعصباتُ، أيهما أحقُّ بالتنزيهِ، الأحقُّ بالتنزيهِ الاستواءُ الذي هو من كلامِ رَبِّ العالمين، ولفظ القرآنِ العظيمِ، نَزَلَ به الروحُ الأمينُ من فوقِ سبعِ سماواتٍ على سيدِ الخلقِ ﷺ قُرْآنًا يُتْلَى، الحرفُ منه بعشرِ حسناتٍ يُقْرَأُ به في الصلواتِ، وَمَنْ أَنْكَرَ أنه من كلامِ رَبِّ العالمين كَفَرَ بإجماعِ العلماءِ، فهذا هو الأحقُّ بالتنزيهِ أَمِ الأحقُّ بالتنزيهِ لفظةُ الاستيلاءِ الذي جاء به ناسٌ مِنْ قِبَلِ أنفسِهم من غيرِ اعتمادٍ على دليلٍ من كتابٍ وَلاَ سُنَّةٍ ولا عقلٍ ولا لغةٍ ولا شيءٍ؟ ولا شكَّ أنه إن لم يكن مُكَابِرًا سيضطر إلى أن يقولَ: كلامُ رَبِّ العالمين أَحَقُّ بالتنزيهِ والإجلالِ والتقديسِ من كلامٍ جاءَ به ناسٌ من غيرِ اعتمادٍ على كتابٍ ولا سُنَّةٍ؛ فَلِذَا مذهبُ الخلفِ تحتَه ثلاثُ بَلاَيَا:
أولُها: أنهم يَدَّعُونَ على آياتِ اللَّهِ التي مَدَحَ بها نفسَه أن ظاهرَها خبيثٌ قذرٌ، فكأنَّهم يقولونَ لله: هذا الذي مدحتَ به نفسَك، وأثنيتَ به على نفسكَ، وعلَّمتَ خلقَك أن يمدحوك به في كتابِك هذا قذرٌ نجسٌ لاَ يليقُ، ونحن نأتيك بالكمالِ من عندِ أنفسنا، ويأتوا بكمالٍ من عندِ أنفسِهم مزعومٍ!! هذا هوسٌ وجنونٌ لاَ يقولُ به عاقلٌ.
فَالْبَلِيَّةُ الأُولَى: هي الادعاءُ على النصوصِ أن ظاهرَها لاَ يليقُ بِاللَّهِ.
والبليةُ الثانيةُ: هي نفيُ الصفاتِ التي مَدَحَ اللَّهُ بها نفسَه.
والبليةُ الثالثةُ: هي الأمرُ الذي يجيئونَ به من عندِ أنفسِهم الذي هو أعظمُ الأمورِ تَشْبِيهًا، وأوغلُها في التشبيهِ، فبأيِّ عقلٍ وبأيِّ نقلٍ، وبأيِّ كتابٍ أو سُنَّةٍ يسوغُ للخلفيِّ أن يُشَبِّهَ استيلاءَ اللَّهِ على عرشِه
أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى قوله: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ﴾.
﴿يَهْدُونَ بِالْحَقِّ﴾ لا معناها: يهدون الناس بالحق، وهو اتباعه ﷺ والعمل بهذا القرآن ﴿وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ يعملون هم في أنفسهم؛ لأن من عمل به عدل وأصاب العدالة وتنحى عن طرف الإفراط والتفريط؛ لأن العدالة هي التوسط بين الأمرين، والتجافي عن طرف الإفراط وطرف التفريط. وهذا معنى قوله: ﴿وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾.
[٢٥/أ] / {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شيء وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ
رِبْحُهَا، إِن كان هذا كُلُّهَ أحبَّ إليكم من اللَّهِ وَمِنْ رَسُولِهِ ومن الجهادِ في سبيلِه ﴿فَتَرَبَّصُوا﴾ هو أمرُ تهديدٍ كما يَأْتِي.
وقولُه: ﴿آبَاؤُكُمْ﴾ اسمُ كَانَ. و ﴿أَحَبَّ﴾ خبرُها.
ومعنَى الآيةِ الكريمةِ: قُلْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لهؤلاء المتخلفينَ عن الهجرةِ في سبيلِ اللَّهِ بسببِ هذه العوائقِ الآتيةِ، قُلْ لَهُمْ: إن كانت هذه الأمورُ التي عَاقَتْكُمْ أَحَبَّ إليكم من اللَّهِ ومن رَسُولِهِ ومن جهادٍ في سبيلِه فانتظروا أمرًا يأتيكم مِنَ اللَّهِ. وهذا معنَى قولِه: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ﴾.
الآباءُ جمع الأبِ، والعربُ تقولُ: «أَبٌ» إذا نَكَّرَتْهَا تعربُها على العينِ وتحذفُ لاَمَهَا ولاَ تُعَوِّضُ منه شيئًا، وهي من الأسماءِ التي تُعْرَبُ على العينِ عند التنكيرِ والتعريفِ. أما إذا أُضيفت فَإِنَّ لاَمَهَا تَرْجِعُ لها (١)، وأصلُ لاَمِ (الأب) واوٌ، أصلُه (أبوٌ) فلامُ الكلمةِ وَاوٌ، فإنها إذا أُضِيفَتْ - مثلاً - أُعْرِبَتْ بالواوِ والألفِ والياءِ، فَرَجَعَتْ لها لامُها كما هو معروفٌ. وإذا نُكِّرَتْ أو عُرِّفَتْ أُسْقِطَتْ لامُها وَأُعْرِبَتْ على العينِ (٢).
والإخوانُ جمعُ أخٍ. وأصلُ (أخٍ) أيضًا لاَمُهُ المحذوفةُ واو؛ ولهذا رَجَعَتْ في جمعِ التكسيرِ في قولِه: ﴿وَإِخْوَانُكُمْ﴾ فالأخُ أصلُه (أخوٌ) بالواوِ، فلامُه المحذوفةُ واوٌ (٣)، وهو كالأبِ في جميعِ ما كنا نَذْكُرُ. هذا معنَى قولِه: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ﴾. الأبناءُ جمعُ الابنِ وهو معروفٌ.
_________
(١) انظر: شرح قطر الندى ص٤٦.
(٢) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص٧.
(٣) انظر: المصدر السابق ص١٧.


الصفحة التالية
Icon