[٦/أ] / ﴿قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ [الأنعام: آية ٥٧].
﴿قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي﴾ لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ نِبِيَّهُ - ﷺ - أن يقولَ للكفارِ: إنه لا يعبدُ معبوداتِهم، ولا يتبعُ أهواءَهم، وأنه لو فَعَلَ ذلك كان ضَالاًّ غيرَ مُهْتَدٍ، أَمَرَهُ أن يقولَ لهم: إنه على بينةٍ من أَمْرِهِ ﴿قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ﴾ البينةُ: هي البيانُ والدليلُ القاطعُ، الذي لا يتركُ في الحقِّ لَبْسًا (١). وأصلُه صفةٌ مشبهةٌ من (بَانَ يَبِينُ)، إذا ظَهَرَ، فهو (بَيِّنٌ). وإنما أُنِّثَتِ (البينةُ) لأنها كأنها تُضَمَّنُ معنَى الحجةِ الواضحةِ التي يُعَضِّدُهَا الدليلُ القاطعُ، الذي لا يتركُ في الحقِّ لَبْسًا ﴿عَلَى بَيِّنَةٍ﴾ أي: بيانٍ وبرهانٍ وعلمٍ ويقينٍ من رَبِّي، وليس لِي في الحقِّ شكٌّ معه، وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، كُلُّ أَمْرٍ واضح لا يتركُ في الحقِّ لَبْسًا يسمونه: (بينةً)؛ ولأجلِ هذا أُطْلِقَتِ (البيناتُ) على معجزاتِ الرسلِ ﴿جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [الأعراف: آية ١٠١] أي: بالمعجزاتِ؛ لأنها لا تتركُ في الحقِّ لَبْسًا. وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ (٢):
أَبَيِّنَةٌ تَبْغُونَ بَعْدَ اعْتِرَافِهِ... وَقَوْلِ سُوَيْدٍ: قَدْ كَفَيْتُكُمُ بِشْرَا
يعني: هذا أمرٌ واضحٌ في البيانِ، لا يُحْتَاجُ معه إلى ما يُبَيِّنُ الحقيقةَ.
_________
(١) انظر: ابن جرير (١١/ ٣٩٧)، القرطبي (٦/ ٤٣٨)، المفردات (مادة: بان) ص١٥٧.
(٢) البيت في ابن جرير (١١/ ٣٩٨).
هذه (١)، فلا يحرم الدم غير المسفوح؛ ولذا أطبق العلماء على أن الحُمْرة التي تَعْلُو القِدْر مِنْ أَثَرِ تقطيع اللحم وهي من الدم أنها مَعْفُوٌّ عنها وليست بنجس؛ لأنها ليست من الدم المسفوح. ويدخل في غير المسفوح: الكبد والطِّحال (٢).
والحاصل أن الذي يظهر من الدم عند تَقْطِيعِ اللحْم وفصل الأعضاء بعضها عن بعض أن جمهور العلماء على أنه ليس بحرام، وليس من المسفوح، وأن الخارج عند الذَّكَاة، أو المُخْرَج من شيءٍ حي، أو عند العقر أنه هو الدم المسفوح.
واختلف العلماء في الدم الذي يَتَجَمَّد في القلب عند ذبح الشاة، والذي ينقع في جوفها خلاف معروف، ومنهم من يقول: هما حلالان، ومنهم من يقول: هما مسفوحان، وفَصَّل علماء المالكية قالوا: الذي يَتَجَمَّد في القلب طاهر؛ لأنه ليس بمسفوح، والذي ينقع في الجوف مَسْفُوح؛ لأنه منعكس إليه من العُرُوقِ التي سُفِحَ منها وقت الذبح، وهذا أظهر، والله تعالى أعلم.
هذا معنى قوله: ﴿إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ﴾ جميع هذه الآيات إنما صرحت بتحريم لحم الخنزير، والخنزير حيوانٌ معروف خسيس قَبَّحَهُ الله. ولم تَتَعَرّض آية من كتاب الله إلى حكم شحم الخنزير، والعلماء مُجْمِعُونَ على أنَّ شَحْمَ الخنزير حكمه حكم لحم الخنزير (٣).
_________
(١) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (١/ ٥٣)، القرطبي (٢/ ٢٢٢).
(٢) انظر: القرطبي (٢/ ٢٢١) (٧/ ١٢٤).
(٣) انظر: مراتب الإجماع ص ١٤٩، أحكام القرآن لابن العربي (١/ ٥٤)، القرطبي (٢/ ٢٢٢).
أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: الآية ٣٤] فيعلمونَ أن قدرةَ اللَّهِ حَقٌّ، وأن للمخلوقِ قدرةً، وأنه لاَ مناسبةَ بينَ قدرةِ الخالقِ وقدرةِ المخلوقِ، فقدرةُ المخلوقِ مُنَاسِبَةٌ لحالِه، وقدرةُ الخالقِ لائقةٌ به (جل وعلا) وبينَ القدرةِ والقدرةِ من المنافاةِ كمثلِ ما بينَ الذاتِ والذاتِ. وكذلك الإرادةُ وَصَفَ اللَّهُ نفسَه بأنه يريدُ قال: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [البروج: الآية ١٦]، ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: الآية ١٨٥] ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢)﴾ [يس: الآية ٨٢].
وَوَصَفَ بعضَ خلقِه بالإرادةِ فقال: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ [التوبة: ٣٢]، ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ﴾ [الصف: الآية ٨] ﴿إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا﴾ [الأحزاب: الآية ١٣] ونحنُ نعلمُ أن لله إرادةً حَقَّةً لائقةً بكمالِه وجلالِه، وللمخلوقِ إرادةٌ مُنْسَفِلَةٌ إلى قدرِ المخلوقِ واللياقةِ بذاتِ المخلوقِ، وبينَ الإرادةِ والإرادةِ كمثلِ ما بينَ الذاتِ والذاتِ مع المنافاةِ.
وكذلك وَصَفَ نفسَه بالحياةِ قال: ﴿اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: الآية ٢٥٥] ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ﴾ [الفرقان: الآية ٥٨] ووصفَ بعضَ خلقِه بالحياةِ فقال: ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ [الروم: الآية ١٩] ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: الآية ٣٠] ﴿وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥)﴾ [مريم: الآية ١٥] فيجزمُ بأن لله حياةً حقيقيةً تليقُ بكمالِه وجلالِه، وللمخلوقِ حياةٌ مناسبةٌ لحالِه، وبينَ حياةِ المخلوقِ وحياةِ الخالقِ من المنافاةِ كمثلِ ما بينَ ذاتِ الخالقِ والمخلوقِ. ووصفَ اللَّهُ نفسَه بالسمعِ والبصرِ قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [لقمان: الآية ٢٨] ﴿وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [الحج: الآية ٦١] {لَيْسَ
أخاه كليبًا (١):
فَتَصَدَّعَتْ صُمُّ الجَبَالِ لِفَقْدِهِ | وَبَكَتْ عَلَيْهِ المُرْمِلاتُ مَلِيَّا |
ومن هنا كانت العرب تقول لليل والنهار: المَلَوَانِ، ومنه قول تميم بن مقبل (٢):
أَلاَ يا ديَارَ الحيِّ بالسَّبُعَان | أملَّ عليها بالبِلَى المَلَوَان |
نَهارٌ ولَيْلٌ دائِمٌ مَلَواهُما | على كُلِّ حالِ المَرءِ يَختَلِفَانِ |
ألمْ ترَ ما لاقيتُ والدَّهر أعصرٌ | ومن يَتَمَلَّ العيش يَرْأَى ويسمعُ |
_________
(١) البيت في القرطبي (١١/ ١١١)، البحر المحيط (٦/ ١٩٥)، الدر المصون (٧/ ٦٠٦). وشطره الأول: «فتصدعت صم الجبال لموته».
(٢) البيت في الطبري (٧/ ٤٢١)، اللسان (مادة: ملا) (٣/ ٥٣٢).
(٣) البيت في اللسان (الموضع السابق).
(٤) البيت في المحتسب (١/ ١٢٩).
جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٢٧)} [التوبة: الآيات ٢٥ - ٢٧].
﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ﴾ اللامُ جوابُ قَسَمٍ محذوف، وَاللَّهِ لقد نصركم اللَّهُ. أي: أعانَكم على أعدائِكم ﴿فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ﴾ أي: في مشاهدَ ومواضعَ كثيرةٍ، كما نصركم يومَ بدرٍ، ويومَ الأحزابِ، ويومَ فتحِ مكةَ، إلى غيرِ ذلك ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ﴾ [التوبة: آية ٢٥] بَيَّنَ اللَّهُ في هذه الآيةِ الكريمةِ أن النصرَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وحدَه، لا بكثرةِ العددِ ولا بكثرةِ العُددِ ﴿كَم مِّنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: آية ٢٤٩] لأن أكثرَ غزاةٍ قبلَ تبوك غزاها النبيُّ ﷺ غزوةُ حُنَيْنٍ، كانوا اثْنَيْ عَشَرَ ألفًا، عشرة آلافِ مقاتلٍ فَتَحَ بهم مكةَ، وألفانِ من مَسْلَمَةِ الفتحِ من قريش وَمَنْ معهم وهم الطلقاءُ. وكان بعضُ العلماءِ يقول: إنه دَخَلَ مكةَ وَفَتَحَهَا بِاثْنَيْ عَشَرَ ألفًا. فيكون المجموعُ: أربعةَ عشرَ ألفًا. ذَكَرُوا أن الصحابةَ قالوا: لن نُغْلَبَ اليومَ من قِلَّةٍ. بعضُهم يقولُ: إن هذه قَالَهَا أبو بكر (رضي الله عنه)، وقيل: قَالَهَا رجلٌ آخَرُ. فَلَمَّا أَعْجَبَتْهُمُ الكثرةُ وأنهم كانوا اثني عشر ألفًا، أو أربعةَ عشرَ ألفًا، وقيل: ستةَ عشرَ ألفًا. وأكثرُ الرواياتِ أنهم كانوا اثْنَيْ عشرَ ألفًا، عشرةُ آلافٍ فَتَحَ بهم مكةَ، وألفانِ من أهلِ مكةَ أَسْلَمُوا وَغَزَوْا معه ﴿فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ﴾ هذه الكثرةُ ﴿شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾ وهذا نَصُّ اللَّهِ فيه على ما وَقَعَ بالمسلمينَ أولَ وقعةِ حُنَيْنٍ، يُبَيِّنُ لهم أن النصرَ من عنده (جلَّ وعلا) وحدَه لاَ مِنْ كثرةِ العددِ والعُددِ.