وقولُه: ﴿وَكَذَّبْتُم بِهِ﴾ ذَكَّرَ الضميرَ مع أن (البينةَ) مؤنثةٌ لفظًا نظرًا إلى المعنى؛ لأن (البينةَ) معناها البيانُ والبرهانُ واليقينُ ﴿وَكَذَّبْتُم بِهِ﴾ أي: ذلك البرهانُ واليقينُ الذي أنا عليه، الْمُعَبَّرُ عنه بالبينةِ، وهذا هو الظاهرُ، خلافًا لمن قال: إن الضميرَ عائدٌ إلى الله، أي: كَذَّبْتُمْ بِاللَّهِ (جل وعلا) أنه المعبودُ وحدَه جل وعلا (١).
﴿مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ كان الكفارُ يقولون للنبيِّ - ﷺ -: هذا الذي تُهَدِّدُنَا به من عذابِ اللَّهِ، إن كنتَ صادقًا، إن كنتَ نَبِيًّا فَعَجِّلْهُ علينا الآنَ (٢). كما بَيَّنَ اللَّهُ ذلك عنهم في آياتٍ من كتابِه، كقولِه: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ﴾ [ص: آية ١٦] والقِطُّ في لغةِ العربِ: أصلُه كتابُ الجائزةِ الذي يكتبُه الْمَلِكُ (٣). فالملكُ إذا أرادَ أن يُجِيزَ الوفودَ كَتَبَ لِكُلِّ رئيسٍ جائزةً معينةً في صَكٍّ، وذلك الصكُّ يُسَمَّى: (القِط). وعليه فقولُهم: ﴿عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا﴾ معناه: عَجِّلْ لنا نصيبَنا من مَلِكِ السماواتِ والأرضِ الذي تقولُ إنه نصيبُنا منه، وهو العذابُ في الدنيا والآخرةِ، كما قال الشاعرُ، وهو نابغةُ ذبيانَ (٤):
_________
(١) انظر: القرطبي (٦/ ٤٣٨)، البحر المحيط (٤/ ١٤٢)، الدر المصون (٤/ ٦٥٧).
(٢) انظر: أسباب النزول للواحدي ص٢١٩.
(٣) انظر: اللسان (مادة: قطط) (٣/ ١١٧).
(٤) البيت للأعشى، وهو في ديوانه ص١١٨، ولفظه في الديوان:
وَلاَ الملكُ النعمانُ يَوْمَ لَقِيتَه | بِإِمّتِهِ يُعْطِي القُطُوطَ ويَأفِقُ |
واستُدِلَّ بهَذَا على بطلان دَعْوَى ابن حزم أنه لا يحرم شيءٌ إلا ما نَصّ الله على تحريمه؛ لأن ابن حزم تَوَسَّع توسعاً شنيعاً اجتنى به على الشرع، مع عِلْمِه وقوة ذهنه، وزعم أن كل ما [لم ينص] (١) الله على أنه حرام أنه لا يمكن أن يكون حرامًا، ومن هنا حمل على الأئمة - رضي الله عنهم وأرضاهم- مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، وغيرهم من فقهاء الأمصار، وتكلم عليهم كلاماً شديداً شنيعاً غير لائق، وزعم أنهم مشرعون، يشرعون من تلقاء أنفسهم، ولما احتُج عليه بإجماع العلماء على أن شحم الخنزير حرام، والله لم يذكره في كتابه قياساً على لحْمِهِ الذي نُصَّ على تَحْرِيمِهِ، أجاب ابن حزم عن هذا بأن قال: الضمير في قوله: ﴿فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ عائد على الخنزير، فيدخل فيه شحمه ولحمه (٢).
وخالف في هذا القاعدة العربية المعروفة؛ لأن الضمائر في الأصل إنما تَرْجِعُ للمضاف لا المضاف إليه؛ لأن المضاف هو المُحَدَّث عنه (٣)، فلو قلت: جاءني غلامُ زيدٍ فأكْرَمْتُه، يتبادر أن المُكْرَم هو الغلام لا نفس زيد، وكذلك قوله: ﴿لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ﴾ أي: لحم الخنزير؛ لأنه هو المُحَدَّث عنه.
وربما رجع الضمير على المضاف إليه نادراً (٤)، وجاء في
_________
(١) في الأصل: «ما نص» وهو سبق لسان، والصواب: أن كل ما لم ينص... إلخ.
(٢) انظر: المحلى (٧/ ٣٩٠ - ٣٩١).
(٣) انظر: البحر المحيط لأبي حيان (٤/ ٢٤١)، البرهان للزركشي (٤/ ٣٩)، الإتقان (٢/ ٢٨٤)، الكوكب الدري ٢٠٢، مختصر من قواعد العلائي ١٠١، الكليات ١٣٤ - ١٣٥، ٥٦٩، قواعد التفسير (١/ ٤٠٢).
(٤) انظر قواعد التفسير (١/ ٤٠٣).
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: الآية ١١] ووصفَ بعضَ خلقِه بالسمعِ والبصرِ قال: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (٢)﴾ [الإنسان: الآية ٢] ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا﴾ [مريم: الآية ٣٨] فلله سمعٌ وبصرٌ حقيقيانِ لائقانِ بكمالِه وجلالِه، وللمخلوقِ سمعٌ وبصرٌ لائقانِ بحالِه، وبينَ سمعِ الخالقِ وبصرِه ومسمعِ المخلوقِ وبصرِه من المنافاةِ كمثلِ مَا بَيْنَ ذاتِ الخالقِ والمخلوقِ. ووصفَ نفسَه (... ) (١).
وبينَ كلامِ الخالقِ والمخلوقِ من المنافاةِ كمثلِ ما بينَ ذاتِ الخالقِ والمخلوقِ. هذه صفاتُ المعانِي السبعُ.
وكذلك المعنوياتُ التي هي كونُه قادرًا مُرِيدًا حَيًّا سميعًا بصيرًا، إنما يُثْبِتُونَهَا صفاتٍ على ما يسمونَه (الحال) وهم يزعمونَ أن الحالَ المعنويةَ أمرٌ ثُبُوتِيٌّ غيرُ موجودٍ ولا معدومٍ!! وهو من خيالاتِ المتكلمين التي لا أساسَ لها؛ لأن عامةَ العقلاءِ يعلمونَ أنه لا واسطةَ بينَ النقيضين، وأن كُلَّ ما ليس بموجودٍ فهو معدومٌ، وما ليس بمعدومٍ فهو موجودٌ، وهذا مما لا يَشُكُّ فيه عاقلٌ. وزعمُهم أن الحالَ واسطةٌ ثبوتيةٌ، لا هي معدومةٌ على الحقيقةِ، ولا هي موجودةٌ على الحقيقةِ من الخيالاتِ الوهميةِ التي لاَ أساسَ لها، بل كونُه قادرًا مُرِيدًا حَيًّا متكلمًا سميعًا بصيرًا هو معنَى كيفيةِ الاتصافِ بالقدرةِ والإرادةِ والعلمِ.
_________
(١) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وقد ذهب بسببه كلام طويل تجد نظائره في مواضع متعددة من هذا التفسير، ومن ذلك ما ذكره عند تفسير الآية (١٥٨) من سورة الأنعام، وكذا ما ذكره في محاضرته في الأسماء والصفات.
﴿وَأُمْلِي لَهُمْ﴾، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) أنّ النبي ﷺ قال: «إن الله ليملي للظالم» يعني: يمهله ويؤخره ملاوة من الزمن «حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢)﴾ (١) [هود: آية ١٠٢].
قوله: ﴿إِنَّ كَيْدِي﴾ الكيد: في لغة العرب معناه: المكر، وهو أن يكون الفاعل يبطن غير ما يظهر، وسمى الله هذا الاستدراج كيدًا لأن ظاهره إنعام وإغداق نعم وباطنه استدراج يستدنيهم به ويستدرجهم إلى الموت والعذاب الدائم الذي يخلدون فيه، ولذا قال: ﴿إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ أي: استدراجي لهم بالنعم التي تبطرهم وتزيدهم غفلة وبطرًا وتكبرًا عن قبول آيات الله، حتى يهلكوا وهم في أشد حالة من الحالات كفرًا؛ هذا الكيد كيد الله (جل وعلا) ووصفه بأنه متين، والمتين من كل شيء: القوي الشديد القوة، وكيد الله (جل وعلا): متين، وكيد الله (جل وعلا) من أحسن ما يكون، واقع موقعه، تصرف حكيم خبير، حيث أغدق النعم على هذا الكافر فغفل فأخذه في غرّة وغفلة، وعامله بما يستحقه من كفره، وهذا معنى قوله: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣)﴾.
﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ﴾ [الأعراف: آية ١٨٤] قد تكلمنا مرارًا على الواو والفاء وثم إذا جاءت بعد همزة الاستفهام (٢) ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ﴾ يعني: يُعملوا أفكارهم، التفكر: هو أنْ يُعمل الإنسان فكره حتى يدرك حقيقة الشيء.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٢) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٧٥) من سورة البقرة.
ونحن دائمًا في هذه الدروسِ إنا جاءت غزوةٌ من مَغَازِي رسولِ الله ﷺ في الآياتِ القرآنيةِ نُفَصِّلُهَا ونذكرُ تفاصيلَها لتمامِ الفائدةِ كما أَوْضَحْنَا فيما مَضَى غزوةَ أُحُدٍ في سورةِ آلِ عمرانَ، وغزوة [بدر] (١) في سورةِ [الأنفال] (٢)، وسيأتِي في سورِ القرآنِ العظيمِ أكثرُ مغازيه صلى الله عليه وسلم.
وهذه الغزوةُ التي أَشَارَ لها اللَّهُ هنا وَبَيَّنَ أن الصحابةَ أَعْجَبََتْهُمْ كثرتُهم فيها، وأن كثرتَهم لم تُغْنِ عنهم شيئًا، وأنهم ضَاقَتْ عليهم الأرضُ بما رَحُبَتْ ثم وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، هي غزوةُ حُنَيْنٍ، وسنشيرُ الآنَ إلى هذه الغزوةِ ونذكرُ تفاصيلَها.
أما حنين فهو وَادٍ من أوديةِ تِهَامَةَ بينَ مكةَ والطائفِ غيرُ بعيدٍ من ذِي المجازِ، وأما الذين غَزَاهُمْ فَهُمْ هوازنُ، وهوازنُ قبيلةٌ من قبائلِ قيسِ عيلانَ بنِ مضر؛ لأن هوازنَ هو ابنُ منصورِ بنِ خصفةَ بنِ عكرمةَ (٣) بنِ قيسِ عيلانَ بنِ مُضَرٍ.
قال بعضُ أصحابِ المغازي وَالسِّيَرِ (٤): لَمَّا سمع هوازنُ بخروجِ النبيِّ ﷺ من [المدينة] (٥) ظَنُّوا أنه يقصدُهم في غزاةِ الفتحِ فتجمعوا، جَمَعَهُمْ رئيسُهم في ذلك الوقتِ، ورئيسُهم في ذلك الوقتِ مالكُ بنُ عوفٍ النصريُّ من بَنِي نصرِ بنِ بكرِ بنِ هوازنَ. ثُمَّ لَمَّا بَلَغَهُمْ أن النبيَّ ﷺ فَتَحَ مكةَ جَمَعَهُمْ مالكُ بنُ عوفٍ وعزموا على مقاتلةِ
_________
(١) في الأصل: «الأنفال». وهو سبق لسان.
(٢) في الأصل: «بدر». وهو سبق لسان.
(٣) في ابن هشام (١/ ١٧٦) ابن عكرمة بن حصفة.
(٤) السابق ص١٢٨٣.
(٥) في الأصل: «مكة». وهو سبق لسان.