آية ٢٣] وهمزةُ (الأهواءِ) مُبْدَلَةٌ من (ياءٍ)، على القياسِ المعروفِ: أن كُلَّ واوٍ أو ياءٍ تَطَرَّفَتْ بعد ألفٍ زائدةٍ وَجَبَ إبدالُها همزةً. وأصلُ الهوى: (هَوَيٌ) بفتحتين (١). والمادةُ مما يُسَمِّيهِ علماءُ الصرفِ: اللفيفَ المقرونَ (٢). عينها واو، ولامها ياء، قُلِبَتِ الياءُ في محلِّ اللامِ أَلِفًا، فقيل لها: «هوى» وَأُبْدِلَتْ عند التكسيرِ همزةً، كما هو معروفٌ في فَنِّ الصرفِ (٣)،
والمعنى: لا أَتَّبِعُ أهواءَكم الباطلةَ في عبادةِ الأصنامِ والإشراكِ بِاللَّهِ (جل وعلا)؛ لأني لا أَتَّبِعُ الهوى، ولا أتبعُ إلا الحقَّ، كما يأتي في كونِه على بينةٍ مِنْ رَبِّهِ. وهذا من جملةِ ما أَمَرَهُ رَبُّهُ أن يقولَ.
﴿قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ قُرِئَ بإدغامِ الدالِ في الضادِ ﴿قَد ضَّللتُ إِذًا﴾ وقرأه بعضُ السبعةِ بالإظهارِ (٤) ﴿قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا﴾. ﴿إِذًا﴾ معناه: إِنِ اتَّبَعْتُ أهواءَكم فقد ضَلَلْتُ ولم أكن من المهتدين. والمعنى: لا أَضِلُّ، ولا أخرجُ عن طريقِ الْهُدَى، ولا أتبعُ أهواءَكم أبدًا.
وهذه الآيةُ تدلُّ على أن مَنِ اتَّبَعَ هواه بغيرِ علمٍ ولا دليلٍ أنه ضَالٌّ، وأنه ليس من المهتدين.
_________
(١) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص٤٧٨، التوضيح والتكميل (٢/ ٤٨٢).
(٢) انظر: الكليات ص٧٩٨.
(٣) انظر: شرح الكافية (٤/ ٢١٢٩ - ٢١٣٠)، الدر المصون (١/ ٤٩٩)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص٢٧١، التوضيح والتكميل (٢/ ٤٨٢)..
(٤) انظر: النشر (٢/ ٣).
والمشهور عند المفسرين في أسباب النزول أن خواتيم (النحل) هذه مدنية، أما نفس سورة النحل فهي مكية.
وقد نزلت سورة النحل في مكة بعد سورة الأنعام، ودلّ القرآن في موضعين على أن النحل نازلة بعد الأنعام، أحد الموضعين: أن الله قال في النحل: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ﴾ [النحل: الآية ١١٨]، والمحرم المُحال عليه المَقْصُوص من قبل هو المذكور في الأنْعَامِ إِجْمَاعاً في قوله: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا﴾ الآية [الأنعام: الآية ١٤٦].
الموضع الثاني من الموضعين الدَّالين على نزول الأنعام قبل النحل: أن الله قال في سورة الأنعام: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا﴾ [الأنعام: الآية ١٤٨] فبيَّنَ أنهم سيقولونها في المستقبل، فَعُلم أنهم لم يقولوها فعلاً في ذلك الوقت، وبَيَّنَ في سورة النحل أن ذلك القول الذي كان موعوداً بأنه يُقال: أنه قيل ووقع في سورة النحل، حيث قال في النحل: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [النحل: الآية ٣٥]، فدلّ هذا على أن النَّحْلَ بَعْدَ الأنْعَامِ (١)، وأن السور الثلاث -أعني النحل، والبقرة، والمائدة- جاء فيها تحريم الدم مطلقًا من غير قَيْدٍ، وجاء في السورة النازلة أولاً وهي الأنعام تقييده بكونه مسفوحاً بقوله هنا: ﴿أَوْ دَماً مَسْفُوحاً﴾.
فجماهير العلماء من الصحابة وفقهاء الأمصار على أن تلك الآيات المطلقة في النحل والمائدة والبقرة تُقَيَّد بقيد (الأنعام)
_________
(١) انظر: أضواء البيان (٢/ ٢٤٨).
وَنَفَوْا بعضَ الصفاتِ بأقيسةٍ منطقيةٍ اسْتَنْتَجُوا نفيَ بعضِ الملزوماتِ من نفيِ اللوازمِ - في زعمِهم - أن ذلك غلطٌ منهم (... ) (١) زعموا أن هنالك صفةً نفسيةً، وصفةً سلبيةً، وصفةَ معنًى، وصفةً معنويةً، وصفةَ فِعْلٍ، وصفةً جامعةً. وَمَثَّلُوا لكلٍّ مِنْ هذا، وسنذكرُ لكم نَمُوذَجًا في أن كُلاًّ من الصفاتِ التي ذَكَرُوهَا جاء في القرآنِ العظيمِ وصفُ الخالقِ بها، وجاءَ فيه وصفُ المخلوقِ بها علينا أن نعتقدَ أن وصفَ اللَّهِ حَقٌّ، وأن وصفَ المخلوقِ حَقٌّ، وَلَكِنَّ وَصْفَ اللَّهِ لائقٌ بِاللَّهِ، مُنَزَّهٌ عن مشابهةِ صفةِ المخلوقِ، ووصفُ المخلوقِ لائقٌ بالمخلوقِ ولا يليقُ بالله (جل وعلا) وبينَ وصفِ الخالقِ والمخلوقِ من المنافاةِ كما بينَ ذاتِ الخالقِ والمخلوقِ، فبعضُهم لا يُقِرُّ من صفاتِ المعانِي الثابتةِ إلا بسبعٍ، وهي القدرةُ والإرادةُ والعلمُ والحياةُ والسمعُ والبصرُ والكلامُ، وينفي غيرَ هذه السبعِ من المعانِي الثابتةِ في كتابِ اللَّهِ بدعوى أن ظاهرَها خبيثٌ لاَ يليقُ ويؤولونَها بأمورٍ أُخَرَ كما ذَكَرْنَا، وَيُثْبِتُونَ هذه السبعَ المعانيَ.
والمعتزلةُ ينفونَ هذه المعانيَ السبعةَ ويثبتونَ أحكامَها فيقولونَ: هو قادرٌ بذاتِه لاَ بقدرةٍ قامت بالذاتِ، سميعٌ بذاتِه لاَ بسمعٍ قائمٍ بالذاتِ. ومذهبُهم يعلمُ كُلُّ عاقلٍ أنه مذهبٌ متناقضٌ باطلٌ لا يَشُكُّ فيه أَدْنَى عَاقِلٍ.
فنقولُ: القدرةُ التي ذَكَرُوهَا من صفاتِ المعانِي أَثْبَتَهَا اللَّهُ لنفسِه في غيرِ آيةٍ من كتابِه فقالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: الآية ١٠٩] وأثبتَها لبعضِ المخلوقين فقال: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ
_________
(١) في هذا الموضع انقطع التسجيل، والكلام مع ذلك منتظم.
بطرًا وغفلة حتى يهلكهم الله وهم في أشدّ الغفلة.
﴿مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ وقد قدمنا (١) أنّ (حيث) كلمة تدل على المكان كما تدل (حين) على الزمان، وربما ضُمِّنت معنى الشرط، يجوز في اللغة لا في القراءة تثليث فائها وإبدال (يائها) واوًا كما هو معروف في محلِّه.
﴿مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي: من المكان الذي لا يعلمون أنّا سنستدرجهم، بل هم يظنون أن تلك النعم مسابقة لهم في الخيرات، وأنهم ينالون بعد ذلك أحسن منه، كما قال جل وعلا: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَ يَشْعُرُونَ (٥٦)﴾ [المؤمنون: الآيتان ٥٥، ٥٦].
ثم قال جل وعلا: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣)﴾ [الأعراف: آية ١٨٣] عبّر في الفعل الأول بصيغة الجمع للتعظيم قال: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم﴾ وعبّر في الثاني بهمزة المتكلم ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ﴾ ومعنى قوله جل وعلا: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ﴾ أي: سأملي لهم، وأصل مادة (أملى): وأملى يملي أصلها من (المَلاَوَة) بالواو، فلام المادة: واو. والمَلاَوَة: الزمن. ومعنى ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ﴾: أُؤَخِّرهم وأمهلهم مَلاَوَة، أي: زمنًا غير قليل كما هو معروف، فالعرب تقول: «أمليت له» و «أملى له»: إذا أخَّره مَلاَوَة من الزمن، فأصل الياء مبدلة من واو، والمَلاَوَة: هي الزمن، ومنه قوله تعالى عن أبي إبراهيم: ﴿وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾ [مريم: آية ٤٦] أصل إحدى الياءين واو. أي: زمنًا غير قصير. وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول المهلهل يرثي
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٨) من سورة البقرة.
قال بعضُ العلماءِ: ﴿فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ الظاهرُ أنه واحدُ الأمورِ، ولاَ شَكَّ أن في هذه الآيةِ تَهْدِيدًا وتخويفًا لِمَنْ دَامَ على إيثارِه هذه الأشياءَ على الله وعلى رسولِه ﷺ ﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ﴾ جلَّ وعلا ﴿لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾.
مِثْلُ هذه الآياتِ فيه سؤالٌ معروفٌ للعلماءِ، كقولِه: ﴿وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ ﴿لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ فَاللَّهُ (جلَّ وعلا) نَفَى هدايتَه للفاسقين، وَنَفَى هدايتَه للظالمين، مع أَنَّا نُشَاهِدُ بعضَ الفاسقينَ الظالمينَ يَهْدِيهِ اللَّهُ، وَكَمْ مِنْ كافرٍ شديدٍ في الكفرِ، ظالمٍ فاسقٍ يهديه اللَّهُ. هذا وجهُ الإشكالِ.
وأجابَ العلماءُ عن هذا بِجَوَابَيْنِ:
أحدُهما: أن قولَه: ﴿لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾، ﴿لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ من العامِّ المخصوصِ، وأن المرادَ بها الذين سَبَقَ في علمِ اللَّهِ أنهم لا يهتدونَ من الفسَقَةِ وَالظَّلَمَةِ الذين قال اللَّهُ فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ﴾ الآيةَ [يونس: الآيتان ٩٦، ٩٧].
وقال بعضُ العلماءِ: لا يهديهم ما زالوا مُتَّصِفِينَ بالظلمِ والفسقِ، فإذا نَزَعُوا عن ذلك برحمةِ اللَّهِ وهدايتِه زَالَ عنهم اسمُ الفسقِ والظلمِ، فلا مانعَ إذًا من هُدَاهُمْ. هكذا قَالَهُ بعضُ العلماءِ وَاللَّهُ تعالى أعلمُ. وهذا معنَى قولِه: ﴿لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: آية ٢٤].
{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ


الصفحة التالية
Icon