وَلاَ الْمَلِكُ النُّعْمَانُ حِينَ لَقِيتَهُ عَلَى مُلْكِهِ يُعْطِي الْقُطُوطَ وَيَأْفِقُ
ومعنى (يَأْفِقُ) أي: يُفَضِّلُ في العطاءِ بعضَهم على بعضٍ ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: آية ٣٢] ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ﴾ [هود: آية ٨] أَيُّ شيء يحبسُ العذابَ ويؤخرُه، ولِمَ لا تُعَجِّلُهُ؟ وَاللَّهُ يقولُ: ﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ﴾ [العنكبوت: آية ٤٥] ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا﴾ [الشورى: آية ١٨] ونحو ذلك من الآياتِ الدالةِ على استعجالِهم العذابَ (١)، وقالوا له: إِنْ كنتَ نَبِيًّا حَقًّا فَعَجِّلْ لنا العذابَ الذي تُهَدِّدُنَا به، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أن يقولَ لهم: ﴿مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ (ما) وهو الاسمُ المبهمُ الموصولُ واقعةٌ على العذابِ، والمعنَى: ليس بِيَدِي العذابُ الذي تطلبونَ استعجالَه عليكم ﴿عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا﴾ [ص: آية ١٦] لَيْسَ بِيَدِي، وإنما هو بِيَدِ اللَّهِ.
﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ قرأ هذا الحرفَ قارئُ أهلِ المدينةِ، وقارئُ أهلِ مكةَ - أعني: نافعًا وابنَ كثيرٍ - وقرأ معهما عاصمٌ من الكوفيين، هؤلاء الثلاثةُ من القراءِ السبعةِ - أعني: نافعاً وابنَ كثيرٍ وعاصمًا - قرؤوا: ﴿يَقُصُّ الْحَقَّ﴾ بِضَمِّ القافِ، وصادٍ مهملةٍ مضمومةٍ. وقرأ باقي السبعةِ - وهم: أبو عمرو وابنُ عامرٍ وحمزةُ والكسائيُّ - قرؤوا: ﴿يقْضِ الحق﴾ بسكونِ القافِ والضادِ المكسورةِ (٢).
_________
(١) انظر: أضواء البيان (٢/ ١٩٤، ٤٩٠)، (٣/ ٧٨)، (٥/ ٧١٦)، (٧/ ٢٣).
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ص ١٩٥.
القرآن رجوع الضمير إلى المضاف إليه لكن مع قرائن تدل على ذلك، كقوله: ﴿لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (٣٦) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ﴾ [غافر: الآيتان ٣٦، ٣٧] أي: موسى، وهو المضاف إليه هنا، فهذا قد يقع، وجاء في القرآن قليلاً، إلا أن القرينة تُعَيِّنُه، أما الأصل اللغوي العَرَبِي فهو رجوع الضمائر والإشارات إلى المُضَاف لا المضاف إليه، وإتيان الأحوال من المضاف لا المضاف إليه، إلا إذا كان عاملاً فيه، أو جزءاً منه، أو كجزءٍ منه، كما هو معروف في النحو.
والحاصل أن القرآن سكت عن شحم الخنزير وحَرَّمَ لحْمَهُ، وأجمع العلماء على تحريم شَحْمِهِ قياساً على لحمه، وفيه أمور كثيرة يغلط فيها ابن حزم ومن وافقه من المتشددين؛ لأنه في الآونة الأخيرة صار يطلع طلبة علم صغار قليلة بضاعتهم من العلم، ينظرون شيئاً قليلاً من الحديث، ويطعنون في الأئمة -رضي الله عنهم وأرضاهم- ويقولون: قال في الحديث الفلاني، وشرعوا من أنفسهم اعتماداً على كتب ابن حزم، وكل هَذَا غَلَطٌ، وكثير من الأشياء يَدَّعِي ابْنُ حَزْمٍ أنَّ اللهَ سَكَت عنها، وأن الوحي لم يَتَعَرَّضْ لها، ويستدل بحديث: «إن اللهَ أبَاحَ أشْيَاء، وحَرَّمَ أشْيَاء، وسَكَتَ عَنْ أشْيَاء لا نِسْيَاناً، فَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عفْوٌ» (١)
فيدعي أنه سكت
_________
(١) ورد في هذا المعنى عدة أحاديث، وهي وإن كانت لا تخلو من ضعف إلا أن بعضها يتقوى بغيره، والله أعلم، فمنها:
١ - حديث سلمان (رضي الله عنه) (مع الخلاف في رفعه ووقفه) عند الترمذي في اللباس، باب ما جاء في لبس الفراء، حديث رقم: (١٧٢٦)، (٤/ ٢٢٠)، وابن ماجه في الأطعمة باب أكل الجبن والسمن، حديث رقم: (٣٣٦٧)، (٢/ ١١١٧)، والحاكم (٤/ ١١٥)، والبيهقي (٩/ ٣٢٠)، (١٠/ ١٢). وانظر: صحيح الترمذي (٢/ ١٤٥)، وصحيح ابن ماجه (٢/ ٢٤٠)، غاية المرام ص ١٥، المشكاة (٢/ ١٢٢٠).
٢ - حديث أبي ثعلبة الخشني (رضي الله عنه) (مع الخلاف في رفعه ووقفه) عند الدارقطني (٤/ ١٨٤)، والحاكم (٤/ ١١٥)، والبيهقي (١٠/ ١٢ - ١٣)، وانظر مجمع الزوائد (١/ ١٧١)، وهو أضعف هذه الأحاديث.
٣ - حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عند الدارقطني (٤/ ٢٩٧ - ٢٩٨) والبزار كما في (كشف الأستار (٣/ ٨٥، ٣٢٥)، والحاكم (٢/ ٣٧٥)، والطبراني في الصغير (٢/ ١٢٢). وانظر: مجمع الزوائد (١/ ١٧١)، (٧/ ٥٥، ٢٠٨)، وقد حَسَّنَهُ الألْبَانِي في غاية المرام ص١٤.
والصفاتُ التي يسمونَها (سلبيةً)، معناها عندهم: هي الصفةُ التي لم تَدُلَّ على معنًى وجوديٍّ بالوضعِ، فالصفةُ عندهم إما أن تدلَّ على معنًى وجوديٍّ بدلالةِ المطابقةِ فهذه صفةُ معنًى كالقدرةِ؛ لأنها صفةٌ تدلُّ على معنًى، وهي المعنَى القائمُ بالذاتِ التي يَتَأَتَّى به إيجادُ الممكناتِ وإعدامُها على وَفْقِ الإرادة.
أما إذا كانت الصفةُ لا تدلُّ بدلالةِ المطابقةِ على معنًى وجوديٍّ وإنما تدلُّ على عَدَمٍ مَحْضٍ وهو عدمُ مَا لاَ يليقُ بِاللَّهِ عن اللَّهِ هذه التي يسمونَها السلبيةَ وهم يقسمونَها إلى خمسِ صفاتٍ: القِدَم والبقاءِ والمخالفةِ للخلقِ والوحدانيةِ والغِنَى المطلقِ الذي يسمونَه (القيامَ بالنفسِ) وهو الاستغناءُ عندَهم عن المحلِّ والمُخَصَّصِ، كما هو معروفٌ في فَنِّ الكلامِ. فنقولُ: إن القِدَمَ والبقاءَ الذين وَصَفَ بهما المتكلمونَ اللَّهَ زاعمينَ أن اللَّهَ وصفَ بهما نفسَه في قولِه: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ﴾ [الحديد: الآية ٣] جاء وصفُ المخلوقِ بهما، قال اللَّهُ في وصفِ المخلوقِ بالقِدَمِ: ﴿حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾ [يس: الآية ٣٩] ﴿إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ﴾ [يوسف: الآية ٩٥] ﴿أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦)﴾ [الشعراء: الآية ٧٦] وقال في وصفِ الحادثِ بالبقاءِ: ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ (٧٧)﴾ [الصافات: الآية ٧٧] ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ [النحل: الآية ٩٦] فلو قَدَّرْنَا أن القِدَمَ يجوزُ إطلاقُه لِلَّهِ كما ذهبَ إليه جماعةٌ من العلماءِ، ويدلُّ عليه حديثُ أبِي داودَ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَبِسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» (١) لأن القِدَمَ يُطْلَقُ في اللغةِ: على ما له زمنٌ كثيرٌ وإن كان مَسْبُوقًا بِعَدَمٍ، وهو في اصطلاحِ المتكلمينَ لاَ يُطْلَقُ إلا على سَلْبِ
_________
(١) سيأتي تخريجه عند تفسير الآية (٩٩) من هذه السورة.
﴿مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ﴾ المراد بـ (صاحبهم) نبينا محمد ﷺ و (الجِنَّة) معناه: إصابة الجنون، معناه: أن محمدًا ﷺ ليس بمجنون، فإنهم لو تفكروا وأعملوا أفكارهم وعقولهم علموا أنَّه (صلوات الله وسلامه عليه) بعيد غاية البعد من الجنون، وأنه تام العقل، رصين العقل، يدعو إلى أحسن الطرق وأعظمها وأبينها، فليس به جنة، وهذا معنى قوله: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ﴾ أولم يتفكر هؤلاء الكفار المكذبون الزاعمون أنّ رسول الله ﷺ مجنون. ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ﴾ ويُعملوا أفكارهم ويرجعوا إلى عقولهم فيتحققوا أن صاحبهم ما به من جنة، ليس به جنون، بل هو (صلوات الله وسلامه عليه) بعيد من الجنون تام العقل، رؤوف رحيم بهم، يدعوهم إلى السعادة الأبدية، وصلاح الدنيا والآخرة.
قال بعض العلماء: صعد ﷺ على الصفا ودعا قبائل قريش، فدعاهم فخذًا فخذًا، وحذرهم عذاب الله ونقم الله، وقال واحد منهم: إن هذا لمجنون. فأنزل الله: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ﴾ (١). وهذا الجنون الذي رَمَوْهُ بِهِ نفاه الله عنه في آيات كثيرة كقوله تعالى: ﴿مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢)﴾ [القلم: آية ٢] ﴿فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ﴾ [الطور: آية ٢٩] ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (٤٦)﴾ [سبأ: آية ٤٦] فهذا معنى قوله: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (١٨٤)﴾
_________
(١) أخرجه ابن جرير (١٣/ ٢٨٩)، وابن أبي حاتم (٥/ ١٦٢٤) عن قتادة مرسلاً. وأورده السيوطي في الدر (٣/ ١٤٩)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فسمع النبيُّ ﷺ بأخبارِهم فأرسلَ إليهم عبدَ اللَّهِ بنَ أبي حدردٍ الأسلميَّ (رضي الله عنه) عَيْنًا يعرفُ له أخبارَهم، فدخلَ في القومِ مُخْتَفِيًا وسمع أخبارَهم، وعرفَ أنهم عازمونَ على حربِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وكان النبيُّ ﷺ قد فَتَحَ مكةَ في رمضانَ من سنةِ ثَمَانٍ.
قال بعضُ أصحابِ المغازي (١): فَتَحَهَا لعشرينَ خَلَتْ من رمضانَ وعشرٍ بَقِيَتْ، وأنه أقامَ العشرَ الأواخرَ من رمضانَ بمكةَ بعدَ أن فَتَحَ مكةَ وخمسَ ليالٍ من شوالٍ، ثم غَزَا بعدَ خمسَ عشرةَ ليلةً من فَتْحِهِ مكةَ غَزَا هوازنَ بِاثْنَيْ عشرَ ألفًا من أصحابِه، عشرة آلاف الذين فَتَحَ بهم مكةَ، والألفانِ الذين أَسْلَمُوا وخرجوا غَازِينَ معه من الطلقاءِ أهلِ مكةَ، ثم إن النبيَّ ﷺ سَمِعَ بأن هوازنَ تَجَمَّعُوا له في وادي حُنَيْنٍ فَقَصَدَهُمْ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) وقد صَلَّى (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) الصبحَ، وفي مخرجِه هذا من مكةَ إلى حنينٍ. مَرَّ بذاتِ أنواطٍ، وهي سدرةٌ خضراءُ كبيرةٌ كان المشركونَ يَأْتُونَهَا يومًا مِنَ السنةِ يذبحونَ عِنْدَهَا، ويعكفونَ عندها، ويعلقونَ عليها سلاحَهم تُسَمَّى «ذَاتَ أَنْوَاطٍ» وكان كثيرٌ مِمَّنْ معه حديثُ عهدٍ بالإسلامِ، فقالوا له: يا نَبِيَّ اللَّهِ اجْعَلْ لنا ذاتَ أنواطٍ كما لهم ذاتُ أنواطٍ. فقال (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه): "اللَّهُ أَكْبَرُ قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى: ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ " [الأعراف: آية ١٣٨] (٢) وكان العباسُ بنُ مرداسٍ السلميُّ
_________
(١) السابق ص١٢٨٢.
(٢) أخرجه أحمد (٥/ ٢١٨)، وعبد الرزاق (٢٠٧٦٣)، وابن أبي عاصم في السنة (٧٦)، والترمذي في الفتن، باب ما جاء «لتركبن سنن من كان قبلكم» حديث رقم: (٢١٨٠) (٤/ ٤٧٥)، والحميدي (٨٤٨)، والطيالسي (١٣٤٦)، والطبراني في الكبير (٣٢٩٠، ٣٢٩٤)، وابن حبان (الإحسان ٨/ ٢٤٨)، وابن نصر في السنة ص١٦، ١٧، وابن جرير (١٣/ ٨١، ٨٢).